دخلت الولايات المتحدة عملياً في الثامن عشر من يونيو (حزيران) في جنون الحملة الانتخابية لاختيار من يكون سيّد البيت الأبيض في السنة 2020. الرئيس الجمهوري دونالد ترمب يخوضها رسمياً بمنطق "الكاسب" واعداً مؤيديه بالفوز، ويعبّر عن ذلك باقتناع لا يعرف الشك. صحيح أن 18 شهراً تفصل عن موعد تلك الانتخابات، لكن في رأي خبراء اقتصاديين أن سيّد البيت الأبيض، ما لم يتورط في نزاع خارجي، فإن فرص إعادة انتخابه كبيرة. ويعزو هؤلاء توقعهم إلى النتائج المؤاتية، فالاقتصاد الأميركي يواصل للسنة العاشرة على التوالي نمواً واضحا، في حين يحتفظ ترمب بدعم شعبي، وإن لم يكن كبيرا، لكنه ثابث بحسب استطلاعات الرأي، وما زال يسيطر على معسكره الجمهوري في وجه معسكر ديمقراطي منقسم.
عبد العظيم الأموي، المتخصّص في أسواق المال ورئيس أبحاث السوق في "تيتشين"، أحد الذين يرون أن الاقتصاد قد يكون ورقة قوية في يد دونالد ترمب. يقول لـ"اندبندنت عربية" إنه "إذا أخذنا مثلاً بعض المؤشرات التي يمكن الكلام عليها، منها معدلات البطالة التي انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ العام 1960. فمع سلفه باراك أوباما، لم تنزل عن 5%. أما في عهد ترمب فوصلت إلى 3.6%. وفي سوق العمل التي تُعدّ معبّرة، شهد معدل الأجور ارتفاعاً واضحاً ومستمراً بمعدل 3.4% وهذه نقطة إيجابية. أما بالنسبة إلى نمو الناتج القومي، فهنالك ارتفاع واضح في العامين الأخيرين. أما العامل الثالث فهو أسعار الأسهم وارتفاعاتها. فإذا أخذنا مؤشر داو جونز، لم يرتفع خلال فترة أوباما عن عتبة 20 ألف نقطة، لكن مع ترمب وصل إلى 26 ألف نقطة وأكثر"، ورأى أن نجاحه الأبرز كان في تخفيضه الضرائب على الشركات من 35% إلى 21%.
الاقتصاد والسياسة
سر هذا النجاح إذن هو "Trumponomics" أو "الاقتصاد على طريقة ترمب"، ويشرحها مطلقو التسمية بأنها "مزيج من توجهات اقتصادية حادة وخيارات استراتيجية جذرية، كالصيغة التي وضعها سلفاه الجمهوري رونالد ريغان، وأطلق عليها Reaganomics ، والديمقراطي بيل كلينتون Clintonomics. الأول بنى نهجه الاقتصادي في الثمانينيات من جهة على إصلاح ضريبي كبير، مع خفض للضرائب كان مفتاح دعم الاقتصاد. ومن جهة أخرى، على "حرب النجوم"، وهي المواجهة التي حققت له الفوز على الاتحاد السوفييتي آنذاك. أما بالنسبة إلى كلينتون، فقد بنى سياساته الاقتصادية في التسعينيات من خلال أخذ زمام مبادرة الاعتناء بالأسواق المالية وبـ"وول ستريت" تحديدا، حتى أنه تحدّث في ذلك الوقت عن قيام "رأسمالية شعبية". وفي المقابل، حقّق سياسة الانفتاح والتجارة الحرة الخارجية.
من خارج المؤسسات
ويرى "الأموي" في موضوع المقارنة بين ترمب وسلفيه، أنه "عندما وصل إلى الرئاسة، لم يكن ضمن المؤسسات الراسخة في الولايات المتحدة ولا وجهاً مألوفاً في المؤسسة السياسية، فقد أتى من خلفية تتعلق بالمال والأعمال، ولذلك فإن سلوكه خلال الأعوام الماضية كان غير تقليدي، كاتّخاذه قرارات تميزت بجرأة شديدة، وكذلك في مسألة التصعيد والحرب والتغيير في المواقف التي بدت صادمة"، ويضيف "إذا أخذنا فقط شهر يونيو (حزيران) فيما يتعلق بالحرب التجارية مع الصين، كان لديه تصريح صادم قبل نحو أسبوعين فيما يتعلق بلقاء الرئيس الصيني، لكنه بعد الاجتماع الذي دام 80 دقيقة، زال الاحتقان فجأة، ما يعني أنه يعتمد على تكتيكه الخاص بالتفاوض على الأعمال، أكثر منه في السياسة. كذلك، في الداخل، لم نشهد منذ نحو 50 عاماً هجوماً عنيفاً على الاحتياطي الفيدرالي كما حصل مع ترمب. وهذا يعني أنه لا يمثل أبداً امتداداً للمؤسسات الأميركية الراسخة، بل يريد تطويع كل شيء لبرنامجه الاقتصادي وتحقيق أهدافه".
كرة "الركبي"
قد لا يكون سهلاً تبصّر الإطار المحدد لسياسات ترمب الاقتصادية، لأنه يشبه، كما يقول أحد الخبراء، محاولة متابعة الكرة في مباراة "ركبي" عندما يتشابك اللاعبون. فمن الأكيد أن الرئيس الأميركي الراهن ليس ذلك المثقف الذي يضع مفهوماً محدداً لعمله. فـ"عدّة الشغل" عنده شعارات حادة وكلام مباشر وتغريدات لا تنضب، وهذه هي ملامح علامته التجارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلخّص ترمب رؤيته في صيغة واحدة: "أميركا أولا"، فرجل الأعمال الآتي من عالم العقارات كوّن لنفسه تعريفاً يشبه إلى حدّ ما ريغان "الكاوبوي الهوليوودي"، وكلينتون "الريفي" الآتي من ولاية آركنسو، مقارنة بالأرستقراطيين من الطبقة السياسية الأميركية. لكن الفارق أن ريغان وصل إلى البيت الأبيض عندما كان في ذروة خبرته حاكماً لولاية كاليفورنيا، ومشبعاً بمبادئه المحافظة. فيما كلينتون، كان خلفه جسم أيديولوجي مؤلف من مؤسسات الفكر والرأي التابعة لحزب "الديمقراطيين".
فطرة وتكيّف
أما ترمب فيتفرد بأنه رجل أعمال يعمل على الفطرة. وقد بلور اقتناعاته الخاصة من خلال الارتجال والتكيّف مع طبيعة الأوضاع. وفي الأزمات، يحدد إيقاع خصومه ويقيس ردة فعلهم، قبل أن يدفع بمصالحه على الطاولة. وقدا بدا ذلك جلياً من خلال تعاطيه في السياسة الخارجية مع كل من الصين والمكسيك وإيران ودول أخرى، وكانت الذروة مع كيم يونغ أون، الديكتاتور الكوري الشمالي، الذي قال إنه أغرم به. ويمكن اختصار هذه النواحي الثلاث، بالسلوك المالي والسياسة التجارية وفن الحكم.
البطالة والأجور
في المجال الاقتصادي، لا يستمع دونالد إلا إلى ترمب، وكان محقاً في كثير من الأحيان. فقد أثمر حدسه وجرأته عن تخفيض معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياته منذ نحو 50 عاما. وبدأت الأجور في الارتفاع مرة أخرى، ما عزّز ثقة المستهلكين. ولم يتردد في إشعال نيران النمو من خلال تخفيض عجز الموازنة بنحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ويعتبر الخبير الأموي أن "الضغوط التي يواجهها الاقتصاد الأميركي الآن لم تكن موجودة في السابق، خصوصاً لجهة الدين في مقابل نمو الناتج المحلي الإجمالي. ففي عهد ريغان كان في حدود 45% من الناتج، أما اليوم فهو في حدود 105%"، ويضيف "في موضوع الفوائد، في الماضي كانت مرتفعة جدا، أما اليوم فهي نحو 2% بالنسبة إلى سندات الخزانة لمدة 10 سنوات. وكلها تجعل ترمب يتحرك في مساحات ضيقة جداً وظروف لم تكن قائمة". لكن في موضوع الحمائية، يرى الأموي أن "ترمب سجّل مكاسب مع الصين والاتحاد الأوروبي لناحية تحسين العجز في الميزان التجاري".
العجز والديون
في المقابل، تتمثل أبرز إخفاقات الرئيس الأميركي، في أنه وعد في برنامجه بالسيطرة على العجز، لكنه لم يتمكن من ذلك.
وقد مشى عكس توصية بالإجماع أخذها خبراؤه الذين يتخوفون من أن تزايد العجز قد يشعل التضخم. لكن سياسته في تحفيز الطلب على العمالة الكاملة وتشغيل موظفين أقل قابلية للعمل، دفعت بالشركات إلى أن تكون قادرة على إنتاج المزيد، وتحقيق مكاسب. وقد زاد معدل النمو، لكن يتعين عليه الآن تنظيم هبوط سلس للاقتصاد الأميركي وجعله في أفضل الظروف الممكنة مع الاقتراب من استحقاق السنة 2020.
حرب ترمب
ولترمب أيضاً نسخته من "حرب النجوم"، ففيما واجه سلفه ريغان الاتحاد السوفييتي، حدّد ترمب خصمه بوضوح، وهو الصين. في هذه المواجهة لم يتردد في إطلاق حرب تجارية غير مسبوقة، وسعى إلى إقامة توازن قوة جديد مع بكين. واعتمد سياسة الإجراءات الحمائية التي كانت تُمارس قبل الحرب العالمية الثانية، من خلال فرض تعريفات جمركية على وارداتها، وشملت رسومه في قائمة أولى السلع الرأسمالية، ثم في قائمة ثانية السلع الاستهلاكية (المعدات الرياضية والألعاب، وغيرها..). وسعى كذلك إلى شلّ "منظمة التجارة العالمية" بمنعها من تحديد الحصص.
وتشير أبحاث اقتصادية إلى أن ترمب يربط بوضوح بين الأمن القومي لبلاده وسياسة التجارة الخارجية. لكنه من خلال فرض ضرائب على الواردات الصينية، فإنه أعاق اثنتين من الشركات الأميركية متعددة الجنسية، التي كسرت سلاسل الإنتاج الخاصة بها، ولا سيما في الصين. وباتت الشركتان تعاقبان المستهلكين الأميركيين الذين يتعين عليهم دفع المزيد من التكاليف باهظة الثمن لمشترياتهم. ناهيك بأن الانتقام الصيني، حدا ببكين إلى تقليل مشترياتها من السلع الزراعية الأميركية. وهذه الأضرار الجانبية سيكون لها أثرها لدى الناخب الأميركي. وفي أي حال، إن حملة ترمب المناهضة للصين أثمرت بالفعل في أذهان الجميع. فالولايات المتحدة بتشكيلاتها السياسية ولا سيما منها "حزب الديموقراطيين" باتت مقتنعة بضرورة مواجهة الطموحات الصينية المهيمنة.