Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجميع يدرك أن السودان على شفا جرف ولا أحد يستدبره

غير خاف أن تجارة التجزئة في قسمة السلطة والثروة أنهكت المواطنين بينما يستغيثون من مآل انفصال "الجنوب"

متظاهرات يرفعن لافتات يطالبن عبرها بتحقيق التنمية المستدامة واقتصاد مستقل في العاصمة السودانية  (أ ف ب)

العبارة الأكثر دوراناً في خطاب الأزمة السودانية هي التصارخ بأن بلادنا على "شفا جرف هار". وربما صح، والمتصارخون كل في شغل بمشروعه الصغير، قول عن الإنجليزية: "كلهم يدرك أنهم على شفا جرف هار ولكن ليس بينهم من استدبره". 

 المخافة على السودان مما يلبد سماء وحدته حق. ففشا تلويح الإقليم السوداني منه بأنه سيطالب بتقرير مصيره إذا لم ينل مطلوبه من المركز. وبالنتيجة فإشفاق الناس من انفراط البلد مما لا سبيل للتهوين منه، فقد شهد انفصال جنوب السودان في 2011 بعد اتفاق في 2005 منحه حق تقرير مصيره إن لم تكن فترة الحكم الانتقالي، التي تم فيها تمثيله فيها بشكل واسع جاذبة. ولماذا نذهب بعيداً في الماضي. فعلى أيامنا هذا تسيطر الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح عبدالعزيز الحلو) على قسم كبير من جبال النوبة (40 ميلاً × 90 ميلاً مربعاً). وتتوعد من فوق أرضها المحررة بالانفصال إذا لم تعلن الدولة علمانيتها صراحة. ويتواتر خبر مطلب تقرير المصير الآن بصورة أو بأخرى من أقاليم لم يعرف عنها هذا النازع من قبل مثل أجزاء كبيرة من شرق السودان والإقليم الشمالي.

وجدت هذه القوى المستدبرة لمركز الدولة (centrifugal) خلال اتفاق سلام جوبا في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وذيوله السياسية التي تضرج بعضها بالدم، سبباً لإعلان زهدها في السودان. فحصلت بالسلام حركات مسلحة من دارفور لا تمثل أكثر من خمسة في المئة من سكان دارفور نفسها وحلفاؤها السياسيون من أقاليم أخرى على مكاسب غراء تدعو للحسد فعلاً. 

غطى هذا السلام بالتجزئة على استراتيجية مهجورة هي السلام إجمالياً. فرهنت الاستراتيجية الأخيرة إحلال السلام في السودان بمؤتمر دستوري جامع يعيد فيه السودانيون التفاوض في وطن موروث من الاستعمار بعلاته. وقد تواثقت على قيام ذلك المؤتمر الحكومة والقوى السياسة بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد جون قرنق) في 1989. واستبعدت الجبهة الإسلامية القومية نفسها من الترتيبات لعقد المؤتمر لاعتراضها عليه. فوصفته بالاستسلام لحركة "التمرد" وتقصد بها حركة القوميين الجنوبيين بقيادة قرنق. ومعلوم بالطبع قيام تلك الجبهة بالانقلاب على الحكومة الديمقراطية في يونيو من نفس السنة المزمع فيها عقد المؤتمر الدستوري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

توقف مشروع المؤتمر الدستوري بالطبع واستبدلته حكومة الإنقاذ التي أنشأها الانقلاب بالتفاوض المباشر مع الحركة الشعبية. وشنت جنباً إلى جنب مع التفاوض حرباً ضروساً ضد "التمرد" لفرض شروطها للسلم عليه. ولم تكن الإنقاذ في أفضل أحوالها السياسية ووسط مقاطعة أميركية وغربية حين تراضت مع "التمرد" على اتفاق السلام الشامل في 2005. ولم ينل به "التمرد" شراكة مرموقة مع الإنقاذ في حكومة الفترة الانتقالية وحسب، بل حصل أيضاً على حق تقرير المصير كما تقدم. وكان طبيعياً أن يثير اتفاق الجنوب الحسد السياسي في دارفور التي ربما كانت طلائعها هي الأنشط في دولة الإنقاذ نفسها. فخرجت حركاتها المسلحة على النظام في 2004. وتبعتها حركات مسلحة من شرق السودان. ومنعاً للتطويل تعاقدت دولة الإنقاذ على السلام مع تلك الحركات، والغالب مع طوائف انقسمت عليها، كل يأتيها فرداً.

 لم ترغب حكومة الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 أن ينعقد السلام مع الحركات المسلحة بالتجزئة. فدعت إلى مؤتمر للسلام شمل المسلحين جميعاً، متفائلة أن يكون لسقوط النظام الذي نهضت الحركات ضده فعل سحره فيهم. ولما انحصر المؤتمر على الحركات المسلحة قصر من دون أن يكون دستورياً في معنى توافد جهات البلد جميعاً إليه مسلحة وغير مسلحة. ومع ذلك لم تستجب للحكومة سوى بعض حركات دارفور للتفاوض المفضي لاتفاق السلام بينما تغيبت حركة في مقام الحركة الشعبية (الحلو) منه. وزاد الطين بلة أن حركات دارفور استصحبت معها في التفاوض حلفاء لها من أنحاء السودان حصلوا على مكاسب لأقاليمهم هنا وهناك في ما عرف بـ"المسارات". ولم يكن من وقعوا على هذه المسارات مفوضين من أقاليمهم مما أثار الثائرة على اتفاق جوبا. وبالنتيجة لم يرخ اتفاق السلام ظله على الأمة. وكان فتنة تسببت في مواجهات وقعت بين من ميزهم الاتفاق بالتوقيع ومن جرى التوقيع من وراء ظهورهم. وسقط المئات ضحايا لهذه المواجهات في شرق السودان وإقليم النيل الأزرق.   

ليس السودان بدعاً في مشيه على شفا حفرة. وكانت النجاة عند غيرنا في استدبار الجرف الهاري لا التصارخ، فقد وقفت أميركا يوم مولدها عند شفا الحفرة وعبرتها بسلام آمنين. ورأى ألكس توكفيل مؤلف "الديمقراطية الأميركية"، في اجتيازها الحفرة لحظة جليلة فاقت يوم استقلالها عن إنجلترا نفسه. فلا سؤدد خاص لأميركا، في قوله، في التحرر من الاستعمار. سبقتها إليه دول وتبعتها دول، بل قال توكفيل إن سرديتها عن استقلالها لم تخل من قليل من المبالغة. فما استحق تمييز الولايات المتحدة عنده هو حلها لدولتها الكونفدرالية حين وقف حمارها في العقبة، ودعوتها لإعادة النظر في تكوينها بانعقاد المؤتمر الدستوري في 1786. فقال: 

ولكنه من الطارف في تاريخ المجتمعات أن ترى أمة عظيمة تنظر ببرود إلى نفسها بعين فاحصة حين اتفق لمشرعيها أن عجلة الحكومة الاتحادية قد وحلت. من الطارف أن نرى مثل هذه الأمة تفحص مقدار الشر الذي اكتنفها بعناية، وأن تنتظر بصبر لعامين طوال حتى وجدت الدواء للداء الذي تبلغته بغير أن تكلف الإنسانية قطرة من دمع أو دم".    

كانت الولايات المتحدة قامت بعد استقلالها على نظام كونفدرالي السلطان كله للولايات. فليس للحكومة في مركزها سلطان تنفيذي أو قضائي أو مالي. فلا تخويل لها لفرض الضرائب. ولا جيش لها. وتستدعي، متى احتاجت لدفع عدو، ميليشيات الولايات. وبلغت الحكومة الكونفدرالية مبلغاً من الفشل لم تصمد بوجه الهنود الحمر وفشلت في دفع الديون التي عليها من زمن الحرب للاستقلال.  

فاتفق لقادة أميركا والحال كتلك حل الكونفدرالية والدعوة للمؤتمر الدستوري (1786-1788) لإقامة "اتحاد أكثر إتقاناً" كما تجري العبارة. فجلسوا لعامين خوضاً في صناعة دستور يكفل متانة الاتحاد الفيدرالي ويحفظ للولايات هوياتها. وخرجوا بالدستور الحالي الذي المساومة لحمته وسداه. فأزالوا مثلاً مخاوف الولايات الصغيرة من تغول الولايات الكبيرة غزيرة العدد بأن جعلوا للتشريع مجلسين. يقترع الأميركيون لمجلس نيابي تقررت مقاعده على بينة السكان في حين جعلوا التمثيل في مجلس الشيوخ على السوية، أي إن لكل ولاية، كبرت أم صغرت، نفس عدد الشيوخ. ومنعاً لغلبة الجمهرة الغزيرة في انتخاب رئيس الجمهورية تواضعوا أن يكون انتخابه عن طريق كليات انتخابيه لا طبقاً لقاعدة لكل مواطن صوت. ويريد الديمقراطيون حالياً مراجعة هذا العرف لأنهم ما نالوا أغلبية الأصوات عدداً لرئاسة الجمهورية حتى جاءت الكليات الانتخابية بالجمهوريين في مثل فوز دونالد ترمب على هيلاري كلينتون في 2016.
غير خاف أن تجارة التجزئة في قسمة السلطة والثروة أنهكت السودانيين حتى بدا لأقوامها أن أهدى السبل أن يتفرقوا أيدي سبأ. وهي خطة عجز. فتجدهم يستغشون بثيابهم من عظة ما انتهى إليه جنوب السودان بعد انفصاله من عنف للإخوة الأعداء غير مسبوق، كما يتغاضون عن أن السودان بحدوده الحالية حقيقة فيزيائية وديموغرافية وتاريخية مذ كان. لربما أضاف أرضاً وبشراً، أو ربما نقص منه بشر وأرض هناك، ولكنه كيان تاريخي سيكون انعقاده على العروة الوثقى بواسطة مؤتمر دستوري جامع أقل تكلفة من المغامرات اليائسة التي تتصارخ لتفكيكه. فتحدي المشي الخطر على شفا جرف هار في موهبة استدباره.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء