Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظرية الكلب الأدنى

يتعاطف الناس غالباً مع الدولة الأصغر مثلما فعلوا مع فيتنام وكوبا وأفغانستان في صداماتها مع أميركا

عراقيون يشاهدون تمثال صدام حسين وهو يسقط في ساحة الفردوس ببغداد (أ.ف.ب)

الانحياز إلى الأضعف أو الأصغر أو الأقل في كل السياقات التنافسيّة هو سلوك شائع، يطلق عليه علماء النفس والاجتماع تأثير الكلب الأدنى (The underdog effect). وقد طرح العديد من هؤلاء العلماء السؤال مبكراً جداً في سياقه البحثيّ والنظريّ: ما السبب الذي يدفعنا إلى تمني فوز الفريق الأضعف، وربح التاجر الأقل حظاً، وتفوّق الطالب الأقل ذكاءً؟

تناولت العديد من الدراسات النفسيّة هذا الانحياز العاطفي غير المبرر منطقياً، فقامت بإثبات وجوده، وأنه ليس مجرد ظاهرة متوهمة. بل إنه سلوك يتكرر باستمرار حتى إننا نمارسه يومياً عشرات المرات دون أن نشعر، ومن ثم حاول علماء النفس إيجاد تبريرات علمية لمثل هذا السلوك.

بعض الدراسات وجد أن الناس يميلون إلى تفضيل الأضعف على الأقوى ظناً منهم أن الأضعف يبذل جهداً أكبر كونه ضعيفاً، بينما الأقوى يتفوّق بسهولة كونه قوياً. وهذا الظن لا يؤكده شيء ولا يسنده دليل، وهو ظنٌ يتجاهل بطبيعة الحال الجهود التي بذلها الأقوى ليصبح أقوى، والأخطاء التي وقع فيها الضعيف ليمسي ضعيفاً.

دراسات أخرى حاولت التفريق بين تمني خسارة الأقوى أو تمني فوز الأضعف، وهما شعوران مختلفان ينبثقان من حزمتي مشاعر مختلفتين. أيضاً طرح بعض الباحثين نظرية التماهي مع المتنافسين من قبل الطرف الثالث المراقب، بمعنى أن البعض يتمنى انتصار الضعيف، لأنه ضعيف مثله، ويتمنى أن يأتيه الدور، أو ربما يتمنى خسارة القويّ، لأنه قويّ مثله ويخشى منافسته.

نظرية تأثير الكلب الأدنى لها حضور في الأوساط السياسية بطبيعة الحال، ويذكر المؤرخون أنها كانت سبباً رئيساً في فوز الرئيس الأميركي ترومان على المرشح الجمهوري ديوي، الأوفر حظاً وشهرة وإنجازات آنذاك في انتخابات العام 1948.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويكثر المحللون السياسيون من استخدام هذه النظرية كلما اندلعت مفاجأة انتخابية ما، مثل فوز أوباما بالرئاسة كأول رئيس أسود، أو كينيدي كأول رئيس كاثوليكي، أو ثاتشر كأول رئيسة وزراء لبريطانيا.

هذا التأثير يتجاوز الأشخاص نحو الدول وحروبها المختلفة الأسباب، إذ يتعاطف الناس غالباً مع الدولة الأصغر مثلما فعلوا مع فيتنام وكوبا وأفغانستان في صداماتها مع الولايات المتحدة الأميركية. ولعلها تكون إحدى أهم الأوراق التي لعبتها إسرائيل، وما زالت تلعبها في صراعها الأيديولوجي مع العرب.

ففي حواره مع قناة (سي إن إن) قبل عدة سنوات، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باختيار مكان الحوار بعناية أمام خريطة كبرى للشرق الأوسط، وأشار بيده إلى موضع إسرائيل الصغير جداً مقارنة بالعالم العربي ليطلق إيحاءً غير مباشر بأن هذه الدولة الصغيرة لا يمكن أن تكون هي المعتدية والمحتلة.

وفي التسعينيات الميلادية، وقف العالم كله متعاطفاً مع الكويت بعد غزوها من قِبل العراق دون أن يكون لدى بعضهم إلمام كامل بما حدث فعلياً على أرض الواقع، وبالتأكيد أنها من الحالات التي تطابق فيها الانحياز مع عدالة القضية، لكن البعيدين جداً عن محور الأحداث وخلفياتها السياسية لم يقفوا مع الكويت، لأنها محتلة فحسب، بل لأنها صغيرة مقارنة بالعراق. وقد ظهر ذلك في ردود أفعالهم التي نقلتها بعض الدراسات ووسائل الإعلام عندما لم يكن بعضهم يدرك أن العراق قام بغزو الكويت، وظنوا أنها مجرد حرب اندلعت بين الدولتين.

بعد سنوات قليلة، وجدنا العالم يقف مع العراق بعد غزوه من قِبل الولايات المتحدة، بعد أن خرجت الكويت ودول الخليج الأخرى من المعادلة. وفي كلتا الحالتين هُمّشَت العوامل الواقعية في هذه الانحيازات: من المعتدي؟ ومن المعتدى عليه؟ أمام عامل أكثر تأثيراً وهو نظريتنا إياها.

الطريف، أن تسمية هذه النظرية جاءت كما يبدو من سباقات الكلاب، التي كانت شائعة فيما مضى. والتي يصطف فيها الجمهور على جانبي المضمار من غير مُلّاك الكلاب ليهتفوا تشجيعاً للكلب الأخير، محفزين إياه على التقدم، وفيها ينحاز الجمهور إلى الكلب الصغير الضعيف إذا بذل جهداً خارقاً لتجاوز الكلب الأكبر والأقوى.

استخدام الكلب تحديداً في هذه النظرية له دلالة مصادفة لثقافتنا العربية. فلربما كان الكلب القويّ الذي نتمنى خسارته وفياً وخدوماً وحامياً لقطيع كامل من الخراف، ولربما كان الكلب الضعيف الذي نتمنى فوزه عقوراً ومؤذياً، يعضّ اليد التي أطعمته، ويتحالف مع الذئاب.

مرة أخرى، إن الجمهور الذي فقد معياره المحايد في الحكم على الأمور، وسلَّم أحكامه لتأثير الكلب الأدنى المنحاز إلى أسباب شعورية لا علاقة لها بالمنطق، سيظل يهتف ويهتف، وسيظل الكلب الصغير يركض ويركض.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء