Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اليابانية يوكو أوغاوا تجذب القراء العرب بواقعيتها الغرائبية

في رواية "شرطة الذاكرة" تخترع جزيرة وتبدد حياة سكانها وتوقعهم في المجهول

الروائية اليابانية المترجمة إلى العربية يوكو أوغاوا (دار الآداب)

تعرّف القارئ العربي إلى الروائية اليابانية يوكو أوغاوا (1962) مبكراً من خلال ترجمة روايتها "حوض السباحة" في عام 2001، على يد الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار. وقد أتبعها بترجمة رواية أخرى لها بعنوان "غرفة مثالية لرجل مريض" التي صدرت عام 2005. واسم  بسام حجار وحده كان يشجع القارئ على اقتناء أي عمل يقوم بترجمته، نظراً إلى متانة سبكه اللغوي ودقة تعريبه. و كما حال الروايتين السابقتين صدرت ليوكو أوغاوا عن دار الأداب عام 2019 ترجمة روايتها "حذاء لك" أنجزها السوري معن عاقل. ولكن قبلها صدرت لها عن دار الرافدين عام 2017 روايتها "مدبرة المنزل والأستاذ". ثم أصدرت دار الآداب رواية جديدة لها هي "شرطة الذاكرة"، بترجمة محمد آيت حنا، وهي الرواية التي ترجمت إلى كثير من اللغات العالمية ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر في عام 2020.

في الروايات الثلاث الأولى اعتمدت أوغاوا على حدث واحد صغير لتكتب رواياتها في أقل من 100 صفحة. حتى ظن قراؤها بأن ذلك هو أسلوبها في كتابة النوفيلا، التي لا تشبه الروايات الضخمة التي تأتينا من اليابان. لكن روايتها "شرطة الذاكرة" تبدو مختلفة  إذ تجري أحداثها الغريبة في 625 صفحة.

تعتمد أوغاوا في روايتها الجديدة على حدث غريب وسريالي، وهو اختفاء الأشياء في جزيرة لا تحمل اسماً. وكلما أُعلن اختفاء شيء ما يقوم السكان بالتخلص من ذلك الشيء إذا ما زال في حوزتهم، إما برميه في البحر أو النهر أو حرقه بحسب طبيعة ذلك الشيء. وكل من لا يتخلص من الشيء الذي اختفى تلاحقه شرطة الذاكرة أو من تسميهم الراوية "ملاحقو الذكريات". هكذا نعرف سبب غرابة عنوان هذه الرواية التي تبدأ على لسان الراوية هكذا، "أتساءل من حين إلى آخر، ما أول ما اختفى من هذه الجزيرة". فقبل أن تولد الراوية لأم تعمل في النحت وأب هو عالم طيور بزمن طويل "كانت هناك أشياء وافرة، أشياء شفافة، عطرة، مرفرفة، براقة... أشياء مذهلة، لا يسعك تصورها، أشياء حكت لي أمي عنها حين كنتُ طفلة".

 

مصير مجهول

وكانت الأم تحتفظ ببعض الأشياء التي كانت تختفي من الجزيرة، ولا تتخلص منها كما الغالبية الكبرى من السكان وتخفيها في أدراج سرية ثم في منحوتات قبل أن تستدعيها شرطة الذاكرة ولا تعود بعد ذلك إلى البيت. كانت مهمة شرطة الذاكرة هي تثبيت اختفاء ذلك الشيء. فمثلاً إذا اختفت العطور فعلى جميع السكان التخلص من جميع العطور الموجودة عندهم. وإذا وجدت شرطة الذاكرة قارورة عطر في بيت أحد السكان يعني ذلك عصيان أوامر الشرطة ويقود إلى اعتقال ذلك الشخص.

المسألة ليست هكذا فحسب. فإذا استيقظ السكان على اختفاء شيء ما فإن "دلالة" ذلك الشيء تختفي أيضاً! فعندما استيقظت الراوية على اختفاء الطيور وكان والدها عالم الطيور قد توفي قبل ذلك الحدث واختفت أمها، وانتبهت للسكان وهم يطلقون سراح الطيور التي كانوا يحتفظون بها. والطيور كانت سرعان ما تغادر الجزيرة كلها. "انتبهتُ إلى أن كل ما يتعلق بتلك الطيور قد امّحى من قلبي. اختفت "دلالة" كلمة طائر وكذلك اختفى ما أحمله لها من مشاعر وما يجمعني بها من ذكريات. باختصار، اختفى كل شيء".

وبسبب عمل والدها المتوفى كعالم طيور جاءت شرطة الذكريات وفتشت مكتب الأب وبيته لتخرج منه كل ما يتعلق بالطيور من كتب وأبحاث وصور ومجسمات، وأخذتها معها لتتخلص منها. فبما أن الطيور اختفت فلا بد من التخلص من كل شيء يتعلق بها. إذ إن "أولى مهام شرطة الذاكرة الحرص على إرساء الاختفاءات".

 

سهولة متابعة الحياة

عندما يختفي الشيء تختفي دلالته ويختفي معه العمل الذي كان مرتبطاً به. فعندما اختفت العطور سرعان ما اختفت المهن المرتبطة بذلك وسرعان ما وجد مَن كان يعمل في مجالات صناعة أو بيع العطور عملاً آخر، كأمين مستودع أو بائع خضروات أو سائق سيارة أجرة. وعندما يبدأ في عمله الجديد يبدو الأمر وكأنه لم يعمل سابقاً سوى هذا العمل. كان الناس ينسون سريعاً أعمالهم السابقة مع حتمية اختفائها، وكان عليهم خوفاً من ملاحقي الذكريات أن يعثروا على عمل جديد، بينما يشكل العمل السابق مع اختفاء الشيء المتعلق به فجوة في الذاكرة ما عاد من الممكن معرفة ما فيها. لذلك كان الناس يتابعون حياتهم بسهولة وكأن شيئاً لم يحصل. وهذا يُعطي دلالة عميقة للعبودية. العبودية التي تعن، في منحى ما تنفيذ الأوامر من دون مناقشتها والتعود على هذا التنفيذ ومواصلة العيش والبحث عن لقمة العيش.

الراوية التي تعمل ككاتبة للروايات لا تكون شجاعة مثل أمها. بل لنقل هي تشبه عامة الشعب الذين يرضخون لحالة اختفاء الأشياء. ولأن ناشرها طلبته شرطة الذاكرة إلى مقرها، قررت أن تخفيه في بيتها. في مكان لا يخطر على بال أحد ويساعدها في ذلك الجد وهو صديق قديم للعائلة.

الراوية لا تكتب هذه الرواية بل تسردها. بينما تكتب رواية أخرى داخل هذه الرواية لا علاقة لها بالجزيرة، ولكنها تتعلق كذلك باختفاء شيء من بطلتها التي تتمرن لتصبح كاتبة على الآلة الكاتبة. وعندما تتقن ذلك بأسلوب غريب من معلمها تفقد صوتها. ويسجنها معلمها في أعلى برج في  الكنيسة. وهي قصة فاتنة ضمن الرواية الأساسية.

حرق المكتبات

نعرف حال الراوية الكاتبة عندما يُعلنون عن اختفاء الكتب، بالتالي يجب على جميع الناس التخلص مما لديهم من كتب، وصارت هناك محارق كثيرة وكبيرة للتخلص من كل تلك الكتب الأدبية والمدرسية وغيرها. تقول الراوية، "كانت المكتبة غارقة في أتون النيران، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها شيئاً يحترق بهذه الروعة وهذا الجمال". انصاعت الراوية/ الكاتبة لضعفها وعبوديّتها، على الرغم من شجاعتها في إخفاء ناشرها عن ملاحقي الذكريات، ولم تتأثر بفقدانها الكتابة والكتب. بل إن امرأة أخرى صرخت ضد حرق الكتب والتخلص منها قائلة إنه لا يُمكن لأحد أن يخفي ذكرى الروايات. وقام ملاحقو الذكريات باعتقالها من بين الحشود الصامتة. "كنتُ قد صرت عاجزة عن قراءة رواية حتى وإن كنت أستطيع قراءة الكلمات بصوت عالٍ (تقصد مخطوط روايتها الجديدة)، إلا أنني لم أكن أستطيع فهمها باعتبارها حكاية مسترسلة. لم تعد الكلمات إلا حروفاً تملأ مساحة الورقة ولا تثير فيّ أي عاطفة أو جواً عاماً أو مشهداً".

أشياء كثيرة تختفي رويداً رويداً عن سطح هذه الجزيرة، ويصل الأمر إلى اختفاء القدم اليسرى. وهذا لا يعني أن القدم تختفي، بل ما عادت مستعملة! وبعد أن اعتاد الناس على السير بقدم واحدة جاء دور اليد اليمنى لتختفي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الناشر الذي أخفته الراوية لا يفقد أي شيء، ولا ذكرى الأشياء التي اختفت سابقاً. لأنه وقف ضد شرطة الذاكرة ولم يسمح لملاحقي الذكريات بأن يصنعوا فجوات في ذاكرته. هو يتذكر كل شيء ويسترسل في الحديث عن تلك الأشياء المختفية للراوية، كي تردم تلك الفجوات في ذاكرتها، ولكن لا أمل فهي قد رضخت وانتهى الأمر.

العمى وحديقة الحيوان

الفتاة المحبوسة في برج الكنيسة لم تهرب عندما جاءتها الفرصة مثلها مثل سكان الجزيرة الذين كانوا يعتادون على اختفاء الأشياء ويرضخون لنسيانها.  لم يقاوموا شرطة الذاكرة، ولم يحاولوا المقاومة والنجاة حتى عندما بدأت أعضاؤهم تختفي عضواً بعد آخر.

الفتاة وسكان الجزيرة رضخوا لمصيرهم الواضح وهو الاختفاء عاجلاً أم آجلاً، ولم يحاولوا الإفلات من ذلك المصير الغامض، ولكن القادم لا محالة. "في المرة الأولى، لما فقد الناس أقدامهم اليسرى لم يدروا ما العمل فساروا مترنحين، أما الآن، وقد كادت تختفي أجسادهم بأكملها، فتراهم يسيرون من غير أن يختل توازن أحدهم. بقدر ما تقل الأجزاء يزداد انسجام الأجساد التي تكيفت مع أجواء الجزيرة المليئة بالفجوات. يترنحون خفافاً  في الهواء كأنهم حزم أعشاب برية تهزها الريح".

رواية "شرطة الذاكرة" اختراع لفكرة جديدة في فن الرواية تشبه اختراعات سابقة عظيمة سواء في الحالة مثل رواية "العمى" للبرتغالي جوزيه ساراماغو أو "حديقة الحيوان" للبريطاني جورج أورويل. أو في المكان مثل رواية "مئة عام من العزلة" للكولومبي غابريل غارثيا ماركيز التي تنشر سحراً غريباً في نفس القارئ الذي لن يفقد المتعة على الرغم من ضخامة العمل، رواية تسرد بشكل سلس أمراً حياتياً وبشرياً ضخماً من دون الذهاب إلى المصطحات والسياسة والديكتاتورية، رواية مكتوبة للمتعة وتترك للقارئ مسألة التفكير في ما بعد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة