Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بوتين و"مخابرات" كيسنجر وتصريحاته في دافوس

علاقة شخصية جمعت بين الرئيس الروسي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي اعترف بخطأ تقديره لانهيار الاتحاد السوفياتي 

العلاقة التي كانت تربط كيسنجر ببوتين بدت أكثر تنوعاً وتقارباً رغم الفارق الزمني الكبير بين القطبين السياسيين (رويترز)

أثار الحديث الذي أدلى به هنري كيسنجر وزير الخارجية والمستشار الأسبق للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى المشاركين في منتدى "دافوس" الاقتصادي كثيراً من الضجة التي تعالت أصداؤها، سلبية لدى الأوساط القيادية الأوكرانية وإيجابية في بعض جوانبها لدى القيادات الروسية. وقد ارتبطت هذه الضجة ليس فقط في ما يتعلق برؤية "ثعلب السياسة الأميركية" تجاه سبل الخروج من مأزق الأزمة الأوكرانية الراهن، ومنها ما يتعلق بالتنازلات عن الأراضي، بل وأيضاً بما قاله كيسنجر حول علاقاته القديمة التي تمتد لعقود طويلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبما يتعلق ببداياتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي. 

وكان بوتين وفى معرض سرده لبعض ملامح سيرته الذاتية، ذكر أنه التقى في مطلع التسعينيات في سان بطرسبورغ للمرة الأولى بهنري كيسنجر. قال إنه كان مكلفاً بمرافقته خلال زيارته للمدينة بمقتضى واجبات منصبه كنائب أول لعمدة سان بطرسبورغ من جانب، ولكونه يجيد الألمانية من جانب آخر. ومضى بوتين ليقول إن الضيف الأميركي كشف عن فضول شديد لمعرفة حقيقة شخصية من يرافقه. وكان كيسنجر الألماني الأصل قد وصل في إطار "مهمة تجارية"، رافقه خلالها بوتين بحكم مقتضيات منصبه التي منها ما يتعلق بالإشراف على العلاقات الاقتصادية الخارجية.

ومن الطريف بهذا الصدد ما قاله بوتين حول ما علق به على إلحاح كيسنجر ورغبته في استيضاح كنه من يرافقه. قال بوتين إنه اضطر إلى مصارحته بأنه سبق وعمل في جهاز أمن الدولة " كي جي بي"، بل وقال له إنه قضى بعض سنوات خدمته في ألمانيا الشرقية.

أشار بوتين إلى أنه حاول بذلك وضع حد للاستطراد في الحديث حول هذه المسألة، وبما يئد به فضول الزائر الأميركي حول الخوض بما قاله بشأن ماضيه "الاستخباراتي"، ليفاجأ بما باغته به كيسنجر من تعليق يقول فيه "وماذا في ذلك؟ هون عليك... إن كل المحترمين بدأوا عملهم في أجهزة الاستخبارات، وأنا واحد من هؤلاء".

لكن الأكثر طرافة، تمثل في ما قاله كيسنجر حول أنه يتعرض لانتقادات كثيرة بسبب مواقفه، وما سبق وأفصح عنه من تقديرات بشأن التطورات الأخيرة في الاتحاد السوفياتي السابق، وما أعرب عنه من مخاوف تجاه ما قد يسفر عنه انهيار الاتحاد السوفياتي من عواقب وأخطار لا بد أن تحدق بالتوازن الدولي، وهو ما يتندرون به اليوم حيث رحل الاتحاد السوفياتي ولم يحدث أي شيء مما سبق وحذر منه كيسنجر، مما جعله يتساءل مع الملايين في الداخل والخارج "لماذا فعل غورباتشوف ذلك؟".

هذه المشاعر لم تكن لتفارق بوتين، الذي لم يخفِ ما كان يراوده من مشاعر سلبية تجاه ما وصفه في وقت لاحق بأنه "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، دفعته إلى أن يتساءل أيضاً: لماذا انهار الاتحاد السوفياتي بهذه السرعة؟ ولماذا يضيع الحلم والأمل؟

ولم يمضِ من الزمن كثير منذ تاريخ اللقاء الأول لـ"ثعلب السياسة الروسية" فلاديمير بوتين، مع عميد الدبلوماسية الأميركية والعالمية هنري كيسنجر، حتى توطدت بينهما علاقة شخصية كانت أساساً للكثير من زيارات لاحقة قام بها كيسنجر إلى موسكو، بكل ما تخللها من لقاءات شخصية مع بوتين، تجاوزت في كثير من الأحيان الإطار الثنائي إلى علاقات متعددة الأطراف. ومن هذه العلاقات ما كان يجمع كيسنجر مع "حكيم" السياسة الروسية يفغيني بريماكوف وزير الخارجية الروسية ورئيس الحكومة الأسبق.

ومن المثير في هذا الصدد أن العلاقة التي كانت تربط كيسنجر ببوتين بدت أكثر تنوعاً وتقارباً على الرغم من الفارق الزمني الكبير بين القطبين السياسيين، على غير ما كانت عليه بالنسبة إلى كل من كيسنجر وبريماكوف، وهما اللذان كانا ينتميان إلى جيل متقارب في الزمن والملابسات، وإن تباينت توجهاتهما تجاه ما كان يسمى "الانفراج"، في عالم السياسة الكبرى إبان سبعينيات القرن الماضي.

وثمة ما يشير في هذا الصدد أيضاً إلى أنه وعلى الرغم من اختلاف الأسس الفكرية والعقائدية بين بوتين وكيسنجر، فقد بدا التقارب واضحاً منذ لقائهما الأول في سان بطرسبورغ. وإذا  كانت "كيمياء" العلاقات الشخصية جمعت بين بوتين وكيسنجر فإن دوراً قريباً من ذلك، أسهم في تقارب كل من كيسنجر وبريماكوف، سرعان ما أسفر عن تشكيل "مجموعة الحوار الروسي الأميركي" غير الرسمي بين كيسنجر صاحب فكرة "الانفراج الدولي"، في سبعينيات القرن الماضي، ويفغيني بريماكوف حكيم السياسة الروسية ومؤلف استراتيجية "التعددية القطبية"، وذلك ما عاد واعترف به كيسنجر لدى رثائه لزميله وشريكه في الحوارات الاستراتيجية بقوله بعد وفاته، إنه يفتقد الآن التواصل "البشري" مع يفغيني بريماكوف الذي سبق وترأس جهاز الاستخبارات الخارجية لروسيا في مطلع التسعينات . قال كيسنجر "لقد أحببت بريماكوف. كما تعلم، كان علينا أن نشك في بعضنا بعضاً، ولكن في الوقت نفسه - ولكي نكون مفيدين لبعضنا بعضاً. أحياناً كان يتفق معي، وأحياناً لا يتفق معي. كان دائماً حذراً. إنه روسي حتى النخاع". وأضاف كيسنجر في حديث إلى التلفزيون الروسي "إن الموقف متجذر في التاريخ، لكن ما لا يمكن أن ينتزع من بريماكوف هو إنسانيته الهائلة. أنا أفتقده كشخص".

وكان كيسنجر أعاد إلى الأذهان ما جمعه مع بريماكوف إبان سنوات الحرب الباردة بين بلديهما. قال "التقيت بريماكوف خلال الحرب الباردة، عندما كنا متضادين على جانبي خندق المواجهة، بشكل رسمي في الأقل، لكن في ذلك الوقت، توصل كلانا إلى استنتاج مفاده أنه من المهم لأكبر قوتين نوويتين المساهمة في قضية السلام".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذ عاد كيسنجر ليشير إلى "أن الحاجة لا تزال قائمة إلى مثل هذا الحوار بل وتزداد"، تحول كيسنجر للحديث عن علاقاته مع الرئيس بوتين التي وصفها بأنها "عديدة ومتنوعة"، ومنها ما كان يتسم أكثر بطابع "الزيارات الشخصية" التي لم تكن تخلو من انزلاق كل منهما وبحكم المنصب والتاريخ، إلى تبادل الآراء تجاه ما يجري من أحداث إقليمية ودولية. ولعل ما خلص إليه كيسنجر في رؤيته التي أوجزها في كلمته إلى المنتدى الاقتصادي في دافوس حول الأوضاع الراهنة في أوكرانيا، يمكن أن تكون نتاج جلسات طويلة مع الرئيس الروسي، وذلك ما قد يكون أيضاً في صدارة أسباب ما وصل إليه من قناعات تقول إن روسيا تحرز تقدماً في أوكرانيا، وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سيخسر بشكل كبير إذا لم يفهم ذلك. وكان كيسنجر دعا كييف إلى حل النزاع دبلوماسياً، انطلاقاً مما خلص إليه من قناعة تقول "إن البندول في الصراع الأوكراني بدأ يميل لصالح روسيا"، على حد تعبيره، في إطار المبادئ الأربعة التي أعلنها وهي:

أولاً: الاعتراف بحق أوكرانيا في حرية الانضمام إلى أي من التحالفات الاقتصادية أو السياسية الأوروبية بما فيها حق "الاندماج مع أوروبا". 

ثانياً: التزام أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف "الناتو" على اعتبار أن ذلك سيؤدي إلى أزمة طويلة الأمد في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. 

أما المبدأ الثالث فينحصر في حرية تشكيل أوكرانيا لحكومتها وانتهاج سياسة هي الأقرب إلى سياسة فنلندا التي قال إنها "لا تعطي أي سبب للشك في استقلالها، بينما تتعاون مع الغرب في معظم المجالات وتتجنب بحذر العداء المؤسسي تجاه روسيا". 

وخلص كيسنجر إلى المبدأ الرابع الذي يقول بضرورة اعتراف روسيا بشبه جزيرة القرم كجزء لا يتجزأ من أوكرانيا، ويجب أن توافق كييف على تعزيز الحكم الذاتي لشبه جزيرة القرم.

وننقل عن دانيال ديبيتريس ما كتبه على صفحات "نيوزويك الأميركية" حول "أن هنري كيسنجر الذي يظل أكثر الشخصيات العامة إثارة للجدل في عصرنا، يثير بما يدلي به من تصريحات وآراء مشاعر قوية لدى الناس تتباين بقدر ما تتباين مواقع وانتماءات هؤلاء الناس. فكيسنجر هو إما الواقعي النموذجي الذي دبر الانقسام بين الصين الشيوعية والاتحاد السوفياتي، أو مجرم الحرب الذي كان وراء أكثر من 3800 تفجير في كمبوديا". وتناول الكاتب والمعلق الأميركي ما قدمه كيسنجر، الذي تجاوز من العمر 99 عاماً، خلال حديثه في دافوس من "نصائح" إلى القيادات الأوكرانية، حين قال "إن الوقت قد حان للتفكير في تسوية دبلوماسية لإنهاء الحرب، ويجب أن تشمل تلك التسوية تنازلات إقليمية لروسيا". وقال كيسنجر أيضاً "من الناحية المثالية، يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع (الراهن القديم)، في إشارة إلى خطوط ما قبل الحرب، التي سيطرت روسيا بموجبها على شبه جزيرة القرم ونحو ثلث أراضي دونباس". وأضاف "إن استمرار كييف للحرب وراء هذه الخطوط لن يكون معركة من أجل حرية أوكرانيا بعد الآن، بل حرب جديدة ضد روسيا نفسها".

وكان المعلق الأميركي استعاد في مقاله الأخير بعضاً مما خلص إليه كيسنجر في معرض أحد لقاءاته مع الرئيس بوتين في الكرملين في 29 يونيو (حزيران) 2017 حول أن "أوكرانيا ستضطر إلى تسليم الأراضي لروسيا"، وهو ما أقام الدنيا في أوكرانيا ولم يقعدها بعد، فقد سارعت كل الأوساط السياسية والدبلوماسية الأوكرانية إلى رفض ما خلص إليه كيسنجر. ولم يمضِ من الزمن بضع ساعات بعد إفصاح كيسنجر عن معتقداته بشأن الأزمة الأوكرانية، حتى خرج الرئيس الأوكراني ليعيد إلى الأسماع ما سبق وقاله حول موقف حكومته مؤكداً أنه "لن تكون هناك محادثات سلام حتى تنسحب موسكو من كل شبر من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم". كما انضم إلى مثل هذا الموقف دبلوماسيون أميركيون ومنهم ستيفن بيفر السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، الذي كتب على موقع "تويتر" يقول إن "أراضي أوكرانيا ليست ملكاً لكيسنجر لكي يعطيها لروسيا". ومضى إدغارز رينكيفيكس وزير خارجية لاتفيا، إلى ما هو أبعد بمقارنته كيسنجر بنيفيل تشامبرلين رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي سيظل التاريخ يذكره إلى الأبد باعتباره الرجل الذي تنازل عن سوديتنلاند لألمانيا النازية في عام 1938.

أما ميخائيل بودولاك، رئيس الوفد الأوكراني في المفاوضات مع روسيا فقد أكد "أن أي موقف لكييف في اتجاه التنازل عن الأراضي لموسكو مقابل وقف إطلاق النار أو اتفاق السلام، من شأنه ببساطة أن يثير شهية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجاه ابتلاع مزيد من الأراضي الأوكرانية".

وإذا كانت القيادات الأوكرانية ومن يقف وراءها من القيادات الأميركية والغربية، تظل أسيرة تقديرات ما وصفها كيسنجر وقيادات روسية كثيرة بـ"أوهام" إمكانية هزيمة القوات الروسية في المعارك القتالية، فإن الواقع الراهن وحسب تقديرات الجانب الروسي يقول بغير ذلك. 

وكان كيسنجر أشار في حديثه الأخير إلى أنه لا ينبغي لروسيا أن تتوقع حلاً عسكرياً للمشكلة الأوكرانية وتجنب العزلة الدولية، وأن الهجوم العسكري سيؤدي إلى "حرب باردة جديدة"، في الوقت الذي توقع فيه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي استمرار القتال لأشهر عديدة أخرى، مؤكداً "أن واشنطن تعتزم تزويد كييف بـ(ما تحتاج إليه للحماية)، وكذلك اتخاذ ما يلزم من إجراءات حتى تشعر روسيا بضغط قوي من أكبر عدد ممكن من الدول".

وتلك كلها تصريحات وتوقعات يحتدم حولها الجدل من دون أدنى بصيص ضوء في نهاية النفق المظلم الذي تدور بين جنباته مشاهد الصراع بين روسيا من جانب وأوكرانيا والولايات المتحدة ومعهما بلدان الاتحاد الأوروبي من جانب آخر، لما يزيد على ثماني سنوات منذ تاريخ إطاحة الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) 2014.

المزيد من تقارير