Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف ينظر الجيل الجديد إلى تقسيم شبه القارة الهندية بعد 75 عاما من وقوعه

أنا أبكي على أمة ممزقة، على جيل من كبار السن مصاب بصدمة نفسية، وعلى الانقسامات الدينية التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وتأثير الحدود التي رسمها الإنسان، ومن أجل تاريخ منسي أثر في كثيرين

صنفت بريطانيا الهنود وفق الهوية الدينية وهذا مثل تبسيطاً مبالغاً فظاً للمجتمعات الغنية في الهند (غيتي)

تصادف غداً ذكرى مرور 75 عاماً على تقسيم الهند، إنها الذكرى الـ 75 لأكبر هجرة جماعية في التاريخ، حيث انشطرت شبه القارة الهندية إلى قسمين، وتفرقت كثير من المجتمعات والعائلات والأصدقاء وعمقوا انقساماتهم عبر الزمن.

هذا اليوم بالنسبة لي بصفتي باكستانية بريطانية شابة، يستثير مشاعر متضاربة، فأنا أشعر بالفخر جراء تمكن شبه القارة من التحرر من أعباء مئات السنين ومن التدهور الاقتصادي الذي تسببت به الإمبراطورية البريطانية، لكن الأسى يتملكني في المقابل جراء الأهوال التي سرعان ما أعقبت التقسيم الحاصل آنذاك.

لأولئك الذين لا يعرفون الوقائع (وهم كثيرون بيننا، نظراً للفجوات الموجودة في مناهج تعليم التاريخ) فإن الهند وباكستان وبنغلاديش كانت تشكل أمة واحدة، أمة ذات تاريخ غني وتقاليد ثقافية ولغات وأديان متعددة. وبالإجمال تعايش الناس ذوو الاعتقادات والخلفيات المختلفة، وكانت تلك البلاد إحدى أغنى بلدان العالم ولديها مجموعة متنوعة من الصادرات الشهيرة مثل البهارات والحرير، كما ارتبطت بعلاقات جيدة مع بقية البلدان والدول.

لكن ابتداء من القرن السادس عشر، بدأت قوى أوروبية عديدة باستعمار الهند عبر بناء تجمعات استعمارية تجارية ساحلية، وبرزت منذ القرن السابع عشر "شركة الهند الشرقية" البريطانية (شركة تجارية سيطرت عليها لاحقاً الإمبراطورية البريطانية) كقوة استعمارية أولية، ومع سيطرتها بدأت رحلة نهاية الهند وفق صيغتها السابقة.

و"شركة الهند الشرقية" المتخصصة بالأنشطة التجارية جاءت بالفساد وفرضت العمل بالسخرة والضرائب الباهظة، حتى أنها مارست التعذيب خلال حقبة سيطرتها في المنطقة، وقد تضمن منهاج ممارساتها إجبار الناس على العمل في ظل الحر الشديد وتقييد ظهورهم بالحجارة، وتقييد الناس بأذيال الحيوانات كي يُسحلوا في الشوارع.

واعتمدت القوة الاستعمارية البريطانية سياسة "فرق تسد". وفي هذا السياق صنفت السياسات البريطانية الهنود وفق الهوية الدينية، وذاك تصنيف مثل تبسيطاً مبالغاً فظاً للمجتمعات الغنية بتنوعها التي ضمتها الهند، كما وقفت تلك القوة الاستعمارية في موقع المتفرج على كوارث مثل "مجاعة البنغال"، حيث مات قرابة أربعة ملايين شخص جراء تحويل وحرف مسار الأغذية والمصادر، فبدل أن تذهب الأغذية إلى سكان المناطق التي تمثل اليوم بنغلاديش وشرق الهند ذهبت إلى البريطانيين، وذاك حصل إبان حكم رئيس الوزراء ونستون تشرشل الذي وصف الهنود بـ"الشعب المتوحش ذي الدين الوحشي" و"المتناسل كالأرانب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن الضيق المالي الذي فرضته الحرب العالمية الثانية عنى أن بريطانيا لم تعد قادرة على الاحتفاظ بمستعمرتها. وفي شهر يونيو (حزيران) 1947 أعلنت الحكومة البريطانية أنها سوف تغادر (الهند) مع حلول أغسطس (آب)، وأن البلاد سوف تقسم إلى باكستان بأغلبية مسلمة، والهند بأغلبية هندوسية، وفق طلب القادة المسلمين الذين شعروا بأن الانقسامات الدينية التي أججتها بريطانيا ستبقى عصية على الإصلاح، وفي الإطار جرى تعيين سيريل رادكليف، المحامي البريطاني الذي لم يسبق له أن زار الهند، لتولي مهمة ترسيم الحدود (بين الهند وباكستان) بفترة لا تتجاوز بضعة أسابيع، وبحلول الاستقلال اندلع عنف يفوق التصور.

مع حلول مساء ذلك اليوم سارع 20 مليون إنسان لعبور الحدود التي رسمت لتوها، وتعرضت عائلات ومجتمعات كثيرة للتفرق والتمزق. ووفق التقديرات فإن عدد الذين لقوا حتفهم جراء القتال آنذاك يترواح بين 200 ألف ومليوني شخص، وقد وصلت القطارات المكتظة بالناس مليئة بجثث الموتى، كما تعرضت النساء للتعذيب والاغتصاب، الأمر الذي دفع كثيرين للانتحار خوفاً من العنف الحاصل.

لقد امتلأت الشوارع بالدماء، وكان جدي الأكبر واحداً من الذين لقوا حتفهم خلال واقعة التقسيم تلك، وهو قتل أمام أعين أفراد عائلته الذين كانوا يحاولون عبور منطقة بنجاب.

اليوم إذ أقوم باستعادة تلك الواقعة لا يسعني سوى التفكر بالذي مر به كل من جدتي الكبرى وجدتي والأنسباء الذين كانوا برفقتهما. كم أتمنى لو تمكنت من محادثة جدتي التي توفيت حين كنت في الحادية عشرة من عمري عن الأحداث التي أعقبت إعلان الاستقلال وعن حياة عائلتها في مرحلتي ما قبل التقسيم وما بعده. كم أتمنى لو أني ساعدتها في التحدث والإفصاح عن الصدمات التي كابدتها بدلاً من كبتها، وكم أتمنى لو أني أظهرت لها كيف جرى إصلاح العلاقات التي كانت مقطوعة واستئنافها في أوساط الجيل الجديد من البريطانيين المتحدرين من جنوب آسيا.

الصدمة الجيلية التي سببها التقسيم لها بالتأكيد جذور عميقة في حياة الآسيويين الجنوبيين الذين يعيشون في الشتات، إذ الآن فقط بعد مرور 75 عاماً قرر كثيرون رواية قصصهم عن الأهوال التي شهدوها وأثرت في عائلاتهم. وأنا كلما عرفت مزيداً عن واقعة التقسيم غالباً ما أبقى عاجزة عن تمالك نفسي من البكاء.

إنني أبكي على أمة مُزقت وانقسمت، على جيل مسنين مصدوم لم يتخل يوماً عن رزانته، وعلى نساء تعرضن لشتى أنواع العنف. أبكي من الانقسامات الدينية المستمرة إلى اليوم، ومن تأثير الحدود التي صنعتها أيدي البشر، وعلى التاريخ المنسي الذي رسم أقدار كثيرين.

كما لا يسعني في هذا الإطار إلا أن أشعر بالغضب من الإمبراطورية البريطانية التي علمونا أن نحتفي ونفخر بها. كيف يمكن الاحتفاء والفخر بمؤسسة سببت الموت لملايين البشر؟ أشعر بالغضب جراء غياب الاعتراف الرسمي بالجرائم المرتكبة، وإزاء التعويضات البائسة التي منحت للذين كابدوا تلك الجرائم.

وسواء تعلق الأمر بمنطقة كشمير، حيث هناك راهناً أزمة إنسانية، أو بالهند، حيث تتعرض الأقليات المسلمة للعنف والتمييز السياسي، أو بباكستان، حيث تستهدف أيضاً الأقليات الدينية، فإن إرث التقسيم الاستعماري ما زال حياً ويتجسد بما تعانيه هذه الأمم من وقائع يومية ومشاعر كراهية سائدة على الرغم من حقيقة أن هؤلاء الناس كانوا يوماً جيراناً وأبناء مجتمعات متداخلة.

لكني إذ أنظر إلى المستقبل أشعر بالفخر إزاء ما يحققه في مجتمعهم اليوم أبناء وبنات الجيل الجديد من البريطانيين من أصل جنوب آسيوي من ناحية استعادة الروابط الثقافية والدينية التي مزقها التقسيم، وأفتخر أيضاً بما نوليه من اهتمام إزاء تعلم تاريخ بلداننا، إذ سواء من خلال الفن والموسيقى أو عبر التحاور، تلعب مسألة تثقيف الذات دوراً أساساً في إعادة بناء العلاقات التي كانت قائمة قبل التقسيم، وفي مساعدتنا على العمل سوياً من أجل مستقبل أفضل كمجتمع أعرض.

وعلى الرغم مما فعلته الإمبراطورية البريطانية تجاه الهند، وعلى الرغم  من الانقسامات المزمنة التي حاولت إنزالها، بقيت هناك على الدوام أمور كثيرة توحدنا، وهي تتخطى ما يفرقنا وتجسد ما أستعيده اليوم بعد مضي 75 عاماً على التقسيم.

نُشر في اندبندنت بتاريخ 15 أغسطس 2022

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء