Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ينجح النقد الإيكولوجي في قراءة الشعر العربي الحديث؟

الناقدة زهيدة درويش جبور تستنطق الشعراء في علاقتهم بالبيئة الطبيعية

عندما يصبح الأدب مرآة البيئة الطبيعية (إيكولوجي ميديا)

الناقدة زهيدة درويش جبور الأكاديمية والأمينة العامة السابقة للجنة الوطنية للـ "يونسكو" تواصل عملها البحثي والنقدي عبر عمل جديد صدر لها (2022) عن دار جروس برس يتناول الشعر العربي الحديث وعلاقته بثقافة البيئة  بعنوان "الشعر العربي المعاصر، من منظور إيكولوجي".

وما لا غرابة فيه أن تكون الكاتبة المختصة بالأدب الفرنكفوني والواسعة الاطلاع على الاتجاهات النقدية والأدبية الجديدة في العالم الغربي، وذات الصلات الوثيقة بمجتمع المعرفة فيه، فد أطلقت اتجاهاً جديداً، بل منظوراً نقديا معاصراً، لم تكد تمضي ثلاثة عقود على ولادته انطلاقاً من الأوساط الأدبية والنقدية الأنكلوفونية، في كل من الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا وأستراليا وغيرها.

ولما كان هذا المنظور غير معروف لدى القراء العرب بعامة والجمهور المعني بالنقد الأدبي بخاصة، فقد رأت الكاتبة أن تخص مقدمة الكتاب (ص9-15) بالحديث الموجز عن هذا الاتجاه النقدي وأهم مرتكزاته قبل أن تمضي إلى استنطاق مدوناتها الشعرية لـ 12 شاعراً لبنانياً وعربياً هم أنور سلمان ونزيه أبو عفش ووديع سعادة وعلي جعفر العلاق وشوقي بزيع وعبدالعزيز المقالح وجودت فخر الدين وإبراهيم نصرالله وعيسى مخلوف وسيف الرحبي و أديب صعب وفوزي يمين، واستخراج ما تراه موافقاً معايير هذا المنظور وعناصره من تلك المدونات.  

إذاً تقيم الكاتبة في مقدمة الكتاب ربطاً بين نشأة هذا الاتجاه النقدي في الغرب وبين المشكلات البيئية الناجمة عن الإفراط في التصنيع، من مثل التلوث في المياه والهواء والتربة والقضاء على الثروة الحرجية والسمكية والحيوانية والتصحر وصولاً إلى التغير المناخي الذي بدأ يتهدد العالم بكوارث شاملة، ولكن أهم التحولات برأي الكاتبة ورأي الباحثين كان إدراك فئات واسعة من المفكرين والكتاب والأدباء والعلماء أنه بات من اللزوم إحداث تغيير جذري في التفكير البيئي الإيكولوجي وإعادة النظر جذرياً بالتراث الفلسفي والاجتماعي والسياسي والروحاني بما يفيد كسر احتكارية الإنسان والإقرار بكيانية الطبيعة واستقلالها وحقها في الديمومة عبر الزمن.

النقد الإيكولوجي الغربي

وبالعودة للاتجاه النقدي البيئي الذي ظهر في البلدان الانكلوفونية العام 1990، والذي سمي إيكو-كريتيك، يقول شيريل غلوتفيلي في تعريفه إياه، "إن النقد البيئي كناية عن درس العلاقة القائمة بين الأدب والبيئة الطبيعية. والمقاربة البيئية تركز على تبصر الناقد في صور الأرض في الأدب بمقدار ما تركز المقاربة النسوية على درس اللغة والأدب من منظار الجندر، وبمقدار ما تركز المقاربة الماركسية على درس الصراع الطبقي في الأدب".

وفي سبيل تحقيق تلك المقاربة البيئية يلجأ الدارسون إلى مصطلحات باتت شائعة لديهم وذات قدرة على وصف الأدب وتصنيف مضامينه، على حد ما يوردها غريغ غارارد من مثل التلوثات والأدب الرعوي و(النظرة) الرؤيوية و(السجل) الحيواني والنباتي والبرية والأرض وغيرها، يضاف إليها إيثار أصحاب هذا الاتجاه الكتابة الرومنطيقية على ما عداها لكونها تحمل في طياتها أغلب عناصر النص البيئي الجدير بأن يكون مدونة رسمية للنقد البيئي المشار إليه أعلاه. ولكن للأمانة وإن كانت هذه المصطلحات التي اتفق أصحاب التيار النقدي البيئي على اتباعها كناية عن موازين أو مؤشرات على مدى انطباق هذه المعايير أو العناصر على هذه المدونة الشعرية أو تلك والمحصورة في الجانب الموضوعاتي، فإن الناقدة زهيدة درويش جبور لم تأل جهداً في رصد معظم المظاهر الأسلوبية والجمالية اللافتة في كل مدونة من الـ 12 للشعراء العرب الـ 12، وهذا ما يحسب ربحاً للمنهج النقدي البيئي، إذ لا تكتفي فيه الناقدة بتقصي المظاهر الرومنطيقية في الشعر المدروس ولا تقف عند أهم ما تحمله المصطلحات الواصفة في المدونة وحسب، وإنما تمضي أيضاً إلى استخلاص أغلب المظاهر الأسلوبية اللافتة، لا سيما الصور الشعرية والتراكيب وبنية القصائد أحياناً، حتى لتصح نسبتها إلى "الشعرية البيئية" التي نادى بها كل من سبيك وهايز وكريستوفل وغافيون وبلان وجيورجوتي، كل بحسب منطلقه.

وأياً يكن الاتجاه البيئي أو العلم الإنساني المستعان به لتظهير الأثر البيئي في الأعمال الأدبية، فقد جهدت الكاتبة زهيدة درويش جبور في تبيان ذلك عبر المدونات المشار إليها، فركزت على قصائد لشعراء عرب ومنهم أنور سلمان وعلي جعفر العلاق وشوقي بزيع وعبدالعزيز المقالح ونزيه أبو عفش ووديع سعادة وجودت فخر الدين وإبراهيم نصرالله وعيسى مخلوف وسيف الرحبي وأديب صعب وفوزي يمين،  وألمحت إلى أن لدى بعض الشعراء ثيمة متكررة في الشعر العربي الحديث، نهاية الأربعينيات من القرن الـ 20، عنيت بها الحنين إلى القرية وما فيها من مظاهر.  

الأرض حقول ألغام

وفي مقالتها البحثية الثانية التفتت إلى أعمال نزيه أبو عفش الشعرية وأضاءت على مواقفه الصادمة من العالم ونظرته السوداوية إليه إلى جانب موقفه الرافض للدين والمحتج على جعل الأرض مكاناً غير آمن:"أرى: يهب علي الجَمالُ والرودُ وعطرُ الموسيقى/ وأصواتُ عشاقٍ حالمين/ منزوينً كظلالٍ أ ثيرية/ خلفَ تحصيناتِ المدافع/ وأسيجة حقول الألغام".

إلى ذلك، تلتفتُ الباحثة إلى الصور العنيفة والصادمة التي تخلفها العدوانية المتأتية من التحولات التي تفرضها المجتمعات والأنظمة ونهج تسليع الإنسان والطبيعة يقول، "سيأتي برابرةٌ آخرون/ يأكلونَ النساءَ كعرانيس الذرة/ ويشربون الدماء بالشلمون/ ويطلقون القنابل النووية بالمقاليع وأقواس النشاب".  أو، "الأشجار سوف يتم تلقيحها بغبار اليورانيوم/ والنعاج بأحماض الجنون المخصبة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتخلص الكاتبة من تجربة أبو عفش الشعرية إلى أن الطبيعة لديه هي الترياق ضد السوداوية التي تجتاح الوعي، وأن النزعة الرعوية لديه واضحة، لا سيما في مرحلتها المتأخرة. "لو كلما ذُبحت شجرة ماتَ عشرة حطابين/ أو أوذيت ورقة عشب/ شُلت قدمُ وغدٍ.." (ص:48)

وبالانتقال إلى تجربة وديع سعادة الشعرية تلقي الكاتبة نفسها حيال كم كبير من الاقتباسات وإن وردت فيها عناصر الطبيعة فإنها دلت منذ البداية على رؤية الشاعر العدمية والفانتازية والتي يذوب فيها الشاعر ذاته بالكائنات الطبيعية المفردة والصغيرة، بالغالب (الحجر، الصخرة، الفراشة، الغصن، العصفور، الخ) في حلولية ظاهرة وإحيائية تلقائية تكونان عنواناً لخلاصه من جحيم العالم ومعاناة الوجود.

اجواء رعوية

ومن ثم التفتت الكاتبة إلى تجربة الشاعر العراقي علي جعفر العلاق، وهو من أهم شعراء الستينيات من القرن الماضي، فوجدت لديه نزعة إلى استعادة ماض مثالي بزمانه ومكانه الريفي وأجوائه الرعوية التي لم تشبها شائبة من منظاره. يقول: "واسطٌ أم، وأرضٌ/ وريحْ/ لستُ أملكُ غيرَ تذكرها/ والبكاء عليها".ويمضي الشاعر العلاق، على ما تبينه الكاتبة زهيدة درويش جبور، في صلاته مع الطبيعة إلى حيث يحلو له؛ عنيتُ أنسنة الكائنات فيها، والتعبير عن نزعته الرعوية المثالية، على خير ما ترجوه من إيثار للبيئة وإعلاء لصورتها في وجدانه. يقول: "أعدنا حيثُ كنا/ من رعاة الغيمِ والتحنانِ والبردِ/ يخالطُ نومَنا خوفٌ بدائي من الله/ إذا لم نبتسمْ للطيرِ في الفلواتِ/ أو تهنا/ على أحد" (ص:82)

 لن يتسنى للقارىْ شأني في هذه العجالة التطرق إلى سائر تجارب الشعراء العرب الثمانية الآخرين (شوقي بزيع، عبد العزيز المقالح، جودت فخر الدين، إبراهيم نصر الله، عيسى مخلوف، سيف الرحبي، أديب صعب، فوزي يمين). حسبي أني بينت السبيل المنهجي الذي اتبعته الكاتبة الباحثة في تتبع كل ما له صلة بالبيئة وبصورها وتمثلاتها في مدونات شعرية لشعراء عرب حديثين ومعاصرين، على المقاربة البيئية السالف وصفها.

ومع ذلك يجدر بالمتابع لشؤون النقد، لا سيما نقد الشعر، أن يطرح بعض الأسئلة التي يرجى الإجابة عنها. هل يمكن اعتبار الشعر، وأي عمل فني، صنيع المخيلة والثقافة الموسوعية والتجارب النفسية، مجرد وثيقة دالة على واقع بيئي؟ ثم هل كان الشعر البيئي، في حال بروز عناصره في أعمال شاعر، مقصوداً لذاته؟ أم أن الأعمال الشعرية هي نتاج سابق، وفيها تجلت الأبعاد البيئية المعروضة بسخاء في الكتاب؟

أيا تكن الإجابات عن هذه الأسئلة، يمكن القول إن كتاب الباحثة زهيدة درويش جبور أضاف طرحاً جديداً إلى النقد الأدبي وخط له أفقاً جديداً مع تحدياته وحدوده.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة