وصلت سجون لبنان إلى مرحلة الاختناق، وبات يصدق عليها وصف "بؤرة لتكاثر الأوبئة"، ويؤكد أهالي السجناء وفاة اثنين من النزلاء خلال الأيام الماضية بسبب غياب العناية الطبية الكافية، ليرفع ذلك عدد الوفيات إلى 17 خلال عام. وأسهم الانهيار المالي والاقتصادي في تفاقم المشكلة التي تعود إلى سنوات عدة، إذ تشاطر الأهالي والدولة العجز عن تأمين الحاجات الأساسية للسجناء. ويسهم الوضع العام للسجون في توفير ظروف مشجعة على العنف والتمرد، مما ينذر بمشكلات إضافية أمام السلطة اللبنانية بشقيها العسكري والمدني. وإزاء هذا الواقع، الذي لم يعد بإمكان أحد إنكاره أو تسييسه، تبرز وجهات نظر مختلفة لحل مشكلة اكتظاظ السجون والنظارات.
وفي هذا الإطار، دعا وزير الداخلية بسام مولوي إلى إقرار قانون العفو العام من أجل تخفيف الاكتظاظ في السجون، وكشف أن نسبة الإشغال تفوق 300 في المئة، كما أن 75 في المئة من النزلاء هم من غير المحكومين، داعياً القضاة إلى أخذ ذلك في الاعتبار. وأشار إلى إعداد مشروع قانون معجل لتخفيف السنة السجنية وتحديد حد أقصى للعقوبات متمنياً على مجلس النواب إقراره على وجه السرعة.
الاضطرابات تتزايد
منذ قرابة الشهر، تزايد الحديث عن وقوع اضطرابات داخل السجون اللبنانية. وقد اندلع تمرد داخل سجن القبة في طرابلس بسبب انقطاع الكهرباء، وبعد ذلك نشبت احتجاجات داخل مبنى الأحداث في سجن رومية المركزي للمطالبة بخفض السنة السجنية إلى ستة أشهر. وأشارت دائرة العلاقات العامة في المديرية العامة للأمن الداخلي إلى أنه على خلفية الإضراب الجماعي عن الطعام في السجن، ادعى عدد من النزلاء المرض، وطالبوا بدخول المستشفى لتلقي العلاج، ولدى إدخالهم إلى الصيدلية المركزية، افتعل أحد الموجودين في النظارات الفوضى. "عندها، توجه عناصر الأمن للسيطرة على الأحداث، فاستغل النزلاء الذين أحضروا إلى الصيدلية مجريات الأمور، وأقدموا على تصوير لقطات تظهرهم بأوضاع صحية سيئة لإثارة الرأي العام". وحاول هؤلاء إضرام النار في السجن، وأصيب أحد ضباط الأمن بجروح. وأشارت القوى الأمنية إلى ضبط هواتف وآلات حادة، مؤكدة أنها "تعمل جاهدة لتأمين جميع متطلبات النزلاء وحقوقهم مهما اشتدت الأزمات".
الظروف غير ملائمة للحياة
تتراجع نوعية الحياة بشكل عام في لبنان، ويؤشر إلى ذلك حرمان المواطن من الخدمات الأساسية وتقنين المياه وغياب الكهرباء وتراجع الخدمات الصحية، هذه حال البلاد في طولها وعرضها، ولا تخرج السجون عن هذا المشهد السوداوي. وتعكس هذه الأجواء حالاً من الخوف لدى الأهالي على حياة أبنائهم الذين "لا يحصلون على غذاء جيد، أو عناية طبية كافية"، إضافة إلى "ظهور تقرحات جلدية على أجسامهم". ويؤكد أبو عمر بو عيد من أهالي الموقوفين أن "أجر المعاينة الطبية بات على نفقة الأهالي، وكذلك الحصول على الدواء".
ويعبر بعض الأهالي عن صعوبة تأمين الغذاء الجيد لأبنائهم بسبب منعهم من إدخال الأكل والشراب إلى السجناء، وحصر ذلك بالحانوت الذي تبلغ أسعار السلع فيه أضعاف ما هي في الخارج. فيما يلفت الشيخ نبيل رحيم، المتابع لملف السجون، إلى أن "السجون تشهد حال اختناق، تترافق مع سقوط البنى التحتية داخل السجون، واهتراء مجاري الصرف الصحي ودورات المياه، وغياب التهوئة نتيجة انقطاع الكهرباء، إضافة إلى غياب الصيانة"، محذراً من "وقوع مأساة داخل السجون بسبب عدم استجابة السلطة للنداءات المتكررة من الأهالي".
هل من حل؟
تختلف وجهات النظر حول الحلول الممكنة لمشكلة اكتظاظ السجون، بين طرح يسعى إلى خفض السنة السجنية لتصبح ستة أشهر عوضاً عن تسعة أشهر المدة التي تقرها القوانين الحالية، ومطلب آخر بافتتاح سجون جديدة كي لا يكون حل اكتظاظ السجون على حساب العدالة.
في هذا السياق، تقدم النائب أشرف ريفي، الإثنين الـ29 من أغسطس (آب) الماضي، باقتراح قانون إلى مجلس النواب، بغية تخفيف السنة السجنية بصورة استثنائية لتصبح ستة أشهر. ويعلل ريفي، في حديث مع "اندبندنت عربية"، اقتراحه بأنه ينطلق من الواقع الحاضر، إذ تشهد السجون اكتظاظاً كبيراً، وتستقبل ثلاثة أضعاف قدرتها الاستيعابية، ويقدر عدد نزلاء السجون بـ 9500 سجين. ويذكر ريفي بأنه خلال فترة قيادته قوى الأمن الداخلي "كان وصول عدد السجناء إلى أربعة آلاف رقماً ينذر بمشكلة".
ويدعو ريفي إلى معالجة سريعة لملف السجون في لبنان، متخوفاً من "ثورة كبيرة داخلها"، لأن "الدولة باتت عاجزة عن إطعام عناصرها ورعايتهم، وكذلك الأمر بالسنة إلى السجناء الذين تتضاعف معاناتهم بسبب عدم قدرة الأهالي على تأمين حاجاتهم أو زيارتهم بسبب غلاء المحروقات وارتفاع كلفة المعيشة".
من جهته، يطالب الشيخ رحيم بمعاملة السجناء "معاملة إنسانية"، مشيراً إلى نقطة تحديد حد أقصى للعقوبات، من خلال جعل سقف الإعدام بـ 25 عاماً، والمؤبد بـ 20 عاماً، ولمرة واحدة أن تكون السنة السجنية ستة أشهر، وهو أمر يسهم في تخفيف الاكتظاظ داخل السجون، ما يسهم في خروج أعداد كبيرة من السجناء. ويطالب رحيم بتسريع المحاكمات، لأن "هناك أعداداً كبيرة من غير المحكومين داخل السجون، ويتم تأجيل الجلسات لمدد طويلة تصل إلى ثمانية أشهر في بعض الأحيان".
ويتخوف رحيم من تفاقم الأزمة في الفترة المقبلة بسبب تراجع تمويل الجمعيات المهتمة بمساعدة السجناء، مؤكداً أن "المعنيين والجهات السياسية على علم بأوضاع السجون، ولكن لم نلق استجابة فاعلة".
لبنان بحاجة إلى سجون جديدة
في الجانب الآخر من المشهد، تتوجه الأنظار إلى مؤسسة القضاء المولجة بإصدار الأحكام. يؤكد مستشار وزير العدل لملف السجون القاضي إيلي حلو، أن "مشكلة السجون مزمنة ومركبة في لبنان، ولا يمكن تحميلها بالكامل إلى مؤسسة بعينها، لأن مسؤولية الإشراف عليها تقع على قوى الأمن الداخلي، أما وزارة العدل فهي مسؤولة عن الأحكام والعقوبات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقر الحلو بالأوضاع السيئة في السجون، "لأنها تشهد اكتظاظاً كبيراً"، متوقعاً "تزايد هذه الظاهرة في المرحلة المقبلة"، ويلفت الحلو إلى أنه "منذ ثلاثة عقود، لم يتم إصلاح السجون أو توسيعها لتتلاءم مع التزايد السكاني"، مشيراً إلى "تأثير النزوح السوري في لبنان على الاكتظاظ، إذ يشكل السجناء السوريون حوالى 35 في المئة من السجناء، وهذا أمر طبيعي لأن لهم حضوراً كبيراً في المجتمع"، ويتخوف الحلو من "تزايد الجرائم بسبب الانهيار الذي طاول القطاعات كلها".
ويطالب الحلو بإنشاء سجون جديدة، "لأن حل مشكلة السجون لا يكون على حساب العدالة، ولا يكون من خلال إقرار قوانين العفو، ولا من خلال خفض السنة السجنية، أو إطلاق سراح المجرمين"، ملاحظاً "عودة عدد كبير من السجناء إلى ارتكاب أعمال جرمية وتكرارها بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحهم"، بالتالي لا بد من إنجاز خطة بناء السجون الجديدة التي يجب أن تطبق النظم الحديثة لتأهيل السجناء وإصلاحهم.
القضاة لا يتحملون المسؤولية
يحمل كثيرون القضاء مسؤولية اكتظاظ السجون بسبب التلكؤ في عمله، وتأخر إصدار الأحكام. يرفض القاضي الحلو ذلك، معتبراً أن "القضاة يتولون مهمات تفوق قدراتهم وطاقتهم كبشر". ويشير إلى أن "كل قاض موكل بأكثر من محكمة في آن، وبعضهم موكل بأربع مهمات، إذ أصبح المطلوب منهم مهمة شاقة"، لذلك "هناك حاجة إلى مضاعفة أعداد القضاة في لبنان لأداء المهمات المتزايدة".
ويقر الحلو بوجود "بعض القضاة الكسالى"، ولكن في المقابل "لا يمكن الحكم على مؤسسة القضاء بالتقصير والإهمال، لأن تأخير الأحكام يعود في كثير من الأحيان إلى عدم سوق المشتبه فيهم للمثول أمام القضاء بسبب عدم تأمين سيارات للقوى الأمنية، وكذلك تأخر إنجاز التبليغات مما يحول دون إتمام الخصومة، وعن عدم قيام القضاة بمهمة تفقد السجون في لبنان بصورة دورية، يعتقد أن حل المشكلة لا يتوقف على عملية تفقد السجون التي يوجبها القانون للتأكد من عدم وجود نزلاء غير محكومين، وإنما من خلال إيجاد حل عام وشامل لمشكلة السجون التي تدور في حلقة مفرغة".
ويحذر الحلو من مشهد سوداوي في لبنان بسبب انعكاس الانهيار على المجالات كلها، بما فيها القضاء، لأن "القضاة يؤدون عملهم في ظروف سيئة، وفق معادلة من الموجود جود"، ويضيف أن إضراب القضاة قد يطول إلى حين إنصافهم، لأن "أجورهم لم تعد تكفي لشراء البنزين".