Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيضان النيل يعيد التماسيح إلى السودان فكيف يراها الموروث الشعبي؟

الدفاع المدني يحذر المواطنين ومتخصصون في البيئة يدعون إلى تقنين صيدها

النيل الأزرق الأغنى بالتماسيح في السودان (غيتي)

 تزداد معاناة السودانيين الذين يسكنون على ضفاف النيل وأفرعه في مثل هذا الوقت من كل عام بسبب فيضان النهر وفتح أبواب السدود المائية، فيرتفع تبعاً لها منسوب المياه. وآثار ذلك لا تنحصر في تدمير المساكن وتعرض المواطنين للتشرد وحدوث خسائر في الأرواح والممتلكات فحسب، وإنما أيضاً يتعرضون لأخطار ظهور التماسيح المهددة لحياة البشر والحيوانات، ويعد النيل الأزرق الأغنى بالتماسيح في السودان، كما تعد جزيرة توتي عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض وسط مدينة الخرطوم أكثر الجزر السودانية التي تظهر فيها التماسيح، بخاصة في موسم الفيضان ويوجد عدد منها في متحف التاريخ الطبيعي بجامعة الخرطوم منذ عام 1970.

الوجه الآخر لصور المأساة والدمار نتيجة الفيضان، تشكل من تهديد التماسيح وتحويلها من تراجيديا إلى صورة أخرى مثلت أحد روافد الثقافة الشعبية التي تحتضنها الحياة الاجتماعية السودانية في تعاملها مع البيئة الصعبة والضواري والحيوانات المفترسة وغيرها، بحيث تنمو العلاقة المميزة مع المكان والبيئة.

تهديد متكرر

 الأسبوع الماضي، حذر الدفاع المدني السوداني المواطنين من ظهور التماسيح المصاحبة لفيضان النيل، وقال مدير الإدارة العامة للدفاع المدني الفريق شرطة عثمان عطا مصطفى إنهم رصدوا ظهور تماسيح في محلية جبل أولياء، مناشداً المواطنين "أخذ الحيطة والحذر وتبليغ مواقع ارتكازات الدفاع المدني المنتشرة في المناطق النيلية للمراقبة والتدخل السريع في حال ظهور أي حيوانات مفترسة"، لكن مع هذه التحذيرات لا يزال هناك من يحتفي بظهور التماسيح سواء بالوجود الفعلي على ضفاف النيل أو بمتابعتها من بعد.

وإضافة إلى نهر النيل ودول حوض النيل، التمساح النيلي موجود في أنحاء واسعة من أفريقيا جنوب الصحراء داخل البيئات المائية والمصبات والمستنقعات العذبة مثل الأنهار والبحيرات والأهوار، وينتشر كذلك في نهر السنغال وبحيرة تشاد ونهر ليمبوبو بجنوب أفريقيا وغيرها.

في التراث الشعبي

ورد اسم التمساح كثيراً في الأغاني والأشعار التراثية الشعبية، خصوصاً ما يسمى أغاني "الحماسة" التي تؤدى في حالات الحرب وأغاني "السيرة والدلوكة" في حالات الأفراح، وهي ضرب من ضروب الشعر الغنائي الشعبي ارتبط بأشخاص أو جماعات قبلية ومواقف بطولية حدثت أثناء النزاعات والحروب القديمة أو يتمنى حدوثها، وأشهر التماسيح في هذا المجال تمساح "الشايقية" (اسم قبيلة) الذي قيل إن رجل الدين حاج الماحي نادى على 99 ولياً صالحاً من رجال الدين السودانيين في عهود سابقة ليخلص سكان المنطقة منه، فوجد التمساح نافقاً وعليه أثر 99 طعنة، ونظم قصيدة دينية شهيرة بهذه المناسبة، وهنا تحدث مقاربة للتمساح بوصفه وحشاً نيلياً يعيش في المياه العذبة فقط، مع الشخص الممدوح بتمجيد أخلاقه وقيمه وصفاته مثل الكرم والشجاعة والشهامة والمروءة والتضحية والإيثار مع البعد عن اللمم وأكل الميتة.

الباحث في التراث الشعبي الأمين عثمان ذكر أن "من أسماء التمساح في السودان تمساح الكواني والعشاري وتمساح الدميرة، وتمساح جزائر الكرد وتمساح جلقني واللدر، وهناك أسماء تماسيح ارتبطت بمناطق وجودها"، ويضيف "من أشهر ما قيل في شعر الحماسة الشعبية، قصيدة غناها الفنان الراحل عبدالكريم الكابلي يأتي فيها ذكر تمساح اللدر ضمن أحد مقاطعها وهو ’بسأل عن علي الفارس البيقود تسعين، هو اللدر العلى ضهرو الخبوب والطين، ما بياكل الضعيف وما بسولب المسكين‘، وذكر تمساح اللدر هنا ووصفه والإتيان بصفاته، مع سائر القصيدة للمدح. ويقال إنها مرثية طويلة شاعرتها هي بكرة بنت مكابر ابنة ملك الجعليين المكابراب، في زوجها الثاني علي بن عثمان بن عجيب المانجلك الذي قتله طليقها وابن عمها عبدالدائم ود عدلان عام 1698 ونشبت حرب بين القبيلتين لهذا السبب".

قيمة اقتصادية

للتمساح النيلي قيمة اقتصادية تجارية تتمثل في الاستفادة من جلده في صناعة الأحذية والحقائب وبعض المصنوعات الجلدية القيمة، خصوصاً أن طوله قد يصل إلى ستة أمتار من الرأس إلى أسفل الذيل ويزن نحو 1000 كيلوغرام ويصل متوسط عمره إلى نحو 45 سنة وبإمكانه العيش نحو 100 سنة، إذا وجد بيئة جيدة تتوافر فيها الحيوانات التي تمر على ضفاف النيل للشرب ومنها البرية مثل الحمير الوحشية والغزلان والطيور ما عدا طائر الزقزاق الذي يفتح له التمساح فمه ويسمح له بتنظيف بقايا الطعام منه، والحيوانات المائية مثل فرس النهر والأسماك وغيرها، ولكي يصطاد هذه الحيوانات أو يتمكن من الاقتراب من البشر ومنهم صائدو الأسماك، يستعمل التمساح النيلي جسمه وذيله لتحريك مجموعة من الأسماك نحو ضفة النهر ويكون مخفياً ما عدا أعينه وأنفه.

كما تتعرض التماسيح للصيد على طول ضفاف النيلين الأزرق والأبيض، وأشهر منطقتين حيث ينتشر صائدو تماسيح محترفون هما منطقة "شلال السبلوقة" على بعد 40 كيلومتراً شمال الخرطوم ومنطقة "جبل أولياء" على بعد 40 كيلومتراً جنوب الخرطوم وذلك للاستفادة من لحومها التي يعتقد بأنها تحتوي على فوائد طبية تعزز جهاز المناعة وتمنع مشكلات الجهاز التنفسي وتستعمل دهونها في علاج الجروح وعدد من الأمراض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما ترتبط شعبيتها وتزداد حالات اصطيادها بغرض بيع العضو الذكري للتمساح الذي يروج له على أنه يعالج أمراض الضعف الجنسي والخصوبة لدى الرجال وتنشط هذه التجارة في السودان وبعض الأسواق الأفريقية، وشكك الخبير في علم الحيوان محمد عبدالله الريح بهذه المعلومة الأخيرة محذراً من القتل العشوائي الذي يتعرض له تمساح النيل مما يهدده بالانقراض، ونصح بالقبض عليه بواسطة قوارب مجهزة وصيادين محترفين وتحويله إلى مناطق بعيدة وخالية.

رمز أسطوري

ارتبط التمساح بالأساطير منذ "سوبك" إله التماسيح لنهر النيل في الحضارة الفرعونية، ومنذ ذلك الوقت وشعب وادي النيل يقدر التماسيح ويخشى قوتها، وفضلاً عن تقديسه فإنه في منطقة النوبة شمال السودان وجنوب مصر كان التمساح يستعمل في نقوش وتزيين جدران المنازل من الداخل والخارج وزخرفة مداخلها اعتقاداً بأن التمساح تسكنه روح السحر وكرمز من رموز العدوان.

ومن الأساطير الشعبية القديمة المتداولة مثل أن التمساح ليس لديه لسان، هي أن كلباً قدم إلى النهر ليشرب، فواجهه تمساح ودارت معركة بينهما بأن جر الكلب لسان التمساح، وأصبح يفسر جري الكلاب لاهثة ولسانها إلى الخارج رجوعاً إلى هذه الأسطورة، بينما الحقيقة هي أن لسان التمساح قصير جداً وملتصق ببطانة في الفك السفلي ووظيفته الأساسية هي منع الماء من الدخول إلى بطنه، وفسر تناول التمساح طعامه خارج الماء، أو برفع رأسه عن سطح الماء كي لا يبتلع الماء مع طعامه. كما أن هناك أسطورة تقول إن التماسيح كانت تستمع وتستجيب لنداء بعض الشخصيات الدينية وهم "الشيوخ" في السودان، فعندما يغرق أحدهم ويشك أهله في أن تمساحاً التهمه، ينادي الشيخ عليه ويأمره بإخراج الشخص فيلفظه إلى الشاطئ.

ومن القصص الشعبية السودانية أيضاً ومتداولة عالمياً بأكثر من صيغة أن الثعلب كان صديقاً للتمساح يلتقيان كل يوم فيركب الأول على ظهر الثاني ويذهبان في جولة ويتسامران حتى نهاية اليوم، ما سبب غيرة شديدة لرفيقة التمساح من الثعلب فحاولت التخلص منه. وعندما التقاها التمساح أخبرته بأنها مريضة ولن تشفى إلا بالتهام قلب الثعلب، وعند لقائه بصديقه أخبره بالأمر، وكانا قطعا المسافة إلى عرض النهر، فأخبره الثعلب بأنه نسي قلبه في بيته وعليه إحضاره لهما، فما كان من التمساح إلا أن أعاده إلى الشاطئ مرة أخرى، فقال الثعلب مخاطباً التمساح وهو يركض مبتعداً "لم تداو عليلاً ولم تبق خليلاً"، وصارت مثلاً.

دموع التماسيح

جرى وصف حال الشخص المخادع الذي يستميل ضحيته للإيقاع بها عبر التظاهر بالتعاطف والانفعال بذرف الدموع، بأنها "دموع تماسيح"، وارتبط ذلك بحالات أخرى من الخداع تتنوع باختلاف مراكز أشخاصها سواء كانوا من السياسيين أو قادة المجتمع أو الأشخاص العاديين.

ومع إثبات صحة أن التماسيح تذرف الدموع وهي تلتهم فريستها، لكن فسرت علمياً بأنها تحرك فمها بقوة وتتشنج وتنفعل أثناء الأكل، ما يدفع الهواء عبر الجيوب الأنفية ويحفز الغدد على إحداث فرط إنتاج الدموع. ومع ذلك، بقي الوصف سارياً لأنه الأريح نفسياً لتفسير الحال والأكثر امتصاصاً لحال الغضب والخيبة من الشخص الموثوق به، وعليه أزيحت الحقيقة العلمية جانباً.

في مقام الذم

ومع شغله مساحة واسعة في مقام المدح بإطلاقه على الفرسان والأقوياء والشجعان، فإن لفظ "تمساح" يطلق أيضاً في مقام الذم، وأطلقه المجتمع السوداني على فئة معينة من المحتالين واللصوص، لكن ليس كل اللصوص، فالتمساح في هذه الحال لا بد من أن يتميز بأحد مصادر القوة أو كلها وهي القوة المالية والشخصية والسند القبلي أو العائلي أو النفوذ. ونتيجة لعدم تردده بسبب هذه القوة ومن دون الرجوع إلى أي وازع أخلاقي، يقال "فلان يبلع مباشرة ولا يمضغ"، وأطلق هذا اللقب بقوة في العقود الثلاثة الأخيرة على الفاسدين من أتباع النظام السابق الذين أثروا بتغولهم على المال العام ولم يكتفوا بذلك بل أنشأوا به أعمالهم الخاصة، وهؤلاء موجودون في مجالات السمسرة في الأراضي والعقارات والسيارات وتجارة العملة وغيرها من الأعمال خارج مظلة الاقتصاد المنظم.

المزيد من تحقيقات ومطولات