عندما جرى تشخيص حسين بإصابته بسرطان الدم، لم يستغرب كثيراً فالسبب بالنسبة إليه واضح، باعتبار أن مهنته في حرق الأدوات الكهربائية لاستخراج معدن النحاس الخام، وعمله لمدة 10 ساعات يومياً في تكديس النحاس الأصفر كانتا السبب المباشر في معاناته المرضية، كما أفاد العاملون الصحيون.
وللعام الـ 15 على التوالي يعمل حسين في مهنة جمع الخردة وفصلها عن بعضها، لكن بحسب تقسيم العمل فهو مخصص لفرز النحاس الأصفر واستخراج المعدن من الأدوات الكهربائية التي يجمعها العاملون.
محطة الفرز بين المواطنين
ويقول إنه كل يوم يحرق آلاف الأسلاك الكهربائية والأجهزة من أجل استخراج النحاس منها، ويعمل في ذلك من دون أي وسائل حماية أو معايير سلامة، وهو يدرك أن استنشاق الغازات المتصاعدة قد يسبب له مرضاً خطراً، لكنه مجبر على اختيار هذا العمل في ظل انعدام البدائل، كما يؤكد أنه إذا ترك مهنته فإنه سيزيد عدد العاطلين ليضاف إلى 300 ألف عامل توقفوا عن العمل خلال السنوات الخمس الأخيرة، ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات البطالة في غزة إلى 65 في المئة.
محطة فرز الخردة كما يرغب في أن يسميها حسين وفريق العمل الذي يرافقه، أو مجمع نفايات الخردة كما يطلق عليه علمياً وفق تسميات الجهات الحكومية، تقع وسط منازل سكان غزة وليس في أرض خالية بعيدة من حياة المواطنين، وهذا الأمر قد يسبب كوارث صحية وبيئية في الوقت نفسه.
ويؤكد حسين أن المنطقة التي يعمل فيها تغطيها سحب الدخان المتصاعد من حرق النحاس وقد يصل إلى بيوت المنطقة المجاورة، لكنه يشير إلى عدم وجود بدائل أخرى في ظل انعدام توافر الأراضي وسط الزحف العمراني في غزة.
ويضطر العاملون إلى تجميع النحاس وكبسه على شكل مكعبات كبيرة بأدوات بدائية ومكابس يدوية، فإسرائيل تمنع كذلك إدخال أدوات حديثة لهذه المهمة الشاقة، وهو ما يجعل المهنة أكثر صعوبة، بخاصة في ظل رفض المسؤولين الحكوميين وضع المعدن ضمن النفايات الصلبة التي يجري حرقها كل فترة.
معدل الأمراض مرتفع
معدلات الإصابة بالأمراض مرتفعة بين العاملين في مجال فرز النحاس واستخراجه، وهي تزيد أربعة أضعاف المتوسط عن باقي أنحاء قطاع غزة، لكن لا توجد إحصاءات رسمية حول أعداد المصابين بأمراض نتيجة تعاملهم اليومي مع النحاس، وكذلك لا تتوافر بيانات رسمية لأعداد العاملين في هذا المجال، كونهم عمالاً غير منظمين ولا تجمعهم بيانات حكومية.
ومنذ وقت طويل يجمع العاملون النحاس من كابلات الاتصالات وأسلاك الكهرباء والأجهزة اللوحية والإلكترونية، وكانوا يعملون على تصديره من غزة إلى إسرائيل التي بدورها تقوم بإعادة تدويره، وفي العام 2007 أوقفت السلطات الإسرائيلية هذه العملية التجارية تحت "ذرائع أمنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كنز اقتصادي
ويقول رئيس لجنة تجار المعادن والخردة في قطاع غزة عيد حمادة "في غزة أكثر من 250 ألف طن من النحاس مجمعة في 30 موقعاً، ويومياً يجري جلب مزيد من المعدن، لكن منع تصديره إلى خارج غزة أثر بشكل سلبي في الإنسان والبيئة، ليس فقط من ناحية صحية بل أيضاً من ناحية مادية، إذ يوجد في القطاع نحو 250 ألف طن من المعدن مكدسة في مخازن أو أراض.
ويضيف حمادة، "فكرة رفض تصدير النحاس انعكست سلباً على العاملين وسببت فقدان جامعي الخردة الذي يقدر عددهم بأكثر من 2000 شخص لعملهم، أما من ناحية صحية فإن صدأ النحاس نتيجة تعرضه للشمس أو عوامل تعرية يضر بالتربة والإنسان، ولذلك لا بد من نقله خارج غزة".
وفي حال سمحت إسرائيل بتصدير النحاس فإن تجارها يقومون بشرائه، ويباع الكيلو منه بنحو ستة دولارات أميركية، ووفق تقديرات تجار الخردة فإن الكمية الموجودة في غزة في أسوأ الحالات تفوق قيمتها الـ 12 مليون دولار.
ويشير حمادة إلى أن كميات النحاس المكدسة تعد أموالاً مجمدة، وفي حال سمحت إسرائيل بتصديرها فإن هذه العملية التجارية قد تدفع بعجلة الاقتصاد في غزة قدماً، مشيراً إلى أنهم طلبوا قبل أسابيع من الجانب الإسرائيلي الموافقة على هذه الخطوة، لكنهم لم يحصلوا على رد.
إسرائيل وغزة تستفيدان من النحاس
وتتذرع إسرائيل بحجج أمنية من أجل عدم إعطاء إذن لتصدير النحاس، إذ يقول منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية غسان عليان إنهم يخشون أن تحتوي هذه المواد على عناصر متفجرة، أو يكون لها امتداد لاقتصاد "حماس"، أو أسباب أخرى متعلقة بالجوانب الأمنية التي تحددها أجهزة الأمن والاستخبارات، فضلاً عن عدم وجود آلية متبعة لتصديره.
وفيما يرى حمادة أن هذه الذرائع غير مقنعة، يقول إن السلطات الإسرائيلية تمنع تصدير النحاس من أجل خنق اقتصاد غزة، لأنها تدرك أن عملية إخراجه من القطاع تنعش الاقتصاد وتدر ملايين الدولارات التي من شأنها تحريك المال في أيدي المواطنين.
وتستفيد إسرائيل من النحاس لقيامها بصهره مثل باقي الأصناف الأخرى من الحديد والبلاستيك، ثم تعيد تدويره وبيعه على شكل لفائف وأسياخ، لكن وجوده في غزة يزيد من فرص استخدامه بشكل سلبي.
ويقول مدير دائرة النفايات الصلبة والخطرة في سلطة جودة البيئة محمد مصلح إن الأخطر من جمع وفرز وتكديس النحاس هو قربه من التجمعات السكنية، الأمر الذي يجعل السكان معرضين بشكل مباشر لتسرب الغازات السامة منه، وإن هذا المعدن يتفاعل مع الشمس ويصدأ مع عوامل التعرية ويسبب أخطاراً بيئية على التربة ومخزون المياه الجوفية، فضلاً عن تأثيره في السكان.