Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن الثقافة العربية وإعادة البناء من الأساس

المدخل العربي عن الأدب العربي في "ويكيبيديا" لا يصل إلى عشرة آلاف كلمة بينما المدخل الإنجليزي (وهو أحد تسعة مداخل) يتألف من نحو 15 ألف كلمة؟

لوحة لرسام على الأواني الفخارية في مدينة طنجة المغربية (غيتي)

على الرغم من أن حب الوطن طبع تتوجب تغذيته الصحيحة في النفوس منذ الصغر، فإن الفخار الزائف شيء آخر لا يمكن وصفه إلا بأنه أسوأ ما يمكن أن يلحق بأي أمة. وهذا لأنه يهدهد الضمير ويعمي البصر إزاء النواقص والعيوب، فيسد الطريق على النقد الذاتي ويستعيض عنه بمقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان". وبعبارة أخرى فهو يلبس الحال - بخيره القليل وشره الكثير- جلد البقرة المقدسة التي لا تُمس.

وإذا اتفقنا مع هذا الأساس وفتحنا أعيننا على الواقع، رأينا ما لا يسر. فالحقيقة التاريخية الثابتة هي أن الثقافة العربية - منذ نهاية عصر الإسلام الذهبي في وقت ما بين القرنين 12 و14 - أصبحت من دون مفعول لها في مناهل العلم والفكر الإنسانية الحديثة، لأنها انكفأت على موروثها من هذه الحقبة وتوقفت عنده. وهي، بالإضافة، اكتفت بما لديها ولم تنقل - سواء بالأصل أو التأويل أو الترجمة - ما توفر للثقافات الأخرى من مناهل المعرفة. وتبريراً لهذا الوضع، وجدت مختلف المعاذير وجلها ينصب في أن تلك المعارف "تيارات دخيلة غريبة على التقاليد والأعراف". ولهذا فإن الثقافة العربية الإسلامية (منذ سبعة قرون في الأقل) ظلت أحادية منعزلة وجامدة لا تؤثر في الثقافات الأخرى ولا تتأثر بها.

لا دهشة

على ذكر عصر الإسلام الذهبي، هل يدهش المرء إذا بحث عنه في "موسوعة ويكيبيديا" - مثلًا - ولم يجد له مدخلاً باللغة العربية؟ وهذا بينما تناولته لغات أخرى هي: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والهولندية واليونانية والماندرين الصينية والبنغالية والبنجابية وحتى لغات مغمورة مثل السكوتسية (اسكتلندية الأراضي الوطيئة Scots) والمليلامية (جنوب غربي الهند).

ومجدداً، هل يدهش المرء إذا وجد أن المدخل العربي عن الأدب العربي في الموسوعة نفسها لا يصل إلى عشرة آلاف كلمة (قسم منها أبيات من هذا الشاعر أو ذاك)، حين يجد أن المدخل الإنجليزي (وهو أحد تسعة مداخل) يتألف من نحو 15 ألف كلمة؟ وهذا من دون ذكر المردود المعرفي الغني الذي تجده في المدخل الإنجليزي وقلته وضعفه الواضحين في المدخل العربي. وعموماً إذا تصفحت هذا المنبع المعرفي الهائل الذي أتاحته التكنولوجيا الحديثة، خرجت بحقيقتين: الأولى تتعلق بالمانح العربي. فأنت تلمس ضعفاً مريعاً في المساهمة العربية المؤلفة رئيسياً من القليل من مواد أصيلة واهية فكراً ولغة وصياغة أو ترجمة مستعجلة ومبتسرة وركيكة. والثانية أن المتلقي العربي (إذا سعى للمعرفة في المقام الأول) لا يجد في هذا الحال مدعاة للقراءة لأن المادة نفسها لا تجره إليها.

 

وعن القراءة

انظر إلى إحصاءات اليونيسكو في تقريرها عن التنمية البشرية في 2003 وجاء فيها أن العربي يقرأ بمعدل ست دقائق في السنة مقابل الأوروبي الذي يقرأ بمعدل 200 ساعة. وجاء أيضاً في تقرير المنظمة الدولية عن التنمية الثقافية أن "معدل قراءة العربي لعام 2011 لم يزد مطلقاً عما كان عليه في إحصاءات اليونيسكو لعام 2003". ويقدر تقرير آخر أعده "المرصد العربي للتربية" أن يكون هناك "49 مليون أمي في العالم العربي. من بينهم نحو 15.5 مليون ذكر و33.5 مليون أنثى يبلغ عدد الأميين الشباب منهم نحو 6.5 مليون". وحسب المرصد العربي أيضاً فإن "نحو 5.6 مليون طفل عربي ما بين 6-11 سنة لم يلتحقوا أساساً بالمدرسة (61.2 في المئة منهم من الإناث)".

ومع ذلك فأنت تجد إحصاءات عدة تقول إن العالم العربي لا يعاني ارتفاع الأمية. على أن المقصود الأرجح هنا هو أمية القراءة والكتابة من دون اعتبار لأشكالها الأخرى المهمة التي تغربل الأمم إلى متقدمة ومتخلفة. وعليه يمكن القول إن هذا هو ما يبرر ارتفاع نسبة القادرين على القراءة والكتابة في عديد من الدول العربية وفي الوقت نفسه غياب مساهماتها في مضمار التقدم العلمي الإنساني.

محنة الدارس بالعربية

يكاد العربي الذي تلقى تعليماً أكاديمياً متوسطاً يستوي من حيث المخزون المعرفي مع ذلك الذي تلقى تعليماً عالياً. وثمة ثلاثة أسباب وراء هذا الوضع الغريب:

الأول، أن أنظمة التعليم في سائر الدول العربية انتهجت التلقين والتحفيظ وسيلة وحيدة لإيصال العلم. وعلى هذا الأساس صارت الامتحانات غربالاً يفصل بين "الحافظ" و"الناسي" وصارت بالتالي "الطبقة المتعلمة" مؤلفة في غالبيتها العظمى من أناس حفظوا عن ظهر قلب ما تلقوه في فصول الدراسة من دون فهمه واستيعابه بالضرورة. ولأن هذا يأتي من دون سبر لقدرة الطالب على الفهم والاستيعاب، صارت تلك الأنظمة - في سائر مراحلها من الابتدائي إلى العالي - تهمل تنشئة الحس الفطري السليم، وتحبيب المعارف، وشحذ العقل نفسه كآلة للتفكير التحليلي النقدي الحر، والحكم الموضوعي العاقل على الأشياء، وتقييم المعارف نفسها بميزان العقل النقدي.

وعندما يُقال "فلان شاطر" لأنه جاء الأول على صفه، فالمقصود في واقع الأمر أنه الطالب الذي حفظ وتذكر في وقت الامتحان القدر الأكبر مما لقنوه خلال العام الدراسي وسجله على ورقة الإجابة، فنال درجة تعلو على الباقين. ولا يهم ما إن كان يفهم ويستوعب معاني ومضامين ما كتبته يده، لأن هذا ليس مطلوباً منه ولأن الامتحانات مقياس لما حفظه عن ظهر قلب وليست مقياساً للمستوى المعرفي الذي توصل إليه. بعبارة أخرى، صنعوا منه ببغاء. ثم ينتقل هذا الشاطر إلى السنة الدراسية التالية (وقد نسي ما حفظه في السابقة) ويعيد الكرَّة حتى يتخرج بأعلى الدرجات الأكاديمية، وهو في واقع الأمر مثل بوابة مرت عبرها المعرفة من دون أن تبقى فيها أو تترك أي أثر فيها. أما الكارثة فهي أنه يدخل - بفضل هذا النجاح الأكاديمي الزائف - في نخبة صناع القرار ومستقبل البلاد بينما هو في الواقع ليس أهلاً لذلك.

والثاني، أن الثقافة العربية لم تشغل نفسها بالعلوم والرياضيات والتكنولوجيا، سواء القديمة أو الجديدة (والمعارف الحديثة عموماً) منذ أيام ابن الهيثم وابن النفيس قبل مئات السنين. والمحصلة بين أيدينا اليوم هي غياب أي مصادر مكتوبة بالعربية يمكن اعتبارها مراجع يعود إليها طالب الدراسات العليا أو دونها أو الباحث بالعربية في سعيه إلى المعارف. والمراجع ليست كتباً مرصوصة للزينة وإكمال الأثاث وإنما هي البنية التحتية اللازمة لأي نظام تعليمي وعظم الظهر الصلد الذي يتشكل حوله قوام المؤسسات التعليمية، بخاصة العليا. وأضف أن الثقافة العربية لم تسهم - سواء بالإنتاج أو البحث - في مسيرة التكنولوجيا الحديثة التي غُرست بذورها في تربة الثورة الصناعية (1766-1840) وتثمر في عصرنا هذا عجائب الرقاقات الدقيقة يوماً بعد آخر، بل إن الثقافة العربية لم تكلف نفسها عناء السعي لمعرفة ماهية هذه التكنولوجيا الحديثة وتدوين خباياها في أي مراجع مكتوبة بلغتها. فصار المنفذ الوحيد للناطق بالعربية الذي يريد المشاركة في هذه الثورة الجميلة أن يتعلم لغة أجنبية تتوفر فيها المصادر اللازمة لغرضه، لأن لغته لا توفرها له.

والثالث، أن الناطقين بالعربية لم ينقلوا بالترجمة أياً من المراجع في سائر العلوم الحديثة ومن المخزون العلمي الهائل الذي توفر لأمم أخرى، إما لعجز عن الترجمة نفسها و/أو للكسل و/أو للفشل في تقييم أهمية تلك المعرفة و/أو للاعتقاد الخاطئ أن الناقل من الغرب ناقل أيضاً للإثم والانحلال الأخلاقي وموسوم بالتبعية والتقليد الأعمي. ويكفي هنا تقرير اليونيسكو الشهير في 2014 الذي جاء فيه أن "ما يترجم إلى الإسبانية في سنة واحدة يعادل ما ترجم إلى العربية في ألف سنة". والمختصر المفيد هنا هو أن الدارس باللغة العربية - كما حال المؤسسات التعليمية في سائر أرجاء المنطقة - لن يجد مراجع ودراسات يستند إليها لأن المكتبة العربية تخلو بالكامل منها، سواء كانت مؤلفة أو مترجمة.

 

وحتى بافتراض أن العرب تنبهوا إلى أن الترجمة هي المنفذ الوحيد إلى المعرفة في القرن الحادي والعشرين، فثمة عائق هائل يتمثل في تدني إلمامهم بلغتهم نفسها. فلا يكفي أن المترجم يتقن لغة "حية" ويعتبر ضليعاً في ثقافتها في حين تجد أن إلمامه بلغته العربية لا يؤهله للكتابة الصحيحة بها. وإذا كان عاجزاً عن هذا فكيف يستطيع الترجمة؟ وانظر فقط إلى المختارات التالية من عناوين ومواد نشرتها بعض كبريات الصحف والمجلات العربية:

- من لا يعرف فاليقرأ التاريخ

- معظم القراء متمسكين بلقرآن وآياته

- الخارجية: نرجوا التوصل للحل في وقت قريب

- خمس الأسبان عاطلين عن العمل

- عالم يصاب بفيروس كمبيوتر ليصبح أول مصاب بهكذا نوع

- الأمة التي انقسمت إلى أمتان ومصيران

- كن موضوعي واحترم رأئي الاخريين

أتحدث بلسان وأقرأ بلسان

ثم هناك العقبة المرتفعة كالجبل أمام الطفل في بداية مشواره التعليمي، أي عندما يجلس ليتعلم القراءة والكتابة، فيجد نفسه على أرض أجنبية تتحدث بلسان ليس لسانه. ويجيء هذا الوضع الغريب نتيجة ازدواجية اللغة عند الشعوب الناطقة بالعربية، ونقول "الناطقة بالعربية" تجاوزاً لأنها في الواقع ناطقة بلهجات مشتقة من العربية الفصحى هي "اللغات" الدارجة. وتبلغ الاختلافات في هذه حد أنك إذا جمعت، قل، لبنانياً وجزائرياً وسودانياً لم يسمع أي منهم لساناً أجنبياً، فمن شبه المؤكد أنهم لن يفقهوا قول بعضهم بعضاً على الرغم من أن ثلاثتهم يتحدثون "العربية".

والعربية الفصيحة لغة أشبه باللاتينية: مكتوبة لكنها غير منطوقة في التخاطب اليومي ولا تُسمع إلا في ما يُقرأ من الورق على الراديو والتلفزيون ومنابر الخطابة مثلاً. وغني عن القول إن الفصحى لم تصمد أمام تأثير الدارجة عبر مئات السنين إلا بفضل القرآن والحديث. فأصبحت هي اللغة المكتوبة لكنها ما عادت لسان العرب الناطق مثلما كان حالها في القرن السابع الميلادي مثلاً.

وتعلم هذه اللغة غير المنطوقة في الحياة اليومية والمعقدة إملاءً ونحواً وصرفاً هو أول التحديات العاتية التي تواجه الطفل الناطق بالعربية الدارجة وتميزه عن بقية أطفال العالم الذين يكتبون ويقرأون ما ينطقون. وهذا وضع متناهي العسر، لأن من شأنه أن يدمر حياة الإنسان الأكاديمية وهي في مهدها. والسبب بسيط: إن لم يتقن الساعي للنجارة مثلاً استخدام أدواتها، كالمنشار والفأرة والإزميل، فلا مستقبل له فيها. والشيء نفسه ينطبق على العلم عندنا: إن لم يتقن المرء أداة اكتسابه، وهي العربية الفصحى، فمن أين له بمستقبل فيه؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما العلاج؟

العلاج -وقد شخصنا معظم جوانب العلة- سهل وشبه ممتنع في الوقت نفسه. سهل لأنه يتعلق أولاً وأخيراً بالتعليم الصحيح... التعليم القائم على الفهم والاستيعاب وليس التلقين والترديد. وشبه ممتنع لأن بدء المسير في هذا الاتجاه الصحيح يستلزم التخلي عن الفخار الزائف والإقرار بأنه ليس في الإمكان أسوأ مما كان. على الدول العربية جميعاً أن تقر بأن أنظمتها التعليمية معطوبة وبعيدة من الثورات التكنولوجية التي صنعت الغرب وأحالت قططاً مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة نموراً. لكن عليها أن تعلم أن الطريق طويلة في هذا الاتجاه. فإذا بدأت التصحيح اليوم، استلزم الأمر 40 – 60 سنة لقطف أولى الثمار. فلتبدأ إذن... إن لم يكن للأجيال الحاضرة، فمن أجل مستقبل أفضل من هذا لأجيال المستقبل.

* أنجز الكاتب هذا المقال بتصرف من دراسة له بعنوان "فشل المثقف السوداني" صدرت العام الحالي بالخرطوم.

المزيد من ثقافة