العودة إلى ماضي السينما من خلال أفلام لا تزال ماثلة في وجدان المشاهدين، هي واحدة من أهم وظائف مهرجان "كارلوفي فاري" السينمائي (جمهورية تشيكيا) الذي انطلق الجمعة الفائت في مدينة الينابيع الساخنة ويستمر إلى السبت المقبل. وعليه، كان العرض العالمي الأول للفيلم المرمم حديثاً "المزحة" للمخرج الراحل ياروميل ييريش والمأخوذ من رواية للكاتب الكبير ميلان كونديرا، واحدة من أهم اللحظات في هذه الدورة التي تحمل الرقم 56.
مشاهدة الفيلم بهذه النسخة المرممة والصورة المنقّحة أعطتنا الإنطباع بأنه صوّر قبل وقت قصير، إذ أن أعمال الترميم الدقيقة التي أُجريت تحت إشراف الأرشيف السينمائي الوطني التشيكي، ردت الاعتبار إلى مجموعة عناصر كانت مخبأة في تجاعيد الزمن. وفي مقدّمها الصورة الباهرة التي كان شكّلها مدير التصوير يان تشورجيك. فلا مثيل للأبيض والأسود وتدرجاتهما، عندما يتعلّق الأمر بسينما شرق أوروبا التي أبصرت النور في الستينيات، سواء في بولندا أو المجر أو تشيكوسلوفاكيا سابقاً. سينما يسهل التعرف إلى ملامحها، فكلّ شيء داخل الإطار مختلف عن السائد، من الشاشة المربّعة إلى التفاصيل، مروراً بدرجة الرمادي التي تكاد تعبّر عن الضغوط السياسية التي تعيش الشخصيات في ظلها. أما بالنسبة للذي لا يتحدّث اللغة التي تنطق بها الشخصيات، فسماع لغات سلافية لا يفهمها ولكن ليست غريبة تماماً على الاذن، كان ولا يزال وقعها مختلفاً ويخلق مشاعر من نوع آخر.
دبابات روسية ومنع
ياروميل ييريش أنجز "المزحة" في العام 1968. تم تصويره في مناخ سياسي معين وخرج إلى الصالات في مناخ سياسي مختلف تماماً عن تلك التي صُوِّر فيها. عندما حط في الصالات كانت تشيكوسلوفاكيا قد غزتها الدبابات الروسية. النجاح الشعبي الذي حققه في الصالات كان معتبراً، لكن لم يدم، إذ سارعت السلطات إلى منعه وسحبه من البلدان التابعة للاتحاد السوفياتي، وظل هذا المنع ساري المفعول حتى سقوط الستار الحديد.
كان المخرج في الثالثة والثلاثين من العمر عندما أنجز هذه التحفة البصرية، وذلك بعد أربع سنوات على إنجازه "الصرخة الأولى" الذي عُرض في مهرجان "كانّ" كأول فيلم يعبّر عّما سُمي لاحقاً بـ"الموجة التشيكوسلوفاكية الجديدة" التي تميزت بالدعابة السوداء واستخدام ممثّلين غير محترفين. هذه الموجة التي انطلقت في بداية الستينيات كانت مهّدت الطريق لـ"ربيع براغ"، فأُطلقت عليها تسمية "المعجزة التشيكية"، وكان أبرز روادها ميلوش فورمان وإيفان باسر وفيرا تشيتيلوفا وييري منزل وياروميل ييريش.
ليس تفصيلاً ذكر أن الفيلم مقتبس من رواية "المزحة" لميلان كونديرا، الكاتب التشيكي (92 عاماً) الذي لا يزال ينتظر قراؤه أن تتكرم عليه الأكاديمية السويدية بجائزة نوبل للآداب. الرواية، وهي أول عمل له ذاع صيتها عالمياً، كانت صدرت بالتزامن أو ربما أثناء أو حتى بعد (المصادر متضاربة في هذا الشأن) نقله إلى السينما في واحدة من أسرع عمليات الأفلمة التي شهدتها الشاشة، وهي أفلمة مخلصة جداً للرواية، علماً أن أدب الكاتب التشيكي شهد أربعة اقتباسات سينمائية، أشهرها "خفّة الكائن التي لا تُحتمل"، إخراج فيليب كوفمان (1988).
تجري أحداث رواية "المزحة" في الفترة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية والعام الذي سبق "ربيع براغ". المناخ السياسي الستاليني الذي تصفه الرواية ضاغط على الشخصيات، حدّ تتولد منه مجموعة مفارقات وظروف ومواقف يتعامل معها النص بسخرية شديدة. في هذا الشأن، قال المنظّر السينمائي الأميركي أموس فوغل في كلمة كتبها عن الفيلم: "هذه أعظم تهمة بالتوتاليتارية وُجِّهت إلى بلد على الاطلاق".
الرقابة البولشيفية
تبدأ الحكاية في أواخر الأربعينيات. الطالب لودفيك يان (يوزف سومر) يتلقى من ماركيتا التي يحبّها رسالة مشبّعة بالأمل والمشاعر الإيجابية تجاه الاشتراكية، فيرد عليها بأن التفاؤل أفيون الشعوب، مستنكراً سذاجة الحقبة التي تعيش فيها، ومذيلاً رسالته بـ"عاش تروتسكي". مزحة سيدفع ثمنها غالياً، ملاحقة قانونية وإقصاء، ذلك أن ماركيتا لن يعجبها مضمون الرسالة فتخبر عنه للسلطات المعنية، الأمر الذي يتسبب بطرده من الجامعة وضمّه للجيش لست سنوات في فوج مخصص للأشغال الشاقة، علماً أنه يتم التصويت على استبعاده من الجامعة. فجأةً، يجد لودفيك نفسه عدواً للنظام السياسي القائم. من كان يعتقدهم رفاقه يصبحون أعدائه. تمر السنوات، ويقابل لودفيك هيلينا (يانا ديتيتوفا)، صحافية إذاعية تهتم بعمله. خلال اللقاء تتاح له رؤية صورة زوجها الذي كان رفيقاً سابقاً له، وأحد الذين سعوا لطرده من الجامعة. فيقرر إغراءها على سبيل الانتقام منه. أخيراً، تدق ساعة تصفية الحسابات.
"المزحة" أحد أجمل الأفلام عن صناعة العسف والاعتباط داخل نظام حكم يسيطر على بلاد. نظام يساهم في تحويل المواطنين إلى وحوش، مستخرجاً أسوأ ما في داخلهم: الجبن والحماقة وغيرهما من العيوب التي تصبح سلاح الإنسان الوحيد أمام الخوف. بنزعة فطرية إلى كشف التفاصيل، يظهر الفيلم آفة الفكر الأوحد الذي هيمن على المجتمع في هاتيك الفترة، والذي نتجت منه خيانات كثيرة. هذه هي الجبهة التي عمل عليها ييريش الذي ظل واضحاً في مواقفه السياسية وقناعاته الراسخة، وقدّمها للمُشاهد بلا أي مساومة أو تنازل أو خوف، حتى أن الإعجاب الذي أثاره يومها لا يزال طازجاً قائماً ولم يتبدد بعد مرور نحو 45 سنة. ويكمن السر في ان المواجهة لم تكن سياسية فحسب، بل فنية في المقام الأول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحمل الفيلم في طياته الكثير من الميلانكوليا التي تظهر من كثرة الذهاب والإياب بين الحقبات الزمنية. ندرك تدريجاً العبثية التي يقع فيها لودفيك. كيف يمكن لمزحة أن تشكّل خطراً على عقيدة ويخافها مَن يعتنقها؟… هذه السينما التي يؤسسها ييريش لقطة بعد لقطة، ليست بحاجة إلى الكثير من الكلام. كلّ شيء كامن في النظرات المتبادلة بين الشخصيات، وكامن على الوجوه والاشارات التي ترسلها الصورة المحمّلة بقوة تعبيرية هائلة. على المُشاهد اليقظ التقاطها وتحليلها. هذه سينما كانت ولا تزال، فعل مقاومة في مواجهة آلة القمع والاستبداد.
أخيراً، تتأتى عظمة "المزحة" من قدرة المخرج على إلقاء نظرة رقيقة وحنونة على مجتمعه، ممّا يمنعه بلوغ القسوة واللؤم. يقدّم ما يقدّمه بحرية تامة، لا بل يمكن القول إنه مثال لممارسة الحرية في السينما. مثال للسينما الذاتية التي نشأت في شرق أوروبا وكانت لها جماليتها ولغتها وأساليبها الخاصة، ورؤيتها للعالم من خلال تناول الوضع السياسي القائم بسخرية. اكتشاف (أو اعادة اكتشاف) "المزحة" بعد مرور نحو نصف قرن من التاريخ الذي شهد تحولات جذرية، يذكّرنا بما كنّا نعرفه جيداً: أكثر ما تخافه الأنظمة القمعية هو الدعابة، النكتة، المزحة، السخرية، الضحك. أي كلّ هذه الأشياء التي حوّلتها السينما التشيكوسولوفاكية إلى آلية دفاع.