لم يواجه النظام معضلة حقيقية مع المرحلة الانتقالية التي مرت بها إيران مع وفاة المؤسس السيد الخميني والانتقال السلس والمدروس للقيادة إلى السيد علي خامنئي، لجهة أن الـ "مايسترو" الذي قاد عملية الانتقال والتمهيد لها والتفاهم مع القوى الفاعلة في النظام، لم يكن سوى الشيخ هاشمي رفسنجاني الذي كان يشغل منصب رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس خبراء القيادة، ونتيجة للاعتراضات التي صدرت عن جماعة "علماء الدين المناضلين" وملاحظاتهم على اختيار القيادة الجديدة، ظهر ما بات يعرف بتيار "اليسار الإسلامي" في مواجهة "تيار اليمين" المسيطر على السلطة. ذهب النظام خلال الأشهر الثلاثة الأولى لتولي المرشد مقاليد القيادة إلى خيار تعديل النظام الداخلي لمجلس الخبراء، ونقل صلاحية تحديد صلاحية مرشحي هذا المجلس إلى مجلس صيانة الدستور بعد أن كان شرط الترشح هو حصول المرشح على تأييد شخصين من علماء الدين المعروفين في الحوزة الدينية، بخاصة وأن أعضاء مجلس صيانة الدستور الـ 12 يتم اختيارهم مناصفة بين المرشد الأعلى الذي يسمي ستة أعضاء مباشرة، في حين يتولى رئيس السلطة القضائية الذي يعينه المرشد اختيار الستة الآخرين من بين 12 مرشحاً يقدمهم إلى مجلس النواب، والذي بدوره يخضع أعضاؤه لموافقة مجلس صيانة الدستور.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف بين أقطاب الكتلة الحاملة للنظام إلا أن الصراع لم يأخذ منحى تصعيدياً أو صدامياً بشكل واضح، طالما أن جماعة اليسار الديني لم تخرج عن الأسس الدستورية والعقائدية التي التزمت بها في التسليم بالدستور والقبول بمبدأ ولاية الفقيه، مع اعتراض بدأ بالتنامي والتصاعد على التعديل الذي جرى على المادة الخاصة بصلاحيات "ولي الفقيه" وجعلها "مطلقة"، إدراكاً منها للتداعيات التي ستنتج منها ومخاوفها من إعادة إنتاج السلطة المطلقة.
وبما أن طرفي المعادلة (التيار اليميني واليسار الديني) يأتيان من خلفية متقاربة نسبياً مع اختلاف في القراءة والأهداف، أي أنهما يلتزمان بالمبادئ الأساس في الحفاظ على الثورة والنظام الإسلامي والدفاع عن المكتسبات التي حققها سياسياً واجتماعياً وعقائدياً واستراتيجياً، فإن الصراع بينهما لم يصل إلى مرحلة الانفجار أو التخندق الواضح، لجهة أن الاختلاف لم ينتقل إلى المستوى المنهجي والفكري، ولذلك لم تشهد هذه المرحلة عملية إقصاء جماعات من دائرة العمل العام والسياسي، باستثناء بعض من شكل إحراجاً للقيادة الجديدة مثل رجل الدين المعروف أحمد آذري قمي الذي انتقد المرشد علانية من باب الاعتراض على آلية اختياره، وانتهت باتهامه بالخيانة واعتقاله ومن ثم إخراجه من مجلس خبراء القيادة بقرار من المرشد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الغياب المفاجئ والمشكوك فيه لنجل المؤسس السيد أحمد الخميني عن المشهد، إضافة إلى فرض الإقامة الجبرية ومحاصرة الشيخ حسين علي منتظري وملاحقة مؤيديه، سمح بتكريس معادلة التقاسم غير المعلن للسلطة بين المرشد الجديد خامنئي ورفسنجاني الذي انتقل إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، وهي معادلة سيطرت وطبعت على الأقل الدورة الأولى من رئاسته للجمهورية، قبل أن تشهد بداية الافتراق بين الرجلين على خلفية رؤية كل منهما لإدارة الدولة، بخاصة بعد أن دخلت إيران مرحلة العزلة الدولية والإقليمية نتيجة السياسيات والأعمال التي هددت أمن واستقرار العديد من العواصم، وانتهت بقطيعة واضحة وصريحة مع الدول الأوروبية التي سحبت سفراءها من إيران بعد اتهام النظام الإيراني بالوقوف وراء "تفجيرات ميكونس" في ألمانيا والعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس.
عدم وجود معارضة قوية، بخاصة وأن القوى المختلفة مع تيار اليمين المسيطر كانت في مرحلة التبلور والتشكل ولم تبدأ بتلمس دورها ولم تدخل مرحلة الفعل السياسي الواضح، سمح للنظام ولمؤسساته الأمنية بأن تمارس ما يريده من عمليات قمع واعتقال وتكميم أفواه وإبعاد بحرية مطلقة، وذلك بهدف فرض قراءة أحادية للسلطة ونظام الحكم في بُعديه العقائدي والسياسي وصولاً إلى البعد الاجتماعي، فغُيبت الحريات الخاصة والعامة وضُربت حرية الرأي، ولعل ما حصل مع نحو 90 خبيراً اقتصادياً يشكل مؤشراً إلى هذه الحال، إذ عمدت السلطات إلى اعتقالهم بعد توجيههم رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية اعتراضاً على الخطة الاقتصادية التي اعتمدت في إطار رؤية إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية والصناعية التي اعتمدتها حكومة رفسنجاني التي سيطرت عليها جماعة كوادر البناء.
الافتراق بين المرشد والرئيس رفسنجاني في أواخر رئاسته خلال الدورة الثانية، وحال النهوض الاجتماعي التي شهدها المجتمع الإيراني مستفيداً من الفسحة التي فتحتها هذه الحكومة نتيجة الصراع بين مراكز القرار، بخاصة في الوسط الصحافي الذي شهد ولادة عدد من الصحف خارج دائرة النظام والإعلام الرسمي الموجه، الأمر الذي كسر أحادية الصوت الإعلامي، أسهما في استنهاض الشارع الإيراني الذي وجد في شخصية السيد محمد خاتمي ترجمة لتطلعاته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وهي حركة لم تكن بعيدة من مساحة الحرية التي وفرها رفسنجاني، ولم تكن من باب التناقض أو الصراع مع المرشد، وإنما انطلاقاً من شعوره بدقة المرحلة وحساسية الوضع الذي تمر به ايران داخلياً وخارجياً، وبالتالي كان لا بد من كسر حلقة الهيمنة والقراءة الأحادية التي بدأت تأخذ إيران نحو المجهول، إلا أن المكابرة التي ميزت ممارسات النظام وأجهزته ومؤسساته شكّلت حائلاً أمامه ومنعته من قراءة المتحول الاجتماعي بشكل دقيق، فجاءت نتائج الانتخابات لتشكل صدمة له ولمؤسساته التي كانت غير قادرة على تغيير النتائج أو التلاعب بها، فأُجبر على قبول ما خرج من صندوق الاقتراع وحصول خاتمي على أكثر من 20 مليون صوت، في حين أن مرشح النظام الشيخ علي أكبر ناطق نوري، رئيس البرلمان حينها، لم يحصل على أكثر من سبعة ملايين صوت، فارتفع منسوب التفاؤل لدى المجتمع الإيراني الشعبي والسياسي بدخول إيران مرحلة جديدة من الانفتاح انسجاماً مع الشعارات التي رفعها خاتمي والقوى الداعمة له من اليسار الإسلامي، إضافة إلى إمكان حصول انفتاح على العالم وتخفيف التوتر مع المحيط والمجتمع الدولي، وبالتالي تبلور حراك بات يعرف لاحقاً بـ "الحراك الإصلاحي" على كل المستويات الفكرية والسياسية والفنية والاجتماعية، وكان من المفترض أن يقود إيران نحو نقلة نوعية مفتوحة على مستقبل واعد.