Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لقاء وصدام بين ثورة شعبية و"انقلاب قصر"

النقطة الملموسة للقاء الطرفين هي التخلص من البشير والباقي "أجندات مختلفة"

قوى الحراك السوداني مصرة على الحل الجذري لأنها تعلمت الدرس من مصير ثورتين شعبيتين سابقتين (أ.ف.ب)

في البدء كان سوء التفاهم الذي بدا كأنه تفاهم. وهو قاد إلى قراءة أولى متسرعة في التخلص من كابوس الرئيس عمر البشير الذي دام ثلاثين عاماً في السودان. أولاً عبر تصوير المجلس العسكري الانتقالي "شريكاً" في الثورة مع قوى الحرية والتغيير التي واجهت النظام السلطوي بأوسع حراك شعبي سلمي مستمر في الشارع منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وثانياً عبر التصور ان الحوار بينهما هو مجرد آلية تقود حكماً إلى تسليم السلطة للمدنيين. وثالثاً لجهة الرهان على الضغوط الداخلية والخارجية والوساطات في تسهيل التوصل الى اتفاق عملي: من ضغط الاتحاد الافريقي ووساطته الى وساطة رئيس الوزراء الاثيوبي ابيي أحمد، مروراً بوساطة الموفد الأميركي وضغوطه، وصولاً الى وساطة رئيس جنوب السودان سيلڤا كير. كما تحركت قوى وشخصيات محلية في أدوار وساطة. وكل وسيط قدم ورقة أو مشروعاً للحل، أحدثها، بناء على طلب المجلس العسكري، توحيد الورقتين الأفريقية والأثيوبية.

ذلك ان الحوارات في القصر والوقائع والاجراءات على الأرض فتحت الباب أمام قراءة ثانية واقعية، وأعادت التذكير بما رآه بعض أركان المعارضة من البداية. فالتصور كان نوعاً من الرومنطيقية في ظل الانبهار بما فعله الحراك الشعبي. والتصوير كان مختلفاً عن الصورة الفعلية: قوى الحرية والتغيير قادت ثورة شعبية سلمية حقيقية هدفها إسقاط النظام بكل أركانه ورموزه. والمجلس العسكري قام بما سماه بعض أركان المعارضة "انقلاب قصر". اذ وجد نفسه مضطراً لتنحية رأس النظام من أجل الحفاظ على النظام. فالنقطة الملموسة للقاء الطرفين هي التخلص من البشير. والباقي بعدها "أجندات مختلفة". قوى الحراك الشعبي مصرة على الحل الجذري، لأنها تعلمت الدرس من مصير ثورتين شعبيتين سابقتين عامي 1964 و 1986 اسقطت كل منهما نظاماً عسكرياً جاء به انقلاب، ثم تمكن العسكر من انهاء الثورة واخذ السلطة. والمجلس العسكري حريص على ألا يكرر الاستثناء من القاعدة الذي قام به في السودان اللواء سوار الذهب حين وفى بالوعد وسلّم السلطة الى حكومة مدنية.

ولا مفاجآت في ما حدث حتى الآن. المجلس العسكري فض بالقوة عبر قوات الدعم السريع الاعتصام امام المقر العام لقيادة الجيش، بحيث تجاوز عدد القتلى المئة وكان عدد الجرحى أكبر. وروت الدكتورة سليمى شريف رئيسة مركز خدمات طبية ان معاونيها عالجوا "عشرات النساء المصدومات اللواتي ضُربن أو اغتُصبن أو ضرب الجنود اعضاءهن الحساسة بالعصا". وكان سلاحه في الحوار هو المراوغة. يتفق وينقض ثم يسجن. يعترف بقوى الحرية والتغيير كممثل للثورة، ثم يمارس ما يسميه الفرنسيون "إغراق السمكة": طرح السعي للحوار مع كل الفئات وبينها "تنسيقية القوى الوطنية" و"زعماء الادارات الأهلية" وبقية القوى التي كانت من "ديكورات" نظام البشير. ولم يكن استخدام الرصاص وقنابل الغاز المسيلة للدموع سوى جزء مما واجهته "مليونية 30 يونيو" في الذكرى الثلاثين لانقلاب البشير. اذ هي، من خلال "تكريم الشهداء"، أكدت ان قوة الثورة الشعبية لم تنته، بفض الاعتصام يوم 3 يونيو.

ولا مفاجآت ايضاً في ممارسة بعض الاعضاء في المجلس العسكري لأسلوب البشير في الجمع بين الشدة والمراوغة. حتى حمل العصا أثناء الخطابة كما كان يفعل البشير، فان نائب رئيس المجلس محمد حمدان دقلو يقلده. وهو يحمل رتبة فريق أول من دون ان يدخل كلية عسكرية، وان يتجاوز تعليمه المدرسة الابتدائية. وهو كان "تاجر إبل" صار قائد ميليشيا روّعت اهل دارڤور، وورثت "الجنجويد" واصبحت نواة "الدعم السريع" في خدمة البشير.

ولا شيء يوحي ان العسكر على استعداد للتخلي عن السلطة الفعلية إلى حكومة مدنية. فالاستثناءات نادرة. وهي تؤكد القاعدة. إذ هم، سواء جاؤوا الى الحكم بانقلاب عسكري سموه ثورة أو وظفوا ثورة شعبية في الامساك بالحكم، يلجأون الى طريقتين: إما ان يخلعوا الثياب العسكرية ويمارسوا السلطة بالثياب المدنية. وإما ان "يخترعوا" حكومة مدنية تخدمهم كعسكريين، بحيث تكون هي في "المنصب" وهم في "السلطة". وهناك بالطبع نموذج ثالث هو ان يدير العسكر السلطة من وراء الستار من دون ان يضطروا للقيام بانقلاب.

وليس من السهل على المجلس العسكري الاستمرار طويلاً في المراوغة. ولا من الصعب على قوى اعلان الحرية والتغيير ممارسة شيء من المرونة في المطالب للتوصل إلى اتفاق معقول. فما جرى هو مناورات التفاوض على الحصص والادوار في المجلس السيادي والمجلس التشريعي والحكومة. وما كان يجب ان يكون جوهر النقاش هو التفاهم على مواجهة التحديات المستقبلية الكبيرة في امرين على الأقل: اولهما تحديات الانتقال من سلطة شمولية إلى سلطة تعددية. وثانيهما تحديات التحول من سلطة إلى دولة. والتجارب في الحالين صعبة.

المزيد من آراء