Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف يمكن فهم السياسة الخارجية التركية؟

ممارسة التناقضات من دون خجل مستفيدة من سمات عالم تحكمه المفارقات والفوضى وإدمان النسيان

انفتاح تركي متزايد على دول المنطقة (أ ف ب)

تواصل أنقرة تقلباتها السياسية التي عودتنا عليها منذ تولي الرئيس رجب طيب أردوغان الحكم، ولكن الأمور تجري الآن بوتيرة غير مسبوقة. فبعد تصعيد شديد وتهديدات بالتحرك عسكرياً في المناطق الكردية، شمال شرقي سوريا، إذ بها في استدارة حادة تقوم بالحديث عن اتصالات تركية – سورية بين الأطراف المعنية، ولكن الحقيقة أن تركيا لم تتوقف في عهد رئيسها الحالي عن إنتاج التحولات والتقلبات إلى حد يثير التساؤلات. وبنظرة سريعة لمقارنة ما يحدث الآن مع ما كانت تمارسه منذ سنوات، بل ومنذ أشهر، ربما يبدو الأمر سوريالياً بدرجة كبيرة.

تناقضات بلا حدود

بعد سنوات من انفتاح تركي متزايد على دول المنطقة وتحسن كبير في العلاقات السياسية والاقتصادية مع أغلب جيرانها من العرب وغيرهم، برز الدور التركي بشكل جديد، وكأنه يقود التغيرات والانتفاضات العربية، ما حمل تشجيعاً واضحاً لفصائل الإسلام السياسي، وبخاصة "الإخوان المسلمين" الذين قفزوا للحكم في مصر، وأصبحوا لاعباً سياسياً رئيساً وشريكاً في تونس، وسيطروا على الفصائل المسلحة المعارضة في سوريا، وتم تمكينهم من الساحة الليبية في شكل فصائل وميليشيات مسلحة، وقوى سياسية تحظى بدعم وتشجيع تركي وقطري وغربي. وخلال عامين فقط، وصل النفوذ والمكانة التركية لأقصى حضور منذ انهيار الدولة العثمانية، ثم انقلبت الأمور مع انتفاضة المصريين في 30 يونيو (حزيران) 2013 وإطاحة حكم "الإخوان". وعلى الفور قادت تركيا معسكر التصدي لمصر ولهذه التحولات التي برزت تقليدياً ضد قوى الإسلام السياسي في هذه الساحات - أي ساحات الصراع الإقليمي المختلفة. ومن الطبيعي أن دورها في كل ساحة كان مختلفاً، ففي سوريا واصلت علاقاتها ودعمها الوثيق لفصائل المعارضة المسلحة، حتى وصلت الأمور في هذه الساحة مع مذابح "داعش" و"القاعدة" طاولت آلاف المسيحيين والمسلمين وكافة الأقليات، إلى تبرؤ الغرب من هذه القوى، واضطرار إدارة أوباما للتدخل الجوي ضد هذه التنظيمات ببعض القصف الجوي غير المتواصل وغير الدقيق، ومن ثم لم يمنعها من مواصلة السيطرة على أغلب الأراضي السورية. وأدى هذا إلى التدخل الروسي الواسع النطاق، والذي أدى إلى تغير المعادلة السياسية والعسكرية تماماً. وهنا أدارت موسكو المعادلة الجديدة بإنشاء منصة الأستانة التي جمعت قوى التدخل أو الاحتلال السياسي المتناقضة، أي روسيا وتركيا وإيران، ونجحت في تهميش منصة الأمم المتحدة تدريجاً من دون إلغائها تماماً، ولكنها أبقت على الدور التركي الذي أصبح الراعي الفعلي لقوى وتيارات الإسلام السياسي إقليمياً، وليس فقط في سوريا.

وفي الساحة الليبية، مارست تركيا دورها الرئيس كالداعم الأول لمشروع الإسلام السياسي الذي يمكنها من لعب دور قيادي، وبدأته بالتدخل الأول في دعم قوات "فجر ليبيا" الإخوانية بعدد من المرتزقة السوريين و"الدواعش" الذين نقلتهم من سوريا إلى مصراتة، إذ لها وجود تاريخي طورت منه كثيراً بعد إطاحة القذافي. وحقق هذا السماح للقوات القريبة منها من السيطرة على مطار طرابلس عام 2014. وتلا هذا تعميق لعلاقاتها بحكومة "الوفاق الوطني" برئاسة فايز السراج، التي وصلت للحكم عام 2015 بناءً على مبادرة أممية، ثم جاء تدخلها الكبير في 2019 بدعم عسكري مباشر من مستشاريها ومن مرتزقتها، الذين نقلتهم من إدلب، حيث تسيطر عليها في شمال غربي سوريا، بعد أن سبقت هذا بعقد اتفاقات تحالف عسكري وسياسي مع حكومة "الوفاق" (المشكوك في قانونيتها). ومن دون الدخول في تفاصيل المشهد المعقد في ليبيا وما طرأ عليه من تطورات، فإن أنقرة ما زالت هي الداعم الرئيس لقوى الإسلام السياسي مع تحول المشهد للجمود العسكري، بعد التحذير المصري من عبور الميليشيات المتطرفة لخط سرت قرب منتصف البلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن ناحية أخرى، لم تحقق أنقرة اختراقاً من قيادتها لمناوئة التحولات في مصر واستضافة عدد من قيادات الإخوان وتوجيه عدد من القنوات الإعلامية ضد النظام. وتحول المشهد إلى مواجهة إعلامية وسياسية بين القاهرة وأنقرة، دعمت من عزلة الأخيرة وتراجع مكانتها الإقليمية. ويضاف إلى المشهد المصري أيضاً تحولات تدريجية في تونس التي شهدت بدورها تراجعاً حاداً في مشروع الإسلام السياسي، مثل بدوره نكسة أخرى للسياسة الأردوغانية، التي طرحت نفسها كالنصير الأول لمشروع الإسلام السياسي إقليمياً وعالمياً. ولا يمكن فصل مشهد إطاحة البشير في السودان وتراجع جبهة الإنقاذ الإسلامية عن قمة المشهد السوداني، مع بقاء فرص حضورها، ليضاف هذا إلى جميع تفاصيل تراجع المشروع السياسي الإسلامي إقليمياً.

تحولات الموقف التركي

منذ قرابة عامين، بدأت إرهاصات التراجع التركي التدريجي، وبدأ هذا بعد المواجهة بينها ومصر في الساحة الليبية، وشعورها بالعزلة الإقليمية وعدم وجود قبول أميركي بشكل خاص لمزيد من التورط التركي في هذه الساحة والاكتفاء بما تم. ومن ثم بدأ الحوار السياسي العلني بين وزارتي خارجية البلدين، الذي أسفر عن تحسن نسبي في لغة الصدام السياسي وتجاوب تركي محدود، تمثل في إخراج بعض رموز وقنوات المعارضة الإخوانية من مصر، كما تلا هذا انفتاح تركي متزايد على دول الخليج، بل وتحسن ملحوظ مع كل من السعودية والإمارات بعد فترة طويلة من التردي في العلاقات، بل وبدا التحسن أكبر بكثير من مستوى تحسن العلاقات مع مصر، التي هدأت وتيرة التوتر معها من دون إغلاق ملفات الخلاف كافة، وبخاصة ليبيا، وإن كانت تصريحات أردوغان بعد إنهاء صفحة الخلاف مع إسرائيل، هي استعادة زخم العلاقات مع مصر.

ولكن يمكن رصد التحولات الكبيرة ذات الطبيعة الدرامية في تحسين العلاقات بشكل مفاجئ وحار مع إسرائيل، منذ تدهور العلاقات بين البلدين بفعل أزمة غزة، ثم جاء الانتقال من حديث التصعيد العسكري واقتحام الأراضى السورية بحجة مطاردة المعارضة الكردية، ومن خطاب سياسي مُعادٍ بقوة لنظام الأسد، بل يكاد الأعلى صوتاً والأشد عداوة لنظام بشار الأسد والمتبني لضرورة تغيير هذا النظام، إلى التحول المفاجئ لإصدار بعض تصريحات المهادنة، ليعقبها حديث عن الاتصالات بين الجانبين وتقارب محتمل، ليس مؤكداً بعد أن ستوؤل إليه الأمور، إلا أنه يعكس تغيرات ضخمة لا يمكن تجاهلها.

في فهم مفاتيح السياسة التركية

من يعتبر أن أنقرة تبنت مشروع الإسلام السياسي كأيديولوجية حقيقية للدولة، قد تبدو له هذه التحولات غير مفهومة، إلا أن المفتاح الحقيقي لفهم التوجهات الحقيقية لأردوغان تكمن في بعدين أو محورين أساسيين، وهما توظيف الإسلام السياسي كغطاء أيديولوجي لفكرة استعادة المجد التاريخي للأمة التركية ومحيطها الحيوي، والثاني هو البراغماتية المتأصلة في العقل التركي وعقل أردوغان، وفي الواقع أن كل حالة تفسرها مصالح براغماتية واضحة.

فبالنسبة لأردوغان، يمكن التمييز بين إيمانه الشخصي بالهوية الإسلامية لبلاده، والتي يتبناها حزبه، وبين إدراكه العميق للحاجة إلى غطاء أيديولوجي أو فكري لاستعادة ما يتوهمه كمجد إمبراطوري ومكانة مهيمنة لبلاده في محيطها الجغرافي ودولياً. ولا ينفصل هذا عن ما نطرحه دوماً من أن قضية توظيف الدين في السياسة تستهدف دوماً مصالح ومنافع سياسية بالأساس .

أما البراغماتية فهي أيضاً متأصلة في العقل التركي الأردوغاني الذي يسعى بشكل دائم لتعزيز مصالحه الاقتصادية، وهذه السمة البراغماتية تفسر طريقة تحركه السياسي من تماشي مع الموقف الأميركي الغربي إزاء الأزمة الأوكرانية، وفي الوقت نفسه مواصلة تعزيز العلاقة مع موسكو، مراهنة على أنها ستقنع واشنطن والغرب بأهمية دورها هذا في دور وسائطي أثبتته بالفعل في تسوية موضوع تصدير الحبوب الأوكرانية – وهذا البعد الأخير نفسه يرتبط وفقاً لتقديرات، بأن أحد أثمانه كان التحول في الملف السوري أرضاءً لموسكو، كما يؤكده أيضاً نمط علاقاتها مع إسرائيل من مزايدة صوتية ومواصلة دؤوبة لتعزيز المصالح المشتركة للطرفين، كما أن أهم أبعاد الدوافع الراهنة استعداد أردوغان لجولة الانتخابات الرئاسية القادمة ومواجهة خصمه الراهن - حليفه السابق - أحمد داوود أوغلو، في محاولة العودة لـ"صفر مشكلات" في السياسة الخارجية لتركيا، التي كانت مدخل مكانتها الصاعدة قبل أن تتآكل بسبب سياساتها منذ مرحلة "الربيع العربي".

وفي جميع الأحوال، تواصل أنقرة حضوراً دولياً شبه متواصل في العقدين الأخيرين، على الرغم من تعدد عناوينه وتناقض توجهاته وكثرة عثراتها ونكساتها. فدوافعها تتسم بالاستمرارية، وهي تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية متواصلة، وتعزيز أهميتها الجيوسياسية لكل من الغرب وروسيا، ومقدرة فائقة على ممارسة التناقضات من دون خجل مستفيدة من سمات عالم تحكمه المفارقات والفوضى وإدمان النسيان.

المزيد من تحلیل