Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسرى بوتين

كيف عززت حرب إمبريالية مدمرة حكم بوتين في الداخل

"بوتين ليس بطرس الأكبر، بيد أن الغزو الإمبراطوري لطالما كان وسيلة فعالة لحشد الدعم" (رويترز)

هل روسيا في حالة حرب؟ بالنسبة إلى أي شخص يزور موسكو أو حتى مقاطعاتها خلال هذا الصيف، قد يكون من الصعب أحياناً العثور على أدلة تشير إلى ذلك، إذ يمضي الناس في حياتهم المعتادة، ويستمر الاقتصاد في العمل. كذلك، لا يوجد نقص في السلع الاستهلاكية، حتى الآن، نجح ما يسمى الاستيراد الموازي بشكل جيد، وهو النظام الذي يتحايل المستوردون الروس بموجبه على العقوبات الغربية باستخدام دول أخرى. ولم يبقَ سوى التضخم مستعصياً على الحل، مع معدل سنوي يفوق حالياً نسبة 16 في المئة، بيد أن كثيراً من المواطنين لا يبدون منزعجين للغاية مما يحدث على حدودهم الغربية، ففي الأقل حين يسألون عن ذلك.

ووفقاً لبيانات استطلاع الرأي التي نشرها مركز ليفادا المستقل (Levada Center) في يونيو (حزيران)، لا يبدو أن الروس قلقون جداً في شأن الآثار الاقتصادية المترتبة على الصراع. ويقول نصف المشاركين إن العقوبات ستقوي البلاد وتحفز التنمية، فيما يعتبر ربع آخر أن العقوبات لن يكون لها تأثير سلبي في النمو. في غضون ذلك، استقرت نسبة تأييد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوق 80 في المئة، أو ما يزيد بنحو عشر نقاط على الأرقام التي سجلت في فترة ما قبل الحرب. وعندما يتعلق الأمر بالحرب نفسها، يقول عدد من المشاركين إنهم مستعدون لشد الأحزمة [أي التقشف أكثر] وإنهم فخورون ببلدهم وجيشهم. ويعبر كثيرون أيضاً عن تفاؤلهم بأن ظروف المستهلكين ستتحسن، وأن مستقبل الإنتاج المحلي يبدو واعداً.

قد يكون من المغري الافتراض أن الروس يخشون ببساطة أن يعبروا عن آرائهم بصراحة، بيد أن النتائج التي توصل إليها مركز ليفادا، والتي تتقلب بشكل كبير من شهر لآخر، أثبتت بشكل عام أنها مؤشر مفيد يدل على الاتجاه الذي يميل إليه المزاج العام. وفي الوقت الحالي، يبدو أن عديداً من الروس متفائلون بشكل ملحوظ في شأن مستقبلهم الجماعي، على الرغم من إطلاق الدولة مشروعاً إمبريالياً واسعاً في شرق أوكرانيا، وهو مشروع أدى بالفعل إلى موجة غير مسبوقة من اللاجئين وترك روسيا معزولة بشكل متزايد.

ومع اقتراب الحرب من نهاية شهرها الخامس، يشير الوضع في روسيا إلى بدء حدوث تحول، في كل من الحكومة وعموم السكان. وكما أوضح بوتين، فإن خطط روسيا في أوكرانيا ستستمر بغض النظر عن العواقب الاقتصادية، علماً بأن كل المؤشرات تدل أنها ستكون عواقب كبيرة. بالنسبة إلى الروس العاديين، يعني ذلك أن "العملية الخاصة" لن تنتهي في أي وقت قريب. عوضاً عن ذلك، يجب عليهم تقبل روسيا الجديدة، التي من الضروري فيها التصرف بشكل وطني ودعم مسرحيات بوتين وعدم الاهتمام بالمصاعب المؤقتة. في روسيا الجديدة، الجميع بخير طالما لا يتم إجبارهم على الدخول إلى الخنادق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إمبراطورية مطلية بالذهب

بالنسبة إلى أولئك الذين يولون اهتماماً كافياً بما يجري، ليس من الصعب العثور على مؤشرات على حجم التكلفة المترتبة على الحرب. في 12 يونيو، على سبيل المثال، نشرت إزفستيا (Izvestia)، وهي صحيفة كانت ليبرالية ذات يوم واستولى عليها الكرملين منذ فترة طويلة، بياناً على موقعها على الإنترنت نيابة عن سيرغي كيرينكو، النائب الأول لرئيس الأركان في عهد بوتين وسيد الألاعيب السياسية الرئيس في الكرملين. وجاء في البيان أن "روسيا كلها ستعمل على إعادة بناء دونباس التي دمرها الفاشيون. نعم، سيكلف ذلك عدة تريليونات من الروبلات، ولكن سيتم تخصيص تلك الأموال من ميزانية الدولة، حتى على حساب انخفاض مؤقت في مستويات معيشة الأمة". وتابع أن كيرينكو كان "يعمل اليوم على دمج الأراضي الجديدة في وطننا الأم".

بالطبع، لم يتمكن أي مسؤول في الكرملين من الاعتراف علانية بأي شيء كهذا، وسرعان ما حذف البيان، في اليوم التالي، قالت إزفستيا إن موقعها قد تعرض للاختراق وإن الوثيقة مزورة، كما اتضح، كان بياناً مزيفاً، ربما ابتكره منتقدو كيرينكو، بيد أن كل شيء في تقرير إزفستيا يبدو صحيحاً، إذ إن روسيا تنوي فعلاً أن تبقى مسيطرة على تلك المناطق، أو كما قال بوتين في الذكرى 350 لولادة بطرس الأكبر، أن "تستعيد وتقوي" تلك الأراضي الإمبراطورية. وسيكون لذلك بالتأكيد تكلفة باهظة، ما يضع ضغطاً هائلاً على الموارد الاقتصادية والقوى العاملة في البلاد.

سوف يتم السعي وراء طموحات الكرملين الإمبريالية بغض النظر عن التكلفة.

في الوقت الحالي، لم يترك الكرملين أدنى شك في أن الاقتصاد يأتي في المرتبة الثانية بعد طموحاته الإمبريالية. في الواقع، تم تأكيد ذلك في تسريبات من لقاء بوتين في منتصف يونيو مع أليكسي كودرين الذي يرأس ديوان المحاسبة، وهو عبارة عن هيئة عينها البرلمان تشرف على إنفاق المالية العامة للدولة. وبصفته وزير المالية السابق لبوتين، يصدف أن كودرين هو أيضاً الزعيم غير الرسمي لليبراليين الروس داخل النظام، وفي الاجتماع، حذر كودرين الرئيس الروسي من أن إطالة أمد "العملية الخاصة" ستكون لها عواقب اقتصادية وخيمة، بيد أن بوتين رفض الإصغاء، وأبلغ كودرين أن السعي وراء تحقيق "أهداف العملية" سيستمر بغض النظر عن الأضرار الاقتصادية التي قد تسببها.  

لكن روسيا ستقع قريباً في ورطة كبيرة. فمن أجل الحفاظ على رؤية بوتين، يجب أن تصبح إعادة إعمار الأراضي الأوكرانية التي احتلتها القوات الروسية ودمرتها، الركن الأساسي لسياسة الكرملين. وسوف يتطلب ذلك نفقات هائلة من الخزانة وبالتحديد في الوقت الذي يصل فيه الإحساس بوطأة عواقب الحصار الاقتصادي الغربي لروسيا إلى أقصى درجاته. علاوة على ذلك، بحلول الربيع المقبل، سيتزامن هذا الألم الاقتصادي مع بدء الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2024، التي يتعين على بوتين أن يفوز بها في تصويت حاسم للاحتفاظ بقبضته الحديدية على السلطة.

وبالفعل، اضطرت المناطق الأكثر ثراءً في روسيا، مثل موسكو، إلى تقديم مساعدة مادية للأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا، وهي مناطق يشير إليها المسؤولون الآن على أنها روسية "إلى الأبد". ومن المتوقع أيضاً أن تسهم الهيئات الحكومية الإقليمية الروسية والوزارات الفيدرالية في الموارد الإدارية: سيتناوب بعض المديرين على العمل داخل وخارج المناطق الروسية في أوكرانيا، بينما سيتم تعيين آخرين في مناصب دائمة. بطريقة موازية، لن يفتقر التكنوقراطيون الشباب الطموحون إلى الفرص، إضافة إلى ذلك، يجري أيضاً إرسال معلمي المدارس إلى الأراضي المحتلة من أجل تلبية الحاجة الملحة لتلقين السكان المحليين العقيدة البوتينية. وفي سياق متصل، تعتبر النسخة الرسمية للتاريخ الروسي مهمة بشكل خاص، وهي تتضمن أصلاً الاعتراف باستقلال دولتي [دونيتسك ولوغانسك] في دونباس. وعلى الرغم من ذلك، فالكرملين لا يعد المواطنين العاديين بأي مزايا خاصة من هذا التوسع الإقليمي، بل يعتبر أن ذلك مسألة أيديولوجية بحتة تعيد روسيا إلى حدودها الصحيحة المزعومة.

ومن خلال إشراك الروس في المشروع الإمبريالي يسعى الكرملين بشكل بديهي إلى نوع جديد من العقد الاجتماعي بين الدولة والجزء الملتزم من المجتمع الروسي. وفي الواقع يجب أن ينجح هذا العقد لفترة، في الأقل بالنسبة إلى أولئك الذين تم إبعادهم بسهولة عن الحرب نفسها. ومعنى ذلك العقد هو تقريباً على الشكل الآتي: يدعم السكان "العملية الخاصة" كحملة لحماية السيادة الروسية مقابل عدم إعلان بوتين عن تعبئة عسكرية عامة، وعرض الخدمة العسكرية التعاقدية فحسب لأولئك الذين يريدون القتال.

مزيد من الصبيان، مزيد من الرصاص

إن الأوهام الروسية السائدة في شأن "العملية الخاصة" يغذيها بشكل خاص تفاؤل الكرملين نفسه. لنأخذ على سبيل المثال منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي (St. Petersburg International Economic Forum) هذا العام، الذي انعقد في يونيو، هذا الحدث السنوي، الذي عرف في ما مضى باسم "دافوس الروسي"، كان يضم رجال الأعمال والقادة السياسيين من جميع أنحاء العالم. على النقيض من ذلك، كان أبرز الضيوف هذا العام دينيس بوشيلين، رئيس جمهورية دونيتسك الانفصالية الشعبية، وهو رجل كان إنجازه الأهم قبل الحرب في دونباس الأوكرانية هو مشاركته في المخططات الهرمية [أو الاحتيالات الهرمية]، ويونس موماند، خبير اقتصادي غامض من "طالبان".

وعلى الرغم من ذلك، في خطابه في المنتدى، أشع بوتين تفاؤلاً. وفيما انتقد ما سماه "العقوبات المجنونة ضد روسيا"، وصف بثقة التقدم الاقتصادي للبلاد؛ إذ قال "لقد حققنا استقراراً في الأسواق المالية والنظام المصرفي وشبكة التجارة. والآن نحن مشغولون بإشباع الاقتصاد بالسيولة". لقد وضع أهدافاً مختلفة، مثل تحسين عمل إدارة الإسكان والمرافق (على ما يبدو، لم تكن فترة أكثر من عشرين عاماً في السلطة كافية للقيام بذلك). وكما في السنوات السابقة، حث الروس على إنجاب مزيد من الأطفال. واعتبر أن "مستقبل روسيا تضمنه العائلات التي تنجب طفلين وثلاثة وأكثر".

تبدو تلك الدعوات غريبة عفا عليها الزمن على أفضل تقدير، ولكن في الوقت الذي يقتل فيه الأطفال في أوكرانيا ويفقد المجندون المراهقون الروس حياتهم، تبدو تعليقات بوتين تهكمية تماماً، إذ إنها تعطي الانطباع بأن نظامه يحتاج إلى ولادة مزيد من الأطفال ليضافوا إلى كومة وقود المدافع [الجنود الذين يضحى بهم] الضرورية لتوسيع الإمبراطورية، من أجل "استعادة وتقوية" أراضي شعب آخر. في الواقع، إن التركيز على جنود المستقبل الذين لم يولدوا بعد يثبت أيضاً استعداد المستبد للقتال طوال سنوات مقبلة.

على أي حال، يتعارض حلم بوتين الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي بشكل واضح مع الوضع الواقعي على الأرض. وفقاً للخبير في الديموغرافيا أليكسي راكشا، ولد عدد أقل من الأطفال في روسيا في أبريل (نيسان) 2022 مقارنة بأي شهر منذ سنوات الحرب الرهيبة في عامي 1943 و1944. بالطبع، يعد الانخفاض الحاد في معدلات المواليد، نزعة سائدة في أوروبا، وقد تفاقم بسبب جائحة كورونا والسن المتأخرة التي تنجب فيها المرأة طفلها الأول. في روسيا، يوجد أيضاً عدد أقل من الأشخاص في سن الإنجاب مما كان عليه في السابق، ولدت أمهات اليوم الجدد في تسعينيات القرن الماضي، عندما انخفض معدل المواليد أيضاً. في بداية عام 2023، سيتضح مدى تفاقم تلك العوامل الموجودة بسبب "العملية الخاصة" في أوكرانيا.

أما بالنسبة إلى الاقتصاد، لا يبدو الواقع الحالي واعداً. تواجه روسيا ميزانية حكومية أصغر، ما يجعل من الصعب شراء ولاء نسبة كبيرة من الروس الذين يعتمدون على الدولة في معيشتهم. هناك أيضاً صعوبات في سوق العمل. في الواقع، استخدمت الحكومة تكتيكات مختلفة لإبقاء أرقام البطالة الرسمية منخفضة، بما في ذلك تقليل عدد ساعات العمل في الأسبوع من أجل الحفاظ على الوظائف، على الرغم من ذلك بدأ معدل العاطلين عن العمل في النمو بالفعل. وبما أن هيكل الاقتصاد الروسي المتضرر من العقوبات أصبح أكثر بدائية، إذ لا يمكن لقطاعات متقدمة بأكملها مثل صناعة الطيران والسيارات أن تعمل من دون التكنولوجيا الغربية وقطع الغيار، سيكون هناك طلب أقل على الموظفين ذوي المؤهلات العالية. في الوقت نفسه، في بعض القطاعات، مثل تكنولوجيا المعلومات، غادر البلاد جزء كبير من القوة العاملة، هذا مجرد جانب واحد من رأس المال البشري المتدهور في روسيا.

لن تساعد التغييرات في نظام التعليم الروسي على تفادي أي من ذلك، بينما لا تزال كتب التاريخ المدرسية قيد التحديث، أعطت مدارس متعددة دروساً تشرح كيف حدثت "الإبادة الجماعية" لشعب دونباس ولوغانسك على مدى ثماني سنوات ولماذا وجب "تحريرهما". إذاً، من خلال إدارة ظهرها للمعايير الأوروبية للتعليم العالي (أعلنت الحكومة أن روسيا ستنسحب من نظام بولونيا) والروابط العلمية مع العالم الخارجي لصالح التلقين الجماعي للبوتينية، التزمت الحكومة تدهوراً طويل الأمد في جودة القوى العاملة الروسية.

نحن جميعاً إمبرياليون الآن

الشيء الوحيد لدى الرئيس الروسي ليقدمه لأنصاره الآن هو توسيع الأراضي الإمبراطورية وإعادة بنائها. وهذا يتوافق مع الخط الأيديولوجي القديم جداً لبوتين، الذي لطالما أصر على وجود "عالم روسي" يشمل، في رأيه، أوكرانيا، وفي نظره هي لا تملك كيان دولة منفصلاً عن روسيا. وقد دعم هذا المشروع من خلال تدخلات مثقفي بوتين، مثل ميخائيل بيوتروفسكي، مدير متحف هيرميتاج في سانت بطرسبورغ، الذي قال "نحن جميعاً إمبرياليون وعسكريون" واعتبر أن روسيا "تفرض نفسها" في الحرب.

بوتين ليس بطرس الأكبر، بيد أن الغزو الإمبراطوري لطالما كان وسيلة فعالة لحشد الدعم. في عام 2014، أدى ضمه شبه جزيرة القرم إلى تجديد رئاسته، وجلب له قبولاً واسعاً استمر لعدة سنوات، ولكن بعد ذلك، في عام 2018، رفع بوتين سن التقاعد، وبدأت شعبيته تخمد، بحلول سبتمبر (أيلول) 2021، أظهر استطلاع أجراه مركز ليفادا أن 46 في المئة فقط من الروس مستعدون لإعادة انتخابه. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا استعاد بوتين الغالبية الساحقة من الأصوات. بحلول مايو (أيار) 2022، ارتفع عدد الروس الذين يقولون إنهم سيعيدون بوتين إلى السلطة إلى 72 في المئة، وهي أعلى نسبة على الإطلاق. إلى حد ما، قد تعكس أرقام الاستطلاعات تلك تنامي عدم رغبة الروس العاديين في الابتعاد عن الرأي السائد، أي الرأي الذي يوجهه الكرملين، لكنه لا ينفي أن النتائج هي حقيقة سياسية.

لا أحد يستطيع القول إن بوتين لا يمسك بزمام الأمور.

فلماذا يكلف النظام البوتيني نفسه عناء إجراء انتخابات على مختلف المستويات، بما في ذلك التصويت الإقليمي الذي سيجري في أجزاء كثيرة من روسيا في سبتمبر؟ في نظام سلطوي يخضع لمراقبة تامة، ويراعي القائد، تبدو منافسات من هذا النوع غير ضرورية. يكمن الحل في أن هذا النظام الذي يركز على القائد يحتاج إلى أن يثبت باستمرار لرعاياه أن غالبية عظمى منهم تدعمه، وعلى كل المستويات، من البلدية إلى الرئاسية. وهذا هو سبب الحاجة إلى إجراء انتخابات خارج روسيا أيضاً. يبدو من المعقول أنه في المناطق الأوكرانية المحتلة مثل خيرسون، تماماً كما في شبه جزيرة القرم في 2014، قد يتم إجراء استفتاءات حول ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى روسيا، إضافة إلى الانتخابات المحلية العادية. ولا حاجة إلى القول إن نتائج تلك الاستفتاءات يجب أن تكون محددة سلفاً، ما يعطي توسع الإمبراطورية قناعاً شبه شرعي.

قد يكون قرار بوتين غزو أوكرانيا حماقة تامة، ولكن في ما يتعلق بالتمسك بالسلطة، وتعزيز شعبيته، وجعله يبدو وكأنه لا يمكن الاستغناء عنه، فقد اتضح، في الأقل في الوقت الحالي، أنه كان القرار الصحيح بالنسبة إليه شخصياً. لا أحد بين النخب يستطيع أن يقول إن بوتين ليس في موقع السيطرة. بغض النظر عن مقدار الضرر الذي ألحقته الحرب بالاقتصاد والشعب الروسي ومكانة روسيا في العالم، فقد ازدادت قوة بوتين الشخصية بشكل ملموس، وبدلاً من حصول معركة ناشئة حول خلفه المستقبلي، لا تجري الآن سوى منافسة بين المقربين منه الغيورين.

اللا مبالاة الجديدة الشجاعة

بطبيعة الحال، لا يعتبر توسيع الإمبراطورية وفرض خطاب إمبريالي الطريقة الوحيدة التي يمكن للكرملين من خلالها صرف انتباه الروس عن واقع مقلق على نحو متزايد. نظراً إلى أن الناس العاديين يجدون سبل عيشهم مهددة أكثر فأكثر، سيحتاج النظام إلى أحد يلومه على الوضع الاقتصادي المزري، وسوف يصرف الانتباه بنوع من التمثيلية، مثل ملاحقة أباطرة الأعمال الذين فقدوا حظوتهم وكشف الممارسات الفاسدة التي تقوم بها شخصيات بارزة، ثم تزويد الجمهور المضطهد بتلك المعلومات المضللة. وقد تم بالفعل اتخاذ مثل تلك الخطوات: في 30 يونيو، ألقي القبض على فلاديمير ماو، رئيس أكاديمية الاقتصاد الوطني، وهو خبير اقتصادي ليبرالي يتمتع بسمعة طيبة للغاية، بتهم مشبوهة للغاية بأنه اختلس أموال الجامعة. يجري أيضاً فضح من يسمون بالطابور الخامس، مثل الناشطين السياسيين فلاديمير كارا مورزا وإيليا ياشين، اللذين سجنا بتهمة تشويه سمعة الجيش، ونائب البلدية أليكسي غورينوف، الذي حكم عليه بالسجن سبع سنوات بتهمة "نشر أخبار مزيفة عن الجيش".

بيد أن أياً من تلك التكتيكات لن يضع الخبز على الموائد الروسية [لن يؤمن لقمة عيش الشعب الروسي]، بالتالي يجب على الحكومة أن تبتكر مزيداً من الطرق لدعم الفئات السكانية التي تعاني أكثر من غيرها. يمكن دعوة المحتاجين إلى المال أو العاطلين عن العمل أو اليائسين للذهاب واستعمار الأراضي الجديدة. حاضراً، يتم استخدام هذا المنطق لتجنيد متطوعين في الجيش وجنود مرتزقة مستعدين، بأقل قدر من التدريب، للقتال في أوكرانيا مقابل رواتب مبالغ بها حديثاً. ومن خلال وضع الفقراء تحت رحمة الدولة أكثر، يستطيع بوتين بسط سيطرته بشكل أكبر.

وعلى الرغم من ذلك، لا يعتبر تعزيز القوة هو المكافأة الوحيدة التي نالها بوتين من "العملية الخاصة". في الواقع، منحته أيضاً شعباً مخدراً بشكل متزايد. لقد سئم الروس من الحرب، وعلى نطاق أوسع، من الأخبار السلبية. وهذا ما يفسر اللا مبالاة غير العادية إزاء نقل زعيم المعارضة المسجون أليكسي نافالني إلى مجمع سجون آخر، قد يكون أكثر خطورة على صحته وحتى على حياته. ويفسر أيضاً التراجع الشديد في الاهتمام بتحقيق فريق نافالني الأخير الصادر في يونيو والذي يظهر الخطأ العظيم المرتكب من الرئيس التنفيذي لشركة غازبروم (Gazprom)، أليكسي ميلر. ووفقاً للتقرير، فإن ميلر ورفاقه متورطون في مخططات فساد واسعة النطاق تسمح لرئيس شركة غازبروم بإثراء نفسه على حساب الشركة. قبل بضع سنوات فحسب، كان مثل هذا التقرير الفاضح يبقى في طليعة المحادثات الروسية لأسابيع، لكن الاهتمام ينصب الآن في مكان آخر. كذلك، أعيقت التغطية الإعلامية للتحقيق بسبب الإسكات شبه الكامل لوسائل الإعلام المستقلة في روسيا منذ بدء الحرب.

بطبيعة الحال، انشغل الروس بأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي أدى إلى ذهول عاطفي: ما سرقة ملايين الدولارات مقارنة بخطر الحرب النووية؟ بمعزل عن الإرهاق، يشعر كثيرون أيضاً بالعجز عن تغيير أي شيء ويسعدون بوجود بوتين، ليس لاتخاذ القرارات نيابة عنهم فحسب، بل للتفكير بدلاً منهم أيضاً. بالتأكيد، كشف تحقيق ميلر عن مخالفات بمليارات الدولارات في أموال دافعي الضرائب، ولكن الآن يتم إنفاق تلك الأموال على الحرب. والناس لا يهتمون، بل يريدون تركهم وشأنهم فحسب. هم يعرفون أن كبار الشخصيات يسرقون، والآن بعد أن أصبحوا في حالة حرب مع العالم بأسره، لا يعد اتخاذ إجراءات صارمة ضد السرقة أولويةً. إذاً مرة أخرى، تظهر مشكلات نافالني أن لا فائدة من أي احتجاج وأنه من الأفضل الوقوف إلى جانب الأغلبية.

بعد ما يقرب من خمسة أشهر من الحرب، مضى الروس قدماً. وهذا ينطبق على كل من مؤيدي بوتين ومعارضيه. وقد بدأت عملية التكيف، لأن الجميع بحاجة إلى الصمود، مادياً ونفسياً. وأصبحت الحرب وضعاً طبيعياً جديداً سيئاً، وفي هذه المرحلة، تفوق بوتين على الجميع مجدداً، بما في ذلك شعبه.

أندري كوليسنيكوف هو زميل رفيع الشأن في مؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي"

مترجم عن فورين أفيرز، يوليو (تموز)، 2022

المزيد من تحلیل