في بداية الفترة الرئاسية الثانية، وجه الرئيس الأميركي السابق أوباما إدارته لتباشر الانسحاب الاستراتيجي من الشرق الأوسط الكبير، الذي دخله وتوسع فيه الرئيس بوش من قبله بعد ضربات 11 سبتمبر (أيلول)، وإعادة التموقع في منطقة المحيط الهادي، لا سيما في أستراليا وأوقيانوسيا.
وكان ذلك تماشياً مع الانسحاب من العراق، الذي أنجز في 2012، والتهيئة للخروج من أفغانستان، والمباحثات للوصول إلى اتفاق مع إيران. لكن اجتياح "داعش" للعراق وسوريا أعاق هذه الخطط، وألزم واشنطن بالعودة إلى الهلال الخصيب لمحاربة التنظيم المقاتل لسنوات، وأخر إعادة الانتشار الكبير في أبعد أصقاع العالم عن كل شيء.
وجاءت إدارة ترمب لتغير السياسة الأميركية من جديد، لتعيد التركيز على الشرق الأوسط من ناحية، وتقترب من شبه الجزيرة الكورية، وتدعم تايوان وتضغط دبلوماسياً على الصين، وانسحب من الاتفاق النووي، ودعم التحالف العربي، وأطلق معاهدة إبراهام، وحاول إيجاد معادلات مع روسيا.
إلا أن دخول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض أعاد تغيير السياسة من جديد. فعاد التفاوض مع إيران، وخفت الحفاوة مع العرب، وبدأ تخفيف الوجود العسكري الأميركي في العراق، وتشنجت العلاقات مع موسكو، وبدأت الصين تتكلم عن تايوان، وصعدت كوريا الشمالية خطابها.
وجاءت حرب أوكرانيا لتهز العلاقات الدولية، وتضع واشنطن أمام تحديات اجتمعت مع بعضها بعضاً، خصوصاً مع اجتياح روسيا لجارتها في فبراير (شباط) الماضي. فما هي هذه التحديات، بخاصة في آسيا، وكيف تجمعت على أميركا؟
التحدي الأول: روسيا
من دون شك فإن حرب أوكرانيا فتحت ملفاً خطيراً أمام واشنطن عالمياً، وهو صراع مفتوح بين الأطلسي و"أوراسيا "Eurasia، وهي القوة الإقليمية الصاعدة التي تمتد من بيلاروس، إلى روسيا، إلى بعض جمهوريات آسيا الوسطى حتى فلاديفستوك Vladivostok على شواطئ الهادي.
خطورة الوضع أن الولايات المتحدة هي قائدة "الناتو"، والغرب يتكل عليها كلياً، بالتالي تتحمل مسؤولية دعم أوكرانيا عسكرياً في حرب مفتوحة على مصراعيها. فإذا لم تنجح أميركا في إيقاف التقدم الروسي، قد تنشأ أزمة ثقة بالنفس داخل الغرب، ربما تؤدي إلى تداعيات أوروبية وأطلسية. بالمقابل، إذا كثفت الإدارة تدخلها الميداني في الحرب لتغير في ميزان القوى على الأرض، قد تجد نفسها منخرطة في مواجهة مباشرة مع روسيا، فتفتح جبهة من شرق أوروبا إلى ألاسكا، وفي البحار. فأياً يكون الوضع، التحدي كبير، لا سيما أن الحرب تبدو طويلة، والتصعيد مستمر. خصوصاً أن الإدارة وضعت ثقلها في الميزان وأصدرت أقوى العقوبات على روسيا، آملة أن تردعها وتجبرها على التوقف، وإنهاء الحرب. ولكن القضية أكبر من أن تحسم بسرعة أو بسهولة، فحجم روسيا ومساحتها الآسيوية تجعلها صعبة التدجين، ولو أن أميركا هي القوة العظمى على كل الأصعدة.
التحدي الثاني: الصين
التحدي الثاني أمام واشنطن هو أن شريك موسكو الآسيوي، أي الصين، هو القوة الاقتصادية الثانية في العالم، والقوة النووية الثالثة. وبكين، بغض النظر عن عدم إعلانها الرسمي بأنها تؤيد العملية في أوكرانيا، إلا أنها باتت المدماك الأساسي، الذي يوفر مساحة دعم استراتيجية آسيوية وعالمية لروسيا. وكما كتبنا الأسبوع الماضي، "فالجمهورية الشعبية" باتت تستفيد من انغماس الغرب في وحول أوكرانيا، لتبدأ في توسعها بمنطقة الهادي. مما يشكل ضغطاً ثقيلاً على الإدارة، حيث إنه بات عليها أن تواجه قوتين عظميين على جبهتين مختلفتين، وفي وقت واحد: روسيا والصين. ولهذه الأخيرة قدرات مالية واسعة، لا سيما أنها قابضة على ديون أميركية بالتريليونات. أما قوتها العسكرية، فهي أكثر حداثة من القوات الروسية. التحدي الصيني، إذا أضيف إلى التحدي الروسي يشكل نصف قارة آسيا، وكتلة اقتصادية لا يستهان بها.
التحدي الثالث: كوريا الشمالية
هذه الدولة، الستالينية الهوية، هي بحجم صغير جغرافياً، واقتصاد شبه منعدم، لكنها تشكل خطراً أمنياً ضد حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا. والأهم أن حدودها مع الصين وروسيا تجعل منها تحدياً معقداً لواشنطن بشكل عام، وظاهرة منفلتة في ظل الأزمات الحالية. فأميركا هي بحاجة لمجلس الأمن من أجل لجم تهديدات بيونغ يانغ الصاروخية والنووية، وبسبب أزمة أوكرانيا، المجلس معطل. تحت الإدارة الماضية، تم إرسال قوة ضاربة بحرية إلى مقربة من كوريا الشمالية لردع زعيمها "الزعيم كيم". ولكن الإدارة الحالية، إذ تواجه الجبارين المنافسين، ليست بظروف تسمح لها بالتركيز الاستراتيجي على الخطر الكوري، لأنه بات مترابطاً مع القوتين العالميتين من ورائه، الصين وروسيا.
التحدي الرابع: إيران
في القارة نفسها، تبرز إيران كتحد رابع للولايات المتحدة على مختلف الصعد، أمنياً وعسكرياً سياسياً، وتشكل عاملاً لعدم استقرار لحلفاء واشنطن وشركائها في المنطقة. إلا أن التعقيد الاستراتيجي الأعظم بالنسبة إلى الإدارة هو كيفية مواجهة نظام له قدرة على التأثير من أفغانستان إلى الخليج، فالبحر المتوسط. فمن ناحية، انخرطت واشنطن في آلية مفاوضات طويلة للعودة إلى الاتفاق النووي، مما يحد قدرتها في الضغط على طهران، ومن ناحية أخرى تستمر "الجمهورية الإسلامية" في تحركاتها الداعمة للميليشيات في أربعة دول شرق أوسطية، وتعزز ترسانتها الباليستية والسيبارية. أما الأهم استراتيجياً أن إيران وقعت اتفاقات تعاون عسكري مع روسيا والصين، رابطة نفسها بالمحاور الآسيوية المضادة لأميركا والغرب. مما يحد من الضغط الأميركي عليها، ويجعلها تنتقل من تحد إقليمي إلى تحد قاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التحدي الخامس: أفغانستان
لأول وهلة لا تبدو "الإمارة الطالبانية" كأنها تحد كبير للولايات المتحدة. فهي مساحة بعيدة في قلب آسيا، تحكمها جماعات غير متقدمة، لا تملك صواريخ باليستية، ولا طيراناً، ولا قدرات اقتصادية تذكر. فكيف إذا تشكل تحدياً للأمن القومي الأميركي أو الغربي؟ الجواب يأتي من زاوية التفكير الاستراتيجي الأوسع. فلا ننسى أن هذه الميليشيا استولت على أسلحة أميركية بقيمة أكثر من 80 مليار دولار، وهي تستعمل الآن لتجهيز جيش راديكالي داخل أفغانستان، وقد تسرب إلى خارجه لتجهيز جماعات إرهابية في المنطقة والعالم.
وعلى الرغم من تأكيدات "الإمارة المقاتلة" بأنها لن تسمح للمجموعات الإرهابية بالانطلاق من أراضيها، فهذه الشبكات، من "قاعدة" و"داعش" وغيرها، هي تتجمع داخل أفغانستان.
ومن ناحية أخرى فقد اعترفت بكين وموسكو بالنظام الجديد براغماتياً، وقد تلحق بهما إيران. فها هي السلطة الطالبانية تتموقع في العمق الآسيوي، وتنظم نفسها لدعم القوى التكفيرية عالمياً، مما سيضع الغرب أمام تحديات أكبر، في وقت يواجه أزمة مصيرية في أوروبا.
إلا أن التحدي في أفغانستان ليس فقط ما قد تؤول إليه الأوضاع فيها، بعد فترة، بل لما سببه الانسحاب الأميركي المتهور منها في صيف 2021، إذ بات واضحاً أن التحديات الأربعة السابقة تفجرت بقوة بعد هذا الانسحاب، الذي شكل ضوءاً أخضر غير مباشر للقوى المتواجهة مع أميركا، كي تثب في كل اتجاه. فاجتاحت روسيا أوكرانيا، واقتحمت الصين المحيط الهادي، وعادت كوريا الشمالية إلى تهديداتها، واستشرت إيران في الشرق الأوسط. لماذا؟ لأنه بنظرهم أن أميركا خرجت "مهزومة" من قلب آسيا. فانتفضوا.
هذه التحديات الخمس في آسيا، إن كان فيها خطورة أكبر، فلأنها مترابطة ومنسقة مع بعضها بعضاً إلى حد ما. بالتالي فهي تشكل تحدياً قارياً ذا بعد عالمي، وربما عالمي بالنسبة إلى الغرب وأميركا. مما سيصعب الوضع دولياً على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي. فكيف يمكن تخفيف هذا التصعيد؟ يبقى السؤال الأكبر.