بعد استخدام روسيا للقمح كسلاح للرد على العقوبات الغربية، يستعد صانعو الرقائق لمزيد من المتاعب مع تقييد موسكو لصادراتها من الغازات النادرة، لكن لا يمكن لصناعة أشباه الموصلات أن تتوقف.
وبعد مواجهة اختناقات الإمداد، التي تغذيها الجائحة، يواجه صانعو الرقائق صداعاً جديداً، فقد بدأت روسيا، وهي أحد أكبر موردي الغازات المستخدمة في صناعة أشباه الموصلات بالعالم، في الحد من الصادرات.
موسكو بدأت في تقييد صادرات الغازات الخاملة أو "النبيلة"، بما في ذلك النيون والأرغون والهيليوم، إلى دول "غير صديقة" في نهاية مايو (أيار) الماضي، وفقاً لتقرير صادر عن وكالة الأنباء الروسية الحكومية "تاس".
وتستخدم الغازات الثلاثة لإنتاج الرقائق الإلكترونية الصغيرة الموجودة في مجموعة كبيرة من المنتجات الاستهلاكية، من الهواتف الذكية إلى الغسالات والسيارات، والتي كانت تعاني نقصاً شديداً في المعروض منذ أشهر.
هذه الخطوة تعد واحدة من أحدث الهجمات التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد الدول التي فرضت سلسلة من العقوبات على موسكو رداً على هجومه على أوكرانيا. فقبل الحرب كانت روسيا وأوكرانيا تستأثران معاً بنحو 30 في المئة من إمدادات صناعة الرقائق من غاز النيون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدمير مدن أوكرانية استراتيجية
تأتي قيود التصدير في الوقت الذي بدأت فيه صناعة أشباه الموصلات وعملاؤها بالتخلص من أسوأ ما في أزمة الإمداد. وخلال العام الماضي، صنعت شركات السيارات نحو 10 ملايين سيارة أقل بسبب نقص الرقائق، وفقاً لشركة "أل أم سي أوتوموتيف"، لكن كان من المتوقع أن تتحسن الإمدادات في النصف الثاني من هذا العام.
يقول جاستن كوكس، مدير الإنتاج العالمي في شركة استشارات السيارات، "ما لا نحتاج إليه هو دراما أخرى مع المعروض من الرقائق التي يمكن أن تؤثر، وربما توقف الانتعاش". وأشار إلى أن "حدود تصدير النيون كانت مقلقة، لكنها لم تفاجئ صانعي الرقائق، وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا قبل ثماني سنوات، كانت الصناعة تستعد لمزيد من اضطرابات الإمدادات من المنطقة".
ويلعب النيون دوراً مهماً في إنتاج أشباه الموصلات في عملية تسمى الطباعة الحجرية، حيث يتحكم الغاز في الطول الموجي للضوء الناتج عن الليزر، لأنه يحفر أنماطاً على رقاقات السيليكون، التي تتكون منها الشريحة.
وقبل الحرب الروسية في أوكرانيا، جمعت موسكو النيون الخام كمنتج ثانوي في مصانع الصلب، ثم أرسلته إلى أوكرانيا لتنقيته. قال جوناس سوندكفيست، كبير محللي التكنولوجيا في "تي شيست"، وهي شركة لأبحاث السوق، إن البلدين كانا يقودان منتجي الغازات النبيلة منذ أيام الاتحاد السوفياتي، عندما استخدمتها القوة العظمى لبناء تقنياتها العسكرية والفضائية.
لكن تسبب الصراع في ضرر دائم للقدرة، حيث أدى القتال العنيف في بعض المدن الأوكرانية، بما في ذلك ماريوبول وأوديسا، وهما مدينتان مهمتان من الناحية الاستراتيجية، إلى تدمير المواقع الصناعية وجعل من الصعب للغاية تصدير البضائع من المنطقة. يقول سوندكفيست، "لدينا الآن خسارة دائمة لبعض قدرات التطهير في ماريوبول وأوديسا".
الشركات تضاعف جهودها
لكن في المقابل، قلل مصنعو أشباه الموصلات من اعتمادهم على المنطقة منذ أن اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. يقول بيتر هانبري، الشريك في ممارسات التصنيع في شركة "باين أند كومباني"، إن صانعي الرقائق ضاعفوا جهودهم في أعقاب الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي.
وأوضح أن اعتماد الصناعة على أوكرانيا وروسيا بالنسبة للنيون كان "مرتفعاً جداً تاريخياً" بين 80 في المئة و90 في المئة، ولكن منذ عام 2014، قلص صانعو الرقائق ذلك إلى أقل من الثلث. وأضاف، "لقد أدركت الصناعة المخاطر المرتبطة بالمنطقة وبدأت أساساً في تأهيل مصادر جديدة، وتطوير دول جديدة وموردين محددين".
في الوقت نفسه، فإنه لا يزال من السابق لأوانه معرفة كيف ستؤثر قيود الصادرات الروسية على صانعي أشباه الموصلات. يقول هانبري، إن "الحرب في أوكرانيا لم تضعف إنتاج الرقائق حتى الآن، لا أعتقد أننا سنرى تأثيراً لبضعة أشهر على الأقل، من المرجح أن التأثير الذي نراه سيكون على الأرجح ضئيلاً إلى حد ما".
ومع ذلك، حتى إذا كان بإمكان صانعي الرقائق استبدال الإمدادات المفقودة من المنطقة، فمن المحتمل أن ينتهي بهم الأمر بدفع المزيد مقابل الغازات الحيوية.
لكن من الصعب تتبع سعر النيون والغازات الأخرى، لأن معظمها يتم تداولها بموجب عقود خاصة طويلة الأجل، فيما تقدر شركة "تي شسيت"، أن أسعار عقود النيون قد زادت بالفعل خمسة أضعاف منذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا في وقت سابق من هذا العام، وستظل عند تلك المستويات المرتفعة على المدى القريب.
وقال سوندكفيست، إن "حدود الصادرات الروسية سيكون لها بالتأكيد تأثير على أي عقود جديدة". وأوضح أن كوريا الجنوبية، موطن شركة "سامسونغ" لصناعة الرقائق العملاقة ستشعر بالألم أولاً، لأنها تعتمد على واردات الغاز النبيل، وعلى عكس الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، تفتقر إلى شركات الغاز الكبيرة التي يمكنها زيادة الإنتاج.
استثمارات ضخمة في 2021
وخلال العام الماضي، تفوقت شركة "سامسونغ" على شركة "إنتل" كأكبر صانع لأشباه الموصلات من حيث الإيرادات، وفقاً للبيانات التي جمعتها شركة "كونتربوينت ريسيرش".
وترى شركة "ميكرون تكنولوجي أم يو"، وهي إحدى أكبر الشركات المصنعة للرقائق في العالم، أنها شهدت ارتفاعاً في أسعار الغاز النبيل، لكن لديها "إمدادات كافية للأشهر القليلة المقبلة"، ولا تتوقع إجراء أي تخفيضات في إنتاجها على المدى القصير. وقال متحدث باسم الشركة، "نحن نتخذ خطوات لتأمين إمدادات إضافية لفترة أطول".
وفي الوقت الحالي، تتسابق البلدان لبناء قدرتها على تصنيع الرقائق بعد عامين تركوها عرضة بشكل وحشي لتقلب سلاسل التوريد العالمية. وعرضت شركة "إنتل" مساعدة الحكومة الأميركية في خطتها، وأعلنت في وقت سابق من هذا العام أنها ستستثمر 20 مليار دولار في مصنعين جديدين. وخلال العام الماضي، التزمت شركة "سامسونغ" أيضاً ببناء منشأة بقيمة 17 مليار دولار في ولاية تكساس الأميركية.
ومن المرجح أن يترجم مزيد من صناعة الرقائق إلى ارتفاع الطلب على الغازات النبيلة، لكن مع تهديد روسيا بتقليص صادراتها، يمكن أن تكون الصين مستفيداً كبيراً حيث إن لديها "أكبر وأحدث" طاقة إنتاجية. ومنذ عام 2015، ضخت الدولة استثمارات في صناعة أشباه الموصلات الخاصة بها، بما في ذلك في المعدات اللازمة لفصل الغازات النبيلة عن المنتجات الصناعية الأخرى. وتقول الصين إنها أصبحت مصدراً صافياً لهذه الغازات، وتدعي أنها تعتمد على نفسها.
وأشار سوندكفيست إلى أن الطلب العالمي على الغازات النبيلة سيركز على الأرجح على الصين، وستحصل المقاطعة على "سعر جيد لمنتجها".