ينتمي الكاتب والروائي الفلسطيني فيصل حوراني (1939- 2022)، الراحل عنا في مدينة جنيف السويسرية، إلى جيل من الكتاب والمثقفين والسياسيين الفلسطينيين الذين ولدوا قبل النكبة وتشردوا مع عائلاتهم وعانوا مأساة اللجوء، وهم صبية صغار لم يتشكَّل وعيهم بعد، ولم يكونوا قد أدركوا أبعاد الفاجعة التي ألمت بشعبهم. ومع أن حوراني، ابن قرية "المسميًّة الصغيرة" الواقعة في جنوب فلسطين، يقارب في السن غسان كنفاني (المولود في عكا عام 1936)، إلا أنه نشر عمله الروائي الأول "المحاصرون" عام 1973، أي بعد استشهاد كنفاني، بعام واحد فقط (1972)، وكان كنفاني قد راكم منجزًا روائيّاً وقصصيّاً ومسرحيّاً وبحثيّاً مبهراً خلال السنوات القليلة التي عاشها على هذه الأرض.
ويعود هذا التأخير في الكتابة الروائية بخاصة، والأدبية بعامة، إلى انشغال فيصل حوراني بملاحقة لقمة العيش أولاً، والانهماك في العمل السياسي الحزبي ثانياً، إذ كان عضواً فاعلاً في حزب البعث العربي الاشتراكي منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، كما أنه عمل في صحافة الحزب، وظل يكتب افتتاحيات عدد من الجرائد السورية التي أصدرها الحزب، حتى بعد أن قام الحزب بفصله من صفوفه. ولا بدَّ أن هذا الانهماك في العمل السياسي اليومي، والتبشيري الأيديولوجي، وكذلك الصراعات السياسية المبدئية التي خاضها الكاتب الفلسطيني في مؤسسات الحزب، قد أعاقت تفرغه للكتابة الأدبية التي لم يستطع إعطاءها ما تستحقه من وقت.
الإنخراط السياسي
وحتى بعد أن تمَّ فصله من الحزب في نهاية الستينيَّات، استمرَّ حوراني في عمله الصحافي في سوريا، ومن ثمَّ في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بداية من سبعينيَّات القرن الماضي. فهو بالإضافة إلى مئات، وربما آلاف المقالات التي كتبها في الصحافة، ألَّف عددًا من الكتب التي تركز في الأساس على الفكر السياسي الفلسطيني، وتناقش تيارات هذا الفكر المحافظة واليسارية الرافضة، بل المتطرفة، أو أنها تبحث في مركزيَّة تفكير الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بالقضية الفلسطينية. ورغم أن هذه هي حال كثير من الكتاب الفلسطينيين؛ فغسان كنفاني كان منخرطاً في السياسة اليومية وفي كتابة المقالات السياسية وافتتاحيات الصحف، إلا أن فيصل حوراني، وهو كاتبٌ موهوب واسع الأفق عميق الرؤية، شغلته السياسة عن تطوير موهبته الأدبية وإنجاز ما كان يطمح إلى إنجازه في الكتابة الروائية والقصصية.
لكن على رغم انشغال حوراني بالعمل السياسي، وكذلك الكتابة السياسية المتواصلة، فإن هذا لم يمنعه من إنجاز عدد من الأعمال الروائية التي لفتت إليه الأنظار في عقد السبعينيّات من القرن الماضي. وقد كان عمله الروائي الأول "المحاصرون" (1973) محاولة لتسجيل أحداث معارك أيلول عام 1970 بين المنظمات الفلسطينية والجيش الأردني، وهو ما أدى إلى رحيل القوات الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، وبدء مرحلة جديدة في مسيرة القضية الفلسطينية. وتسعى الرواية، على رغم انطلاقها من أحداث ما يطلق عليه أيلول الأسود، إلى رصد مسيرة القضية الفلسطينية قبل هذا التاريخ، وتصوير ماضي شخصياتها، بعد النكبة الفلسطينية عام 1948. ويلاحظ قارئ الرواية أن الكاتب ينتقد بوضوح السياسة والممارسات الفلسطينية التي أدت إلى اصطدام المنظمات الفلسطينية بالجيش الأردني، وهو ما ينسجم بصورة عامة مع رؤية فيصل حوراني للسياسة الفلسطينية وتطورات القضية الفلسطينية وتماسِّها مع محيطها العربي، ووقوعها في أخطاء قاتلة من الصدام المباشر مع هذا المحيط بدل جعله سياجاً للمقاومة والمشروع الوطنيين الفلسطينيين.
رواية النكبة
العمل الروائي الثاني الذي أصدره فيصل حوراني هو "بير الشوم" (1979) الذي يصور أحداث النكبة الفلسطينية انطلاقاً من قرية تحمل الاسم نفسه، وتجري وقائعها خلال أسبوع واحد من وقوع النكبة التي أدت إلى مصرع عدد من أهل القرية والقرى المجاورة لهم وتشريد البقية الباقية. ويصف حوراني بلغة تسجل الوقائع، وتسرد التفاصيل، وتنقل الأجواء المحيطة، بؤس الواقع الفلسطيني والعربي في تلك المرحلة، ومناورات السياسيين المتخاذلين منهم، وكذلك تفوق العدو الصهيوني، وإصرار كثير من الفلسطينيين على المقاومة والقتال رغم ضعف التسليح والعدة، وتواطؤ قوات الانتداب البريطاني مع القوات الصهيونية، والمؤامرة الدولية المحكمة التي حيكت ضد الشعب الفلسطيني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في عمله الروائي الثالث "سمك اللجَّة" (1983)، فإن حوراني يعود إلى تجربته في التدريس في الريف السوري، وكذلك عمله السياسي في صفوف حزب البعث، ومعايشته لمرحلة الدكتاتوريات السورية الأولى التي جاءت بها الانقلابات العسكرية في فترة حكم حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، ومؤامرات القوى الرجعية السورية ضد القضية الفلسطينية والنضال من أجل تحرير فلسطين. كما أنها تلقي ضوءاً ساطعاً على الانتهازية السياسية والاجتماعية، والتسلُّط والاستبداد، وما يصنعه بالبشر. وهي مثلها مثل الروايتين السابقتين، تتخذ من سرد التفاصيل، وتسجيل انفعالات الشخصيات، والحفر في دواخلها، وتصوير المحيط المكاني، والسياق الزماني، للغور داخل الشخصيات والأحداث. وهو ما يجعلنا نأسف لكون فيصل حوراني لم ينحز الكثير من الأعمال الروائية التي كان في مقدورها أن تثري المنجز الروائي الفلسطيني.
"دروب المنفى"
لكن العمل المحوري الأساسي، والمركزي، في منجز فيصل حوراني الأدبي، هو سيرته الذاتية "دروب المنفى" (في خمسة أجزاء)، التي يؤرخ فيها لفلسطين قبل النكبة، وبعد النكبة، وصولًا إلى ثمانينيات القرن الماضي، انطلاقًا من محيطه العائلي وحكايته الشخصية، ومن كونه أشهر يتيم في القرية، مات والده وهو طفل صغير وأجبرت أمه على الزواج وتركه لتعيش في قرية أخرى. ويستخدم الكاتب أسلوب ضمير المخاطب ليحكي حكايته، متوجهاً إلى قارئ، أو مستمع مهتم بحكايته، متأثراً، كما نتبيَّن في السرد، من أسلوب "أيام" طه حسين، الذي يكنُّ له حوراني تقديراً واحتراماً كبيرين، مقرّاً بتأثيره الثقافي والأدبي عليه. وينقل لنا الكاتب في هذه السيرة، التي تترجَّح بين السرد شبه الروائي والتسجيل ونقل الوقائع والتفاصيل واستذكار الماضي وأحداثه ومجرياته، حال الفلسطينيين في أربعينيات القرن الماضي، وكذلك في سوريا التي عاش فيها حوراني طفولته وصباه وشبابه، مركزاً، بإسهاب، على عمله السياسي في صفوف حزب البعث، وخلافاته معه، وعلاقاته بمثقفي اليسار السوري، والأردني، والفلسطيني.
ويسرد لنا آراءه في السياسة، والمجتمع، والعلاقات الإنسانية، من خلال سيرة شخصية لا تغفل أصغر التفاصيل التي تحكي عن الذات والآخرين. وتستوقفنا في هذه السيرة الذاتية العريضة الممتدة تفاصيل لقاء فيصل حوراني لأول مرة بمحمود درويش في مؤتمر الشبيبة في العاصمة البلغارية صوفيا عام 1968، وهو ما أدى إلى فصله من حزب البعث السوري لأنه صافح درويش عضو حزب راكاح الشيوعي الإسرائيلي، الذي تعامل معه عدد من أعضاء الوفد السوري، السوريين والفلسطينيين منهم، كحزب صهيوني. كما تلفت الانتباه العلاقة المضطربة التي ربطته بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات (1929- 2004)، إضافة إلى علاقاته بالشعراء والمثقفين الفلسطينيين (أبو سلمى عبد الكريم الكرمي، ومعين بسيسو، وآخرون كثيرون غيرهم). لقد تقلَّب عيش فيصل حوراني بين العواصم والمدن العديدة التي قذفته إليها دروب منفاه على مدار عمره، ليموت بعيداً عن فلسطين في منفاه السويسري. إنها بالفعل سيرة ممتعة، رغم التفاصيل الكثيرة المتتابعة التي تضمها، والتركيز الكثير على وضعه كمنتم إلى حزب البعث الذي فصله، ثم تحرر هو من سحره وأدرك منذ شبابه أنه حزب مستبد لا يتميز عن غيره من السلطات الدكتاتورية العربية الأخرى ذات التلاوين المختلفة.