عُرف عن أمير الكويت الأسبق الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله، أنه لا يحب السفر ولا مغادرة الكويت إلا مضطراً.
في صيف عام 2000، كنت بمكتب سموه، رحمه الله. سأل عن "أخبار الديرة"، قلت له: "فاضية، الناس هربت من الحر وسافرت يا طويل العمر"، فقال: "ليتهم يتحمّلون الحر، ويبقون ببلادهم، فالحر ليس كالكوارث والحرائق والبراكين والزلازل".
ضرب الكويت الأسبوع الماضي زلزال نادر الحدوث بلغت شدته 4.4 درجة على مقياس ريختر، علّق أحد الظرفاء: "حر وغبار وزلازل، ما بقى إلا البراكين!"، رد أحدهم: "فال الله ولا فالك، إحمد ربك إن ما عندنا جبال، فما راح يكون فيه براكين".
تجاوزت درجة الحرارة في الكويت وفي العراق وبعض مناطق الخليج العربي، الخمسين درجة مئوية في الأسبوع الأول مما يُسمّى بـ"مربعانية القيظ"، التي تبدأ من 3 يونيو (حزيران)، وتستمر أربعين يوماً. وتجتاح العراق وشمال الجزيرة العربية موجات من الغبار غير المسبوقة في شدتها وطول مدتها. أغلق مطار بغداد مرتين هذا العام حتى الآن، يعيش العراق جفافاً وعطشاً حوّلا البلاد إلى "مغبرة" (من الغبار)، وحوّلت العيش إلى جحيم، بسبب انقطاع مياه الأنهار التي يلوم العراقيون جارتَيهم، إيران وتركيا، بالتسبب بها.
يحاول القادر من أهل الخليج السفر، أو قل الهرب، من حر الصيف إلى بلاد أكثر برودة، لكنهم يقعون فريسة لشركات الطيران والسياحة والسفر التي رفعت أسعارها بشكل جنوني يصعب على محدودي الدخل توفيره، ويبررون ذلك بارتفاع أسعار البترول ولتعويض خسائرهم على حساب الهاربين من الحر. بعضهم يضطر إلى الاقتراض من أجل السفر هرباً من الحر "ولزوم الكشخه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن العالم كله، بما في ذلك العالم "البارد"، تجتاحه موجات من الحر تزداد عاماً بعد عام، فقد شارفت على الخمسين في جنوب أوروبا العام الماضي، ومن سافر إلى تلك المناطق هرباً من الحر في الخليج، "فكأنك يا بوزيد ما غزيت"! كما أن الجفاف والحرارة يتسببان بحرائق هائلة ومرعبة سنوياً بالغابات والأحراش من كاليفورنيا غرباً وحتى الصين شرقاً، مروراً بتركيا واليونان والأردن والجزائر، راح ضحيتها المئات وتجاوزت خسائرها المليارات. تشير الإحصاءات إلى أن عدد ضحايا حرائق البرتغال وحدها عام 2017 تجاوز مئتي شخص بين قتيل وحريق.
يتسبب تدمير البيئة الفوضوي والحروب والتنجيم والصناعات غير المنضبطة والرعي والصيد الجائر بزحف الصحراء في منطقة الخليج والجزيرة، وما كان يُسمّى بـ"الهلال الخصيب"، أي العراق والشام، وهو الأمر الذي يتسبب بموجات الغبار وتراجع الأراضي الصالحة للزراعة، ولا مناص من اللجوء إلى خطط لوقف هذا الزحف الصحراوي إنقاذاً للحياة في هذه المنطقة، وليس هناك أبسط من التشجير المحلي، أي تشجير الأرض بأشجارها الطبيعية.
قبل عشر سنوات، بادرت مجموعة شبابية كويتية بالتطوع لزراعة "مليون سدرة"، السدر من أشجار البيئة الوارفة الظلال والمخضرة طيلة أيام السنة، التي لا تتطلب ماءً لزراعتها، وقادرة على وقف الغبار والحد من تمدده. زرع الشباب آلافاً وبقي كثير أكثر يتعثر أمام تخصيص أراضي الدولة وأراضي شركات التنقيب النفطي.
إن الوعي البيئي المنهجي والتعليمي، ومشاريع التخضير والزراعة، والتعاون الإقليمي هي عناصر ثلاثة أساسية لإنقاذ البيئة، لكن العنصر الأخير هو أصعبها على الإطلاق، فلو توافر التعاون الإقليمي وحسنت نواياه، لما تحوّل عراق الرافدين إلى مقبرة و"مغبرة"، وما لم نسارع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الحياة البيئية في منطقتنا، فسوف تتحوّل إلى مناطق غير قابلة للعيش الآدمي.