الكاتب الفلسطيني الشاب مازن معروف (1978) الذي وردت مجموعته القصصية السابقة "نكات للمسلحين" في ترجمتها الإنجليزية في لائحة مان بوكر الدولية 2019، ينطلق في قصصه الجديدة من حقيقة نسبية ذات فرعين، أن المخيلة صنو الواقع خصبة ومتشابكة، وأن التعبير عنهما هو التحدي الأبرز، وما تبقى يندرج في عداد الأنواع القصصية التي بات متمكناً فيها، ولم يمض على دخوله عالم النشر عقد ونيف، وقد ترجمت أعماله إلى لغات كثيرة.
في المجموعة القصصية الثالثة له بعنوان "كيوم مشمس على دكة الاحتياط" والصادرة حديثاً عن دار نوفل (2022)، يستهل معروف كتابه بنوع من التمهيد قليل التخييل، والقريب من الواقع، ومفاده أن الكاتب الشاب، المأخوذ بسيرة أبيه الخائف "من أن نموت أمامه" (ص 7) قرر أن يتفادى الكتابة الشخصية لأنه لا يجيدها، عملاً بنصيحة الأول، فيروي سيرة هذا الوالد متخيلاً ومنمذجاً، ومسقطاً عليه أقنعة (بربارة) عديدة، وسمات من شخصيات أبوية أو راشدة، لا لشيء إلا لتذكيره (الأب) "بالفترة التي هجرنا فيها" (ص 10)، ومن ثم لتسويغ النجاح في الكتابة، والنفاذ إلى قلوب القراء والتأثير فيهم. وهو يفلح في ذلك، على ما نرى لاحقاً.
أول قبلة
في القصة الأولى من المجموعة، وهي بعنوان "فتاق"، يسرد الراوي الطفل قصة أول قبلة طبعها على خد طفلة تدعى "جوانا"، وكيف أن الفتاة أدخلت صديقها في لعبة التقزز من القبلة، وأقنعته بأن من شأن تلك القبلة أن تصيبها "بالتهاب اللوزتين" وتنتابها موجات من الحرارة ناجمة عن جرثومة تصيب عادة من هم فوق الـ 30 لأول علاقة جنسية تامة بين ذكر وأنثى راشدين، فيتسممان موقتاً. ومن هذه الواقعة ينسل موتيف آخر، عنيت به شعور الطفل نفسه بالخزي من علاقة أمه بالتحري، ومن مناداته "بابن الكبوت"، فيمضي إلى الانتقام من التحري، في حيهم أو مخيمهم، بأن يسقط بوله في خزان البنزين الخاص بسيارة الأخير. ولا يلبث أن يتبنى رفقة ابن التحري المتخلف ذهنياً، وفق ما يستفاد من السياق، لأنه "يشفيني من الضرر النفسي الذي أشعر به" (ص 19) عملاً بالفكرة السائدة القائلة إن "الأطفال الذين مثله بركة".
وفي القصة الثانية "كروشيه" يمضي الكاتب قدماً في بناء عالم من الأفعال الخارقة، المستمدة من مخيلة طفولية، ومحبوكة بخيط من السردية الجديرة بالصدقية والتمثيل الواقعي في آن، هي قصة فتاة، بل طفلة تدعى سعاد، ولئن كانت تؤدي أفعالاً خارقة، وهي صاحبة الدمى الكثيرة المصنوعة من الكروشيه، كأن تستخرج خيطاً أخضر من أقرب نبتة، لمجرد حاجتها إليه، أو تتناول خيطاً أبيض من أقرب غيمة عابرة (ص 29)، إلا أن الكاتب يحملها بعضاً من تلاوين عالمه الغريب، الفانتازي، وبها يرفع وقائع الديستوبيا الطفولية (فقد الآباء، خيانة الأمهات، الفقر، الحرب، الخوف من الموت قصفاً، المرض) إلى مقام المشاهد والصور المجردة (قصر الأشياء المفقودة)، ويذهب بعيداً في تحويل الأفعال الكلامية العادية إلى تفاعلات شعورية وجسمانية فائقة للطبيعة، كأن يبيع أخو سعدى أخته قدرته على رؤية اللون الأسود، واللون البرتقالي، أو أن يجعلها تدخل إلى عالم عماه، وغيرها. أو كأن تتحول سعدى نفسها إلى "كومة خيوط رقيقة ولماعة باللون الأزرق" (ص 38)، حتى ينحني أخوها ويتفحص الخيوط، ويقول "لا بد أنها خيوط الأرق".
لن يتاح لنا تفصيل الكلام على الـ 11 قصة المتبقية، القصيرة منها والطويلة ذات الفصول المتعددة (حرب الدوبلرز، إنياس ونونا، حكاية آنيا، أنطولوجيا الضربة القاضية، البقرة ورد، قبضة الأمل، الشبل، وقصص أخرى). وإنما يجدر الكلام على عديد من الظواهر التي تستوقف القارئ وتدل على خصوصية الكتابة القصصية التي أنجزها الكاتب مازن معروف، وباتت في متناول القارئ بأي لغة عالمية تنقل إليها.
فرادة قصصية
ومن المظاهر اللافتة في هذا العمل القصصي، للكاتب معروف، وطبعاً لسائر أعماله القصصية، صدوره عن تراث سردي عربي يمكن استخلاصه بالمقارنة أو بالتناص، بيد أن إغراق الكاتب في واقعيته السوداوية وعصريته المفرطة، وحصره الرمزية في حدود دلالاتها النفسية، الموشحة بالبعد العدمي، من شأنها جميعاً أن تحجب الدلالة السياسية الكامنة، لتحصرها في الدلالات الاجتماعية والنفسية التي أشرنا إليها، والتي تصنع الافتراق الحاسم بينها وبين التراث السردي العربي الرمزي السابق ذكره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن كانت الإشارات إلى الزمن الواقعي في القصص مغيبة (حرب الدوبليرز، وأنطولوجيا الضربة القاضية، على سبيل المثال)، وغير ذات قيمة نسبياً في بنيان عالم مواز، هو عالم الكائنات المهمشة، والمقموعة، والناجية من يوميات القتل، والإهمال، والفقر، والعزل، وأن يكن بعيون الأطفال والفتيان والمراهقين المشار اليهم بأسماء حركية وألقاب (مكواية، سعيدة، الحنك، الفرنسي، نابليون، أسبرو، عسيلي، أبوكاليبس، كلاشينكوف ورد، البقرة ورد، إلخ)، إلا أن ندرة الإشارات المكانية (ما عدا بيروت لمرة واحدة، والجامعة، والمدرسة، والمستشفى، ومصنع البسكويت، الكاراج، إلخ) كانت كفيلة بمضاعفة البعد الرمزي للقصة والأقصوصة، وحيازتها أبعاداً إنسانية تيسر قبولها والتفاعل معها من قبل جمهور القراء أياً كانوا.
ثم إن المخيلة عند مازن معروف، وفي هذه القصص، تذهب بعيداً في تطويع المشهد العنفي، وفي توليد المشاهد بعضها من بعض، وفي بناء منطق مواز هو أساس العالم البديل الذي يقترحه الكاتب عن عالم العنف الواقعي المتوحش وعديم الرحمة، ففي أقصوصة "طلقات" الواقعة بالفصل الثالث من قصة "حرب الدوبليرز"، يخطر للطفلة المعاقة "سعيدة" أن توقف سقوط الرصاصة على رأس زميلها الراوي، وتمد يدها وتقطفها "كما لو أنها حبة عنب ثم كدشت نصفها. يمم... طعمها كالكراميل بملح البحر" (ص 74). وعلى هذا المنوال التخييلي، يطاوعها صديقها الراوي صديقها، ويواصل بدوره تلذذه بالتهام الرصاصات المنهالة عليهما من المكان العدواني العام. وفوق ذلك، في الكتاب قصص تقتفي سبيل لويس كارول في كتابه "أليس في بلاد العجائب" حين يحول كل الكائنات والشخوص والحيوانات تحويلاً يكاد يكون سحرياً، على غرار قصة "إنياس ونونا" وغيرها؟
صور ومشاهد
وماذا يمكن القول عن الزخم الهائل في الصور والمشاهد المتلاحقة في السرد، وانتقاء وجهات النظر المناسبة للشخصيات، وزوايا الوصف لكاميرا الراوي السردية، يرفدها جميعاً حوار مناسب ودال على المناخ العام، حيث تجري الأمور، وتتعقد المصائر؟ أليست جديرة بالقصص المصورة؟ أو قد نحسب الكاتب وضع في حسبانه تحويل هذه القصص إلى سيناريوات جاهزة لكتابة قصص مصورة، على غرار المانغا، بالعربية، أو أي سلسلة مصورة للأطفال أو للفتيان، مع احتمال ألا تجد لها قراء أطفالاً أو راشدين أو شيوخاً، للأسف الشديد.
ولكن، ماذا عن عالم الأحلام، أو المنامات بلغة الشوام، وماذا عن تداخلها، ومبادلة الشخصيات أحلام بعضها البعض، وتعقب بعضهم بعضاً في الأحلام في نوع من الملاحقات البوليسية، وما تنبى عنه من آليات المراقبة والقمع الجمعيين، على ما يقوله فرويد، ويونغ؟ الكتاب الذي أشرنا إلى بعض ظواهره -وهي كثيرة- للكاتب مازن معروف يحتاج إلى مزيد من الرصد والمتابعة، ندعها للقراء الكرام. وهو يضاف إلى التراث القصصي الأدبي، ويتخذ له مكانة ورسماً مرموقين يستحقهما.
للكاتب مازن معروف أعمال شعرية كان استهل مساره الأدبي، وهي ثلاث مجموعات شعرية "كأن حزننا خبز"، و"الكاميرا لا تلتقط عصافير"، و"ملاك على حبل غسيل". أما المجموعات القصصية الصادرة له فهي على التوالي "يدا أبي"، والتي نال بها جائزة القصة القصيرة العربية في الكويت عن عام 2016، و"نكات للمسلحين" التي بلغت القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية لعام 2019، و"الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه" الصادرة عام 2017.