Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"اعترافات ستافروجين" في فصل غاب زمنا عن "شياطين" دوستويفسكي

اللغز الحائر حول إصرار الناشر على استبعاد الصفحات الأهم في رواية الكاتب الكبرى

صورة متخيلة لستافروجين في واحدة من أولى طبعات الرواية (موسوعة الأدب الروسي)

في عالم الدراسات النقدية يكون الاهتمام الأساسي عادة منصباً على النص بأكمله على اعتبار أنه يكفي في حد ذاته لوضع القارئ، والناقد بالتالي، على تماس مع العمل ككل، فإن لم يلامسه هذا العمل بالصيغة التي شاءها له الكاتب، سيبقى غريباً عمن يقرأه ما قد يسهم في فشله في الوصول إلى ما يتعين عليه أن يصل إليه. ونعرف أن ثمة في المقابل أعمالاً إبداعية كثيرة حذفت منها الرقابة في فترة ما فصولاً أو صفحات شوهتها لكن تبدلاً في الظروف يعيد الأمور إلى نصابها، ولكن لدينا هنا واحدة من أبرز روايات الكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي، لم تكن الرقابة الرسمية من بترها وإنما الناشر نفسه، ولعل من سوء طالع هذه الرواية أن الفصل الذي حذفه الناشر ووافق دوستويفسكي على الحذف على مضض، سيبدو لاحقاً، بعد عقود طويلة إذ استعادته طبعات أكثر حداثة من الرواية، وإنما من دون أن تعيده إلى مكانه الصحيح فيها، سيبدو وقد أفقد الرواية عمودها الفقري الأساسي، وسنقول لماذا بعد سطور، أما هنا فلنكتف بأن نشير إلى أن الفصل عنوانه "اعترافات ستافروجين: عند تيخون". ومن دونه ظلت الشخصية المحورية في الرواية وهي "الشياطين" (1870) مغلقة ما احتاج إلى كتابة عشرات الدراسات عن الشخصية كتابة ستجعل الرواية نفسها تبدو كالغابة التي حجبتها شجرة واحدة، وهذه الشجرة هي هنا ستافروجين بالطبع، أما الفصل المحذوف فيتألف من خمس ملازم يكتبها ستافروجين بخط يده عازماً نشرها ويقرأها للراهب تيخون فيمنع عنه جزءاً منها على أي حال هو بكل تأكيد الجزء الأهم، الذي لا يبقى للقارئ إلا أن يخمن ما فيه.

خبطة دعائية؟

لو كان ذلك قد حدث في زمن الإعلام والدعاية لكان من حقنا أن نعتبر الأمر خبطة دعائية، ولكن أبداً. فلا الزمن كان زمن مثل هذه السخافات، ولا دوستويفسكي كان من ذلك النوع الذي قد يرضى بهذا، ولا الرقابة لها يد في ذلك! الحكاية غير هذا تماماً، وأصلاً لأن رواية "الشياطين" نفسها شيء آخر، بل ربما يحق لكثر أن يروها أعظم أعمال هذا الكاتب الكبير على الإطلاق، بل ربما واحدة من الروايات الأساسية في تاريخ الكتابة الأدبية. ولنضف إلى هذا على أي حال أن الشخصية التي يخبئ الفصل المنتزع بعض أهم دوافعها، شخصية ستافروجين، يمكن اعتبارها أعظم شخصية ابتدعها قلم دوستويفسكي بالصفحات المنتزعة أو من دونها. وسنقول هنا على الفور لماذا، ولكن هناك فارقاً كبيراً بين أن تكون شخصية ما في رواية أهم شخصياتها، أو أن تكون البطلة. فالحقيقة أن انتزاع فصل "اعترافات..." جعل ستافروجين محور الرواية ولكن ليس بطلها كما كان دوستويفسكي يريد، إذ بات ستافروجين شخصاً لا يظهر إلا بشكل عرضي ونعرفه من خلال الآخرين الذين يرتبطون به بشكل أو بآخر وكل على طريقته. هو الآن منفعل بالأحداث وليس الفاعل الأساسي فيها إلا من خلال الآخرين، لا سيما من خلال بطرس ستيفانوفتش فروخنسكي الذي يبدو مدبراً للأحداث متحكماً فيها، أي قائد اللعبة الشيطانية العدمية التي هي الموضوع الأساس في الرواية.

 

شخصيات حقيقية

سترافوجين لا يعود هنا سوى "الوثن" الذي يريد منه بطرس أن يكون إيفان الجديد الذي يتعبد إليه الآخرون بمن فيهم بطرس نفسه. وبطرس هذا، مثل الشخصيات الأساسية الأخرى مبني ككناية عن أشخاص معروفين في التاريخ الروسي لتلك المرحلة، بطرس هو صورة من نيتشاييف العدمي الذي قاد مؤامرة مشابهة لتلك التي يتصورها دوستويفسكي وحوكم حقاً، نفس الشيء يمكن أن يقال عن بقية الشخصيات التي استقاها الكاتب من الواقع التاريخي ليحكي من خلالها عن خطورة تلك العدمية، ولكن كذلك عن الصراعات بين الروس القوميين والأمميين وأنصار السلافية وأمثالهم، وعلى هذا النحو نجد الكاتب تورغنييف من خلال شخصية الكاتب كارمازينوف الذي سيوصل الاحتفال بـ"تقاعده" عن الكتابة بشكل ساخر، الرواية إلى ذروة عبثيتها وقسوتها، لكننا نجد دوستويفسكي نفسه على أي حال من خلال شخصية ستيفان تروفيموفتش والد بطرس ومحمي بربارا الثرية أم ستافروجين، ولكننا قد نلمحه كذلك من خلال شخصية الراوي الذي يعيش في ذلك المجتمع الذي يصوره هنا كعالم صغير فيعرف كل شيء ويلعب بعض الأدوار لكنه لا يبدو مؤثراً... كل الشخصيات إذن لها خلفية حدثية حقيقية في هذه الرواية السياسية الفكرية التي تكاد تبدو أقرب إلى البيان السياسي والرصد التاريخي، ولكن ليس ستافروجين، فهو وإن كان مبنياً على رفيق قديم للكاتب كان يعرفه من خلال جمعية بتراشفسكي الاشتراكية التي انتمى إليها حيناً، فإنه لا ينعكس في ستافروجين إلا في مظهره، أما في العمق فإن ستافروجين إنما يمثل الفكرة التي يتصورها بطرس عن القائد التنويري الذي يقف خارج الخير والشر ويهيم به الجميع وينتظرونه.

في انتظار "الاعترافات"

بيد أن هذه الصورة ستظل مبهمة وغير مكتملة ومحيرة - كما حال المشهد الذي يلطم فيه شاتوف ستافوجين على وجهه أما حضور يخيل إليهم أن هذا الأخير سيقتله فوراً لكنه ينظر إليه ملياً ثم يبتعد بصورة غامضة، حتى استعادة الفصل المستبعد، ففي "الاعترافات" التي يعبر عنها هذا الفصل مصوراً ما حدث يوم توجه ستافروجين إلى "زنزانة" تيخون في الدير، ها هو هذا القائد الملهم يبدو، أو يريد أن يبدو إنساناً عادياً مرتكباً للشر يحاول الحصول على غفران الناسك لكي يغفر هو نفسه لنفسه، فالمكان الرفيع الذي يضعه فيه بطرس ويتوخى منه الجميع، نساء ورجالاً أن يلعب فيه دوره، لم يعد يلائمه، ولذلك نراه بعد أن كان في السياق الروائي، يمارس أفعالاً جنونية خارجة عن المألوف جاعلة منه كمجنون مقدس، فيقبض على واحد من الأعيان من أنفه ويجرجره خلال حفلة عامة، ويعض الحاكم من أذنه، أو يقبل زوجة رجل بقوة أمام الملأ، نراه الآن يفسر ذلك كله أمام الناسك بل يتهم نفسه بما هو أسوأ: بترك طفلة في الحادية عشرة أغواها، تنتحر من دون أن يردعها عن ذلك، إن كل تلك الاعترافات وغيرها مما يدين ستافروجين وينزل به من أرفع المراتب إلى أحقر المستويات، تبدو الآن أساسية لفهم هذه الشخصية بل كذلك لفهم انتحار صاحبها السابق على "الاعترافات"... ومهما يكن من أمر فمن الواضح أن الاعترافات تعيد بطولة "الشياطين" إلى ستافروجين وتحدث في الرواية قلبة أساسية، لكنها قلبة متأخرة جداً، بل لعل في إمكاننا أن نقول، إنها تبدو الآن غير ذات فائدة حتى ولو كان من نتائجها تحويل البعد "الميتافيزيقي" في الرواية كلها إلى بعد واقعي، ربما يكون هو أيضاً القادر على تفسير العدد الكبير من جرائم القتل والميتات بالصدفة أو انتحاراً التي يمكننا اعتبار ستافروجين مسؤولاً عنها، وحتى من دون أن يقترفها، كمآس ناتجة عن أفعال بطرس الذي يحرك الحكاية كلها، فيخيل إلينا أنه إنما يفعل ذلك رغماً عن ستافروجين الذي سيبدو مجرد آلة في يد القدر يمثله ذلك الشاب العدمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واحدة من أغنى الشخصيات

وفي الحالين سنجدنا على أي حال، سواء مع "الاعترافات" أو من دونها، أمام واحدة من أغنى وأعقد الشخصيات التي رسمها دوستويفسكي في أي من رواياته ـ بل رسمها أي كاتب آخر في تاريخ الكتابة على الإطلاق كما أشرنا أعلاه عن حق، ما يدفعنا بالتالي إلى التساؤل عم جعل الباحثين والدارسين لأدب دوستويفسكي ولرواياته الكبرى خصوصاً، يبدون على دراستهم المعمقة لشخصية ستافروجين، تركيزهم على شخصيات أخرى من تلك الروايات مثل راسكولنيكوف ("الجريمة والعقاب") أو إيفان كارامازوف ("الإخوة كارامازوف") أو الأمير ميشكين ("الأبله")، إذ صحيح أن لكل من هذه الشخصيات أهميتها المطلقة وثراءها الخاص، ولكن الأصح من هذا أنها قد لا تصمد في المقارنة أمام شخصية ستافروجين التي تكاد وحدها في بنائها، الذي ظل للأسف منقوصاً لعقود طويلة من السنين، تختصر كل فن دوستويفسكي بل عبقريته التي جعلت فرويد نفسه يقول يوماً: "إن كل ما اكتشفته في علم النفس والتحليل النفسي يمكن العثور على جذوره لدى دوستويفسكي"، فيما لم يتورع نيتشه عن التصريح بأن "دوستويفسكي هو عالم النفس الوحيد الذي تعلمت منه شيئاً".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة