للإنجليزي من منطقة ويلز إرنست جونز كثير من الأيادي البيضاء على تاريخ التحليل النفسي خلال النصف الأول من القرن العشرين، بل حتى على فرويد نفسه، إذ يجب ألا ننسى أبداً أنه كان واضع أول سيرة متكاملة لـ"مكتشف" التحليل النفسي، بل تلك التي ظلت طوال زمن الأطول والأكثر موثوقية، بحيث كانت هي السيرة المعتمدة لأزمان طويلة، ثم إنه هو من قدم الفكر الفرويدي إلى الإنجليز والأميركيين وساعد مترجم أعمال فرويد الأول والأهم ستراتشي على نشر كتب المعلم في العالم الأنجلو – ساكسوني، بين خدمات أخرى كثيرة قدمها إلى تلك الحركة بكل حماس وأريحية وهو حريص دائماً على مساندة "الأصولية الفرويدية" حتى على الرغم من أنف كبار حماتها المعادين له. ومع ذلك لم تحب تلك الأصولية جونز وغالباً ما اتهمته بالوصولية والطفيلية مقللة من شأنه ومن شأن جهوده! والحقيقة أنه ليس من اليسير معرفة الخلفية التي تكمن وراء ذلك الجحود. حتى وإن كان مراقبون محايدون يرون أن السبب ربما يعود إلى "سوء سمعة جونز من الناحية الأخلاقية". وهو أمر تجلى في اتهامات وجهت ضده ولا سيما في إنجلترا تراوحت بين إغوائه مرضاه من المراهقين أو في الأقل "اللجوء إلى شيء من الإباحية في شرح حالاتهم الجنسية لهم"، والتسبب مرة، في الأقل في تطليق زوج امرأته التي كانت من مرضى جونز قبل نزوحه إلى أوروبا، كما إلى كندا وأميركا لاحقاً، ليضع نفسه في خدمة فرويد وقضية التحليل النفسي. وربما يرى البعض من خصومه أنه لم يفعل ذلك أصلاً إلا هرباً من سوء سمعته في بلده، فيما يقول مدافعون عنه إنه حين كان يعتقل لمحاسبته على تلك "التهم" كان سرعان ما يبرأ بعد ليلة سجن واحدة!
أشد المخلصين
مهما يكن، يبقى من كل ذلك أن جونز خدم قضية فرويد وأخلص له بأفضل وأصدق مما فعل أي واحد من خلصاء عالم فيينا الكبير. وليس فقط عبر تلك السيرة الفريدة ذات الصفحات التي تفيض عن 1500 كتبت بإنجليزية بالغة الأناقة وشديدة الدقة، بل عبر كونه واحداً من قلة لم تصطدم بفرويد ولا مرة، حتى وإن كانت دواعي الاصطدام كثيرة فراح جونز يتجاوزها وكله إيمان بأن التاريخ سينصفه. والحقيقة أن التاريخ لا الفرويديين الأقحاح هو من أنصفه، ولا سيما حين جعل من كتاب صغير له هو "هاملت وأوديب" خير مدخل لدراسة تلك المسألة بالغة الأهمية في تاريخ التحليل النفسي الفرويدي، مسألة عقدة أوديب التي ربما شكلت نقطة الخلاف الأساسية، في الأقل في بعدها المتعلق بالقضية الجنسية، بين فرويد والعدد الأكبر من مريديه ورفاقه، تباعاً، من آدلر وفرويد إلى فليس وفيرنتزي. ولا سيما منهم أولئك، من أمثال هذا الأخير الذين في مرحلة أو أخرى رأوا المعلم فرويد ينصرهم على جونز ويبديهم عنه، فتكون النتيجة أن يخاصم جونز فيرنتزي مثلاً لكنه يتسامح مع فرويد ويسامحه. والحقيقة أن التفسير الذي يقدمه إرنست جونز في كتابه الصغير هذا للعقدة الأوديبية كما صاغها فرويد باكراً منذ سبتمبر (أيلول) 1897 كان منذ صدوره بشكل مكتمل في عام 1949، خير مرافعة في الدفاع عن الفرويدية، ولا سيما أن جونز قد ركز فيه على العلاقة التي هرع فرويد منذ البداية ليقيمها بين أوديب وهاملت، واصلاً عبر ألفي عام بين بطلين مسرحيين ينتمي أولهما إلى الزمن الإغريقي التراجيدي والثاني إلى الزمن الإليزابيثي البريطاني. ومن الواضح لمن يقرأ صفحات هذا الكتاب قدر الحماس الذي اشتغل به جونز عليه وآمن به، على الرغم من علمه بأن كثراً من أتباع فرويد ومريديه كانوا خلال حقبة أو أخرى يغضون النظر عن الفكرة برمتها، بل يمكننا أن نقول في هذا السياق إن جونز يبدو مؤمناً بالعقدة الأوديبية أكثر من فرويد نفسه!
افتتان المعلم
وكما يفسر الناقد والباحث السويسري جان ستاروبنسكي في التقديم الذي وضعه لكتاب جونز، بدا فرويد على طول مجرى حياته وكتاباته، وتحديداً كما يمكن تلمس ذلك في نص هذا الكتاب، مفتوناً باكتشافه العلاقة بين أوديب وهاملت، وغالباً "معكوسة على أحلام فرويد نفسه" وهو انعكاس لا شك أن في الإمكان، وكما يلفتنا جونز على أية حال، ملاقاته في فصول وصفحات عديدة من أول مؤلفات فرويد الأساسية الكبرى "علم الأحلام" (أو "تفسير الأحلام") حيث يشتغل فرويد، انطلاقاً من ممارسته نوعاً من التحليل النفسي الذاتي مستنداً إلى أحلام يعيشها أو حتى على ذكريات أحلام تعود إلى زمن طفولته وغالباً ما ترتبط بعلاقات جوانية لديه تتعلق بنظرته إلى أمه وإلى أبيه منذ طفولته الباكرة، ربما سيدرك بعد زمن طويل مدى قدرتها على ترجمة العلاقة التي سيدركها لاحقاً بين هاملت وأوديب. ولعل اللافت في فصول كتاب جونز كم أنه يكتب عن تلك العلاقة نفسها، وغالباً من وجهة نظر فرويد بلغة بالغة القوة والتشويق، مفادها المضمر إيمانه بأن التحليل النفسي هو وحده القادر على أن يحل وعبر العصور ذلك اللغز المزدوج: لغز أوديب من ناحية ولغز هاملت من ناحية ثانية. ولعل أجمل ما في كتاب جونز هو ذلك التقسيم الذي توخى الاشتغال عليه منطلقاً من بحث أخاذ حول العلاقة بين "التحليل النفسي وعلم الجمال"، منتقلاً بعد ذلك إلى ما يسميه مشكلة هاملت، مستعرضاً مختلف الحلول التي اقترحت لها على مدى التاريخ، سواء أكانت حلولاً تربطها بأوديب أو أخرى تغض النظر تماماً عن مشكلة هذا الأخير. وهو بعد استعراض هذا الموضوع من شتى جوانبه يكرس دراسة بأكملها تحت عنوان "الحل التحليل النفسي" تنطلق بأكملها من التفسير الفرويدي المباشر ليوصله ذلك إلى البحث في ما يعنونه "التراجيديا والعالم النفساني في الطفولة الأولى". وهذا البحث بالتحديد سيكون ما يستحث حماسة زميلته ميلاني كلاين تجاه عمله في هذا المجال وهي التي كثيراً ما صرحت بأنها، وتحديداً في مجال اشتغالها على سيكولوجية الأطفال التي كانت اختصاصها الأساسي، استندت إلى هذا البحث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين قتل الأم وقتل الأب
مهما يكن فإن جونز ينتقل من هنا إلى موضوعة "قتل الأم" التي يراها معادلة لموضوعة "قتل الأب" الفرويدية الخالصة والأوديبية الخالصة على أية حال، ما يسير به نحو الاشتغال، على طريقة التحليل النفسي لحالة معينة بالأسلوب نفسه الذي اشتغل عليه فرويد نفسه في بعض دراساته الخمس المبكرة لحالات معينة مثل حالة الرئيس شريبر وحالة آنا... بشكل يمكن اعتباره هنا استكمالاً لموضوعة "قتل الأم" ولكن تحت عنوان لا يخلو من استفزاز هو "هاملت وشكسبير". ولعل هذا الاشتغال "الأوديبي" بامتياز هو ما يؤدي ببحث جونز إلى التعمق في دراسة "مكانة هاملت في الميثولوجيا" واصلاً إلى التعمق بالتالي في ما يعتبره "عملية الانزياح التي قام بها شكسبير لشخصية هاملت". صحيح أن هذا الاستعراض للعناوين الرئيسة التي تشكل كتاب جونز هذا ستضعنا أمام سؤال ينطلق من الانطباع بأرجحية الحيز المعطى لهاملت في البحث كله على حساب أوديب، ولكن هذا الانطباع ليس صحيحاً. فالحال أن ما كان يهم جونز في هذه الدراسة التي نشر صفحات قليلة منها قبل نشر الكتاب بأربعين عاماً وصدرت في مجلة أميركية متخصصة في التحليل النفسي، إنما كان نوعاً من تطبيق لنظرية فرويد حول عقدة أوديب على شخصية هاملت وتحديثاً انطلاقاً من الربط الذي أقامه "المعلم" بين الحكايتين. وهو حين راح بعد ذلك يضيف إلى تلك الصفحات القليلة مزيداً من الأفكار المتحولة فصولاً عاماً بعد عام بل عقداً بعد عقد، وجد في نهاية المطاف أمامه دراسة مكتملة فنشر الكتاب كما هو وتحديداً "كنوع من تأكيد أصالة الفكرة الفرويدية" الأساسية التي كان عمرها حينها قد جاوز نصف القرن. وحسناً فعل حيث واضح أن الدراسة المعنونة اليوم "هاملت وأوديب" وصدرت للمرة الأولى كاملة عام 1949 بعد عشر سنوات من رحيل فرويد، تعتبر من دون أدنى شك من الإسهامات الأساسية بالنسبة إلى النظرية الفرويدية والعلاقة بين التحليل النفسي والعقد الطفولية والعائلية، أو بالأحرى من أكثرها شعبية.