للوهلة الأولى سوف يبدو غريباً أن يقدِم كاتب شاب على تدوين سيرته الذاتية وهو لم يعِش بعد سوى جزء يسير من تلك السيرة. ربما كان في إمكانه أن ينشر يوميات ما أو بعضاً من ذكرياته عن مرحلة عاشها أو انطباعاته عن زمن معين. ولكن أن يكتب سيرته بادئاً بتدوين صفحاتها الأولى وهو بالكاد بلغ الثامنة والعشرين من عمره ثم ينشرها مكتملة وهو في السادسة والثلاثين، فحكاية تبدو في تاريخ الأدب بالغة الغرابة. لكن الأكثر غرابة منها أن ينتشر الكتاب انتشاراً لا بأس به ويُقرأ على نطاق واسع في اللغة الإنجليزية التي كتب بها ثم يترجم الى لغة الكاتب الأم ليثير معارك قضائية، فأمر لا يبدو ممكناً إلا لمن كانت له وضعية كلاوس مان الاجتماعية ولكن السياسية ناهيك عن وضعيته العائلية. فالحقيقة أن من نتحدث عنه هنا هو ابن الكاتب الألماني الكبير توماس مان وابن شقيق صاحب "مستر أونرات" (الأصل الأدبي الذي اقتُبس منه "الملاك الأزرق" أشهر أفلام السينما الألمانية في الربع الأول من القرن العشرين) هاينريخ مان، بخاصة الأخ المفضل لإريكا مان التي سنرى كيف أن رواية كتبها كلاوس عن طليقها الممثل غوستاف غروندغنس أوصلت كلاوس إلى أعلى درجات الشهرة ولكن بعد أعوام عدة من... انتحاره.
نضال مبكر ضد النازية
وإذا كانت هذه التفاصيل كلها لا تكفي لإقناع القارئ بأنه كان من حق كلاوس مان أن يعجّل، نسبياً على الأقل، بكتابة سيرته بنفسه، حسبنا أن نتذكر كيف كان هذا الكاتب الشاب من أول الأدباء الألمان المناضلين ضد هتلر ونازييه، منتقداً حتى أباه صاحب "دكتور فاوستوس" و"الجبل السحري" و"يوسف وإخوته"، لتقاعسه أول الأمر عن خوض النضال نفسه، مفضلاً عليه هاينريخ العم الذي كان من ناحيته من كبار المناضلين فيما كان توماس يستمهل ويتباطأ في تردد يغيظ. ونعرف في هذا السياق أن السلطات النازية سعت الى القبض على كلاوس ما إن سيطرت على حكم ألمانيا، فكان من أوائل الهاربين الى فرنسا ومن ثم إلى الولايات المتحدة حيث لم يكتفِ بمساعدة الألمان المنفيين مثله ونشر كتاباتهم وصولاً إلى حث المترددين في اللحاق بهم على مبارحة ألمانيا وفضح النازية، بل إنه ما إن نال الجنسية الأميركية بعد تردد السلطات الأميركية في منحه إياها بسبب مثليته المؤكدة التي لم يخفِها أبداً، كما بسبب "يسارية" لم يزعمها لنفسه أبداً، حتى رأيناه يخطو خطوة كبيرة أخرى إلى الأمام، إذ إننا خلال الأعوام الأخيرة من الحرب، سنجده متطوعاً في القوات الأميركية التي حررت إيطاليا من فاشييها ومن نازيي ألمانيا الهتلريين. تُرى هل كان كثيراً على رجل عاش كل هذه الحياة أن يحولها إلى كتاب؟
ألف حياة وحياة
الحقيقة أن ما يمكننا قوله هنا هو أن كلاوس مان على الرغم من أن إنتاجه الأدبي ومكانته في الحياة الفكرية لا يصلان ولو إلى جزء يسير مما كان لأبيه أو لعمه في هذا المجال، فإنه وبكل تأكيد عاش حياة شديدة التنوع والطفرات؛ هذا حتى إن تناسينا حياته الجنسية التي دمرته وإدمانه الذي زاد من عذاباته ليوصله في نهاية الأمر الى الانتحار في مدينة كان في الجنوب الفرنسي وهو بالكاد بلغ الثالثة والأربعين من عمره. وبكل هذا، كان كلاوس مان حالة شديدة الخصوصية في تاريخ الأدب الألماني. بيد أن ما يضاعف من تلك الخصوصية أنه في سيرته الذاتية بالكاد يأتي على تحليل ذاته نفسياً أو اجتماعياً، كما أنه لا يتحدث كثيراً عن أبيه حتى إن كان يفرط بالحديث عن اثنين يبدو أنه أراد أن يتوقف مطولاً عند الأدوار التي لعباها في حياته: عمه هاينريخ، وأخته كلارا التي ارتبط معها بصداقة وثيقة أخذتهما خلال صباهما المبكر في رحلة حول العالم كتبا عنها مدونات عدة وأفرد هو لها صفحات شيقة في سيرته. لكن الأجمل من تلك الصفحات كانت تلك التي وصف فيها الحياة التي عاشوها جميعاً أطفالاً في دارة أبيهما الكبير توماس مان خلال العقود الأولى من القرن العشرين، يوم كانت تلك الدارة تمتلئ بالزوار من أصحاب الأسماء التي كانت تحلق عالياً أو ستحلق لاحقاً عالياً في فضاء الحياة الإبداعية الألمانية. ومن بين هؤلاء الموسيقي برونو والتر الذي يصف لنا كلاوس بروعة وحنين، تلك الجلسات التي كان يعقدها مع أطفال توماس مان وأطفاله هو نفسه، فيدور غناء جماعي بينهم جميعاً، سيقول كلاوس إنه أسهم مساهمة كبيرة في تكوينه الخاص وفي شغفه بالموسيقى شغفاً لم يفارقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وداعاً للطفولة!
هي أجواء من هذا النوع تلك التي يتوقف عندها كلاوس مطولاً في "الانعطافة"، غير أن تلك الأجواء الطفولية سيقول لنا كلاوس كيف إن الظرف العام أتى سريعاً ليضع حداً لها ما إن أطلت بالنسبة إليه مرحلة الشباب مع غرق ألمانيا في هزيمتها عند نهاية الحرب العالمية الأولى وإثر إذلال معاهدة فرساي للشعب الألماني وصعود النازية. وهنا عند هذه الانعطافة، ها هو الكاتب الشاب يقول لنا كيف أنه بدأ يتغير تماماً، مصوراً كيف أنه وهو الذي كان "مجرد نتاج نمطي للبورجوازية الألمانية يعيش حياة لهو كواحد من شبان ألمانيا الذهبيين"، راح يكتسب بالتدريج وهو بعد في بداية عشرينياته وعياً بما يدور من حوله لينخرط، وبالتدريج أيضاً، في نضالات المرحلة، مدافعاً عن الديمقراطية وعن القيم الإنسانية وعن كرامة البشر. ومن هنا، وصل نفوره من النازية إلى ذروته منذ عام 1931 تحديداً... ولم يلبث بعد عامين أن وجد نفسه، كما يروي لنا، في باريس بعدما كان قد اعتاد زيارتها قبل ذلك لفترات قصيرة بين الحين والآخر حيث ارتبط بصداقات مع جان كوكتو ورينيه كريفيل و"بخاصة مع أندريه جيد الذي علّمني بصدقه كيف أسعى دائماً إلى أن أكون أنا ذاتي". ويبدو وصف كلاوس لتلك الأجواء مدهشاً، لا سيما حين يتوقف طويلاً عند أعوام جمهورية فايمار، ومن بعدها الحياة الأليمة التي راح يعيشها كل أولئك المنفيين الألمان الهاربين من النازية إلى... المجهول. غير أن ذلك الوصف الموضوعي كان لا بد له من أن يتقاطع مع صفحات مليئة بالمرارة لعلها تبدأ مع ما يخبرنا به من انتحار صديقه المفضل في باريس رينيه كريفيل عام 1935.
الموت يقفز بشكل مباغت
فالحال أن ذلك الانتحار يوضع أمام أعيننا في الكتاب ليذكّرنا بكم أن الموت ماثل، لكننا نكاد لا نتنبه إلى وجوده في الكتاب قبل ذلك من جراء امتلاء لغة كلاوس مان وأسلوبه بالحيوية. ولكن ها نحن نكتشف بغتة، عند انعطافة داخل السياق، أن الموت غير بعيد ولم يكن بعيداً على الإطلاق حتى في أعوام الطفولة. لكنه حينها كان يبدو عابراً. اليوم بعد انتحار كريفيل صار له طعم آخر. غير أن كلاوس لا يقول لنا هنا على الإطلاق إنه ذات يوم بعد عقد ونصف العقد تقريباً، سوف يضع بنفسه حداً لحياته تماماً كما فعل كريفيل. فهو كان عليه أن يفعل أشياء كثيرة قبل ذلك، أموراً يحدثنا عنها بعاطفة جمة أحياناً وعبوراً في أحيان أخرى: كان عليه أن يخطب صديقة طفولته الابنة الكبرى للكاتب ويدكند، ثم يتركها. وكان عليه أن يصطحب مصورة بارعة وصديقة لأخته هي آن ماري شوارتزنباخ في مشاريع كتابية ورحلات عدة. وكان عليه أن يكتب بضع روايات ستكون أشهرها "مفيستو" التي سيصفي فيها حسابه العائلي والسياسي مع صهره الانتهازي تصفية ستتواصل المعارك، القضائية بخاصة، في شأنها، عقوداً طويلة حتى بعد رحيله ورحيل الصهر الانتهازي، قبل أن تتحول إلى فيلم اشتهر أوائل الثمانينيات بإعادته حكاية عائلة مان ومآسيها إلى الواجهة... كل هذه أمور كان لا يزال على كلاوس أن ينجزها، فأنجزها كما أنجز كتابة "الانعطافة" كسيرة ذاتية ولكن كسيرة جيل بأسره وفي الوقت ذاته كسيرة مضادة للكاتب الكبير الذي كانه وسيبقاه أبوه توماس مان نفسه. المبدع الذي لا شك في أن قارئ "الانعطافة" سيجد مشقة في العثور عليه على صفحات الكتاب بالشكل الذي كان من شأنه أن يتوقعه!