على مدار عقود طويلة هي عمر الدراما المصرية، والأعمال الفنية عامرة بفنانات يرتدين أنواعاً مختلفة من أزياء تناسب الأدوار، وتتواءم مع الأحداث. وحتى سنوات قليلة مضت، كان ظهور ممثلة ترتدي الحجاب أمراً غير وارد، ليس اعتراضاً على الحجاب، أو انتقاصاً منه، أو حتى احتراماً له، لكن لأنه لم يكن هناك حجاب في الشارع المصري.
الشارع المصري الذي مر بتغيرات وتحولات عدة على مدار نصف قرن مضى، تحولت الغالبية العظمى من نسائه إلى الحجاب تواكباً مع التغيرات الثقافية الكبرى والتحولات السياسية الجوهرية. وبعد ما كان ظهور ممثلة بغطاء رأس في أفلام الأبيض والأسود منذ إنتاج أول فيلم ناطق، وهو "أولاد الذوات"، عام 1932، وحتى ثمانينيات القرن، مقتصراً على الفلاحات اللاتي كن يرتدين أغطية رأس تكشف عن شعرهن من الخلف، والسيدات المتقدمات في العمر، بغض النظر عن انتمائهن الديني، وكذلك مهن بعينها تستوجب تغطية الشعر، مثل الممرضات وعاملات المنازل والمصانع، وجميعها لم يكن لأسباب دينية، بدأ الحجاب يتسلل إلى الدراما المصرية استجابة للتغيرات الحادثة لدى جمهور المتلقين، لكن على استحياء.
فالغالبية المطلقة من الفنانات لا ترتدي الحجاب. وهذه الغالبية وحتى سنوات قليلة مضت لم يدر في خلدها أنها قد تؤدي دوراً على الشاشة وهي ترتدي الحجاب، ولو على سبيل التمثيل، لكن الزمن يتغير، والثقافة تتبدل، والمظهر العام للمجتمع المصري انقلب رأساً على عقب حتى باتت الغالبية المطلقة من الإناث يرتدين الحجاب منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وبدأت أدوار المحجبات تظهر تدريجياً في السينما المصرية أكثر من المسلسلات، لكنه ظل ظهوراً محدوداً. كما ظل مقتصراً على كونه زياً اجتماعياً أكثر من كونه دينياً، حيث الممثلة غالباً تقوم بدور فتاة أو سيدة في منطقة شعبية، ولا يمكن إلا أن ترتدي الحجاب، وإلا تحولت إلى منبوذة خارجة عن توجه الغالبية. فمثلاً ظهرت الممثلات رانيا يوسف وجومانا مراد ومي كساب في فيلم "كباريه" باعتبارهن فتيات محجبات، لكن منهن من تعمل في ملهى ليلي، أو تقيم علاقة مع شاب، أو غيرها. وتواترت أدوار الحجاب في السينما، فهي زوجة أو طالبة أو موظفة محجبة، لكنها تعود إلى البيت فتخلع الحجاب على الشاشة أيضاً.
تسلل الظاهرة
وتسللت الظاهرة إلى المسلسلات. ويبدو أن صناع الدراما استشعروا الانفصام عن الشارع والمشاهد، فليس من المعقول أن تكون الغالبية منتمية إلى أسر إناثها جميعاً محجبات، لكن غالبية الأدوار منزوعة الحجاب.
في عام 2008، أدلى الكاتب والسيناريست الراحل وحيد حامد بحديث عن الحجاب في الدراما قال فيه إن السينما تعبر عن المرحلة التي تُحاكيها، وعليها أن ترتدي ملابس المجتمع الذي تحاكيه. وأضاف: "نحن الآن في زمن الحجاب".
وقال حامد، إن الشخصية التي ترتدي الحجاب يجب أن تظهر بطبيعتها، ودون مبالغة أو تحميل مصطنع لمنظومة أخلاقية، "لأن الحجاب لا يعطي حصانة لأحد، وهو ليس إعلاناً عن التقوى والإيمان. الحجاب أصبح زياً اجتماعياً، وليس زياً دينياً. وهناك العديد من المحجبات يرتكبن جرائم مختلفة، ولا يجوز أن يقدمهن كملائكة خوفاً من التيار الديني".
ورأى حامد أن السينما المصرية تعيش حالة خاصة (2008) "لأن مصر بأكملها تتعرض لحملة سلفية متشددة بدأت في غزو السينما بشكل غير مباشر، وهذا ما يجعلني غير متفائل في المرحلة المقبلة". وأضاف: "أرى أن السينما رايحة (ذاهبة) في داهية، ولا أعرف الحل".
يشار إلى أن وحيد حامد كانت له صولات وجولات عبر أعماله الدرامية مع تيارات الإسلام السياسي والجماعات الدينية وموجات التشدد في مصر. ووصل الأمر في عام 1994 وقت عرض مسلسله "العائلة" إلى تكفيره. واحتوى المسلسل، الذي تعرض لزحف التيارات الدينية المتشددة على المجتمع المصري، لمشهد ظهر فيه شيخ يلقي خطبة عن عذاب القبر، واستشهد بحديث شريف قال فيه إن سيدة دخلت على رسول الله فسمعته يقول: "وتعوذوا بالله من عذاب القبر"، فسألته: "يا رسول الله، أو للقبر عذاب؟"، فأجابها: "إنهم ليعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم"، فما كان من أحد أبطال المسلسل، وهو الفنان الراحل محمود مرسي، إلا أن شكك في الحديث، ما أغضب الشيخ، ثم تحدث مع صديقه عن أن الدين يجب أن ينتهج منهج الترغيب لا الترهيب.
وبدا الشيخ المتشدد أضعف حجة وغير قادر على الرد المنطقي، وهو ما لم يغضب الجماعات الدينية فقط، وبعضها كفّره، بل أغضب مؤسسة الأزهر، ووصل الأمر لدرجة أن الإمام الأكبر الراحل جاد الحق علي جاد الحق، اعترض، وطالب وزير الإعلام بوقف عرض المسلسل. كما طالب في بيان شديد اللهجة وزارتي الإعلام والثقافة باعتبار الأزهر وحده هو صاحب الرأي الأوحد والملزم في تقديم المحتوى الدرامي المتعلق بالدين. بدا موقف الأزهر حينها غريباً وغير معتاد، لكن المجتمع المصري كان يتحول بسرعة البرق.
فنانات يعتزلن الفن
ذلك التحول في المجتمع دفع مجموعة كبيرة من الفنانات المصريات لإعلان اعتزالهن الفن، سواء التمثيل، أو الغناء، وذلك في منتصف التسعينيات، وحتى مطلع القرن الحالي. الأسماء كثيرة، منها شادية وسهير البابلي وسهير رمزي وشهيرة وعبير صبري ومنى عبد الغني وميرنا المهندس وموناليزا وهدى رمزي ومشيرة إسماعيل وسوسن بدر وشمس البارودي وهناء ثروت وهالة فاخر وعفاف شعيب وحنان ترك وصابرين وحلا شيحة، وغيرهن.
هذا الخروج شبه المنظم، شبه الممنهج، شبه المتزامن، أسفر عن تغيرات كبرى في النظرة إلى الحجاب في الوسط الدرامي. وبين مؤيد مشجع للتوجه نحو "الالتزام" ومزيد من الاحتشام، وآخر مندد بـ"المد المتشدد" و"الاستهداف المخطط" لقوة مصر الناعمة المتمثلة في الفن والدراما، وفريق ثالث يرى أنها حرية شخصية بحتة.
لكن الحرية الشخصية تحولت إلى شد وجذب محتدمين مع تأرجح الكثير من الفنانات المحجبات، فمنهن من تبرّأن مما قدّمن من أعمال، وطلبن التوبة والمغفرة من خلال وسطاء دينيين، ومنهن من أفتت بجواز التمثيل بالحجاب وعادت لتقدم بضعة أدوار، ومنهن من انزوت عن الأنظار، ومنهن من احتفظت بالحجاب، ومنهن من خلعنه وحاولن العودة، إن لم يكن إلى التمثيل، فبالوجود في دوائر الممثلين.
وأخذ الحجاب يتمدد في المجتمع طولاً وعرضاً مع بقاء الدراما بعيداً إلى حد ما عن التمدد. وبدأ الحجاب في الدراما يلفت انتباه الباحثين، سواء بغرض نصرة الحجاب والدفاع عن الدين، أو بهدف التنديد بالمد الديني المظهري والتحذير مما هو قادم، أو لرصد الظاهرة وتحليل محتوياتها والتكهن بمستقبلها.
صورة المحجبات
في عام 2009 أجرت الباحثة في جامعة عين شمس داليا المتبولي دراسة عنوانها "صورة المحجبات كما تعكسها الدراما التلفزيونية المصرية لدى الفتيات"، وجاء فيها أن 56.5 في المئة من الأدوار التي أدّتها المرأة المحجبة كانت ذات طبيعة إيجابية، وكانت من أبرز السمات الإيجابية تحمل المسؤولية والاعتزاز بالنفس والإيمان بالله. وأشارت الدراسة إلى أنه على الرغم من ذلك، فإن التشاؤم كان أبرز سمة سلبية طغت على النسبة الأكبر من أدوار المحجبات.
إلا أن أغلب الاهتمام كان منصبّاً في جبهتين متضادتين: الأولى تبرئة ساحة الحجاب من الدونية والإعلاء من شأنه باعتباره الأفضل والأنقى، والثانية قامت بالعكس، وظهر تيار قوي بين قطاع من المثقفين والكتاب والمفكرين يميل إلى التخوف مما هو قادم، وما يرمز إليه انتشار الحجاب من هيمنة للتيارات المحافظة والمعروفة بعدائها للفنون ورغبتها في الهيمنة على العقول من بوابة الحلال والحرام التي لا تضاهيها بوابات إبداع أو أبواب فنون، أو حتى نوافذ حريات.
فرض اجتماعي أم واقع ديني؟
حتى الجهة التي يفترض أنها تكبح جماح الحريات وتحد من شطط الإبداع، فقد خرجت لتعلن أنها ستتعامل مع الحجاب باعتباره زياً اجتماعياً لا قداسة له ولا يعصم أحداً من الخطأ. رئيس الرقابة على المصنفات الفنية الراحل علي أبو شادي قال، في تصريحات صحافية عدة في عام 2008، إن الرقابة "تنظر إلى الشخصيات بشكل موضوعي، وهل الحجاب في العمل الدرامي ضروري أم مُقحم على السيناريو".
وتحدث أبو شادي غير مرة عن أنه يرفض تماماً الربط بين الدين والملابس، وأن الحجاب لا يعصم أحداً من الخطأ. وتساءل: "إذا ارتدت كل المصريات الحجاب فهل سيصبحن فوق الخطأ؟"، وإن كان الحجاب في الدراما سيكون فرضاً اجتماعياً أم واقعاً دينياً؟".
وقال أبو شادي إن السينمائيين تخوفوا كثيراً من مسألة وصول الحجاب إلى الأعمال السينمائية، لا سيما أن الجماعات المتشددة تتربص بالفن، وربما تجد وجود الحجاب في الأعمال الدرامية اعتداءً على "الشكل الخاص بهم".
لكن جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ عام 2008. وأصبح وجود الحجاب في الأعمال الدرامية أمراً واقعاً، سواء بحكم الدور الذي تؤديه الممثلة، أو لأن العمل يحاكي الواقع بشكل ما، أو لأن الممثلة محجبة، لكن أعدادهن ما زالت قليلة جداً.
التمثيل والحجاب يستويان
الغالبية العظمى من المشاهدين لم تستوقفهم كثيراً وجود محجبات من عدمه في الأعمال الدرامية، لكن الجمهور ليس وحدةً واحدةً. فهناك من شعر بأن التمثيل والحجاب لا يستويان، على اعتبار أن التمثيل حرام أو مكروه أو فيه شبهة. وهناك من اتفق مع ذلك التوجه، لكن من منطلق أن الحجاب تدين مظهري اجتاح المجتمع، ولا ينبغي إقحامه حتى في المتع القليلة المتبقية.
لكن آخرين أصبحوا أكثر تربصاً بالأعمال الدرامية لحماية الحجاب وما يمثله من أية محاولات للنيل أو السخرية منه أو التقليل من شأنه أو ربطه بمنظومة أخلاقية غير سوية. وأصبحت هناك جهات رقابية غير رسمية ذات طابع ديني تؤدي مهمة رصد محتوى الأعمال الدرامية ومراقبتها لتبث اعتراضاتها وتنشر تنديداتها على منصات التواصل الاجتماعي.
أغرب هذه المهام وأحدثها هو ما تعرض له مسلسل "بطلوع الروح" الذي يعرض حالياً ضمن وليمة رمضان الدرامية، وتظهر فيه الفنانة إلهام شاهين وهي ترتدي عصابة رأس مكتوباً عليها عبارة التوحيد، وكذلك الفنانة منة شلبي وهي ترتدي النقاب. ومعروف أن العمل يتناول التطرف الديني والإرهاب وأساليب التجنيد التي تتبعها "داعش". الغريب أن أصوات عدة نددت بشاهين وشلبي، واعتبرت ملابسهما إهانة للإسلام، على أساس أنها ملابس "المرأة المسلمة"، وربطها بالإرهاب لا يجوز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجمهور يرتدي الحجاب
السنوات الماضية شهدت تسللاً للحجاب إلى الأعمال الدرامية. ولِمَ لا، وهي تحاكي الواقع وتخاطب جمهوراً أغلب إناثه من المحجبات، لكن هذا العام، أعيد طرح قضية الحجاب في الدراما وهل الغرض منه تلميع الحجاب أم تلميع الدراما أم أنه يوظف للنيل من الدين والمتدينين؟
الباحثة في العلوم السياسية في جامعة القاهرة، رضوى منتصر الفقي، أشارت في دراسة عنوانها "التطور التاريخي للحجاب في مصر" (2020) إلى أن الحجاب ليس مجرد زي ترتديه المرأة تعبيراً عن قناعات دينية، لكنه جزء من المشهد المجتمعي، يمكن من خلاله رصد التغيرات والمراحل المختلفة التي مر بها المجتمع المصري من ظروف سياسية وتحولات اجتماعية وتقلبات فكرية وقناعات ثقافية.
وتستعرض الفقي رحلة الحجاب في مصر من التعميم، لكن لأسباب ثقافية، وليست دينية، إلى النزع، ومنها إلى الفرض مجدداً، ومراحل الرحلة كلها وثيقة الصلة بالظرف السياسي والثقافي والاقتصادي. تقول إن دعوات عدة سرت في مصر لنزع الحجاب الذي كان يغطي رؤوس النساء ووجوههن فيما يعرف بـ"البُرقع". وارتبطت دعوات خلع الحجاب بنزعات التحرر والمقاومة، وعلى الرغم من عدم صدور قرار رسمي بمنع الحجاب بمصر، وهو ما حدث في دول عربية وإسلامية عدة في مطلع القرن الماضي، فإن تأثير الحركات والدعوات المختلفة لتحرير المرأة ونزع الحجاب كان أقوى من القانون. ومع قدوم الأربعينيات، أصبحت الغالبية المطلقة من النساء المصريات من كل الطبقات من دون حجاب.
موروث ثقافي
وتشير الباحثة إلى أن الحجاب في هذه الحقبة لم يكن مكوناً دينياً، بل موروث ثقافي مثله مثل الطربوش، وهو ما جعل التخلص منه سهلاً. وكان لتبنّي الدولة منذ خمسينيات القرن الماضي خطابات يسارية وشعارات قومية أثر مضاعف في إبقاء الحجاب بعيداً من الشارع المصري.
لذلك، فإن مجرد تخيّل ظهور الفنانة فاتن حمامة مثلاً في "نهر الحب" أو "لا أنام" أو مريم فخر الدين في "رد قلبي" أو "الأيدي الناعمة" بالحجاب لسبب بسيط، وهو عدم وجوده واقتصاره على كبار السن ومهن بعينها.
وتقول الباحثة رضوى منتصر الفقي، إن الحجاب لم يعد فجأةً إلى الشارع المصري، بل بدأت بوادر خفيفة مع نكسة عام 1967 وتراجع المشروع القومي ومحاولة المصريين البحث في الدين عن وسيلة للتغلب على مرارة الهزيمة.
وفي حرب عام 1973، اتضح تحول المجتمع صوب التدين عبر الشعارات الدينية. واستمر الوازع الديني في التوسع، ومعه الحجاب في الانتشار، وهذه المرة لم ينتشر كفرض ثقافي، ولكن كبُعد ديني. وتشير الباحثة إلى أثر الدعاة الجدد والمشايخ ورجال الأزهر الذين لم يعملوا في الخفاء، لكن فتحت قنوات الدولة لهم أبوابها.
سنوات الشد والجذب
وبعد سنوات من الشد والجذب، والسياسة والسياسة المضادة، حيث الدولة تكثف جرعات الخطاب الديني شديد الالتزام في قنواتها التلفزيونية، وتمنع حجاب المذيعات مثلاً، وتستضيف مشايخ يتحدثون عن حرمانية التمثيل وحرمانية اختلاط النساء بالرجال في أماكن العمل وحرمانية الغناء، وبالطبع الرقص، وغيرها، وصل الأمر إلى ما هو عليه حالياً.
الأعمال الدرامية حافلة بممثلات يرتدين الحجاب، أغلبهن يرتدي الحجاب لأسباب تتعلق بالدور، ويخلعنه في البيت ضمن أحداث العمل أيضاً. وهي حافلة أيضاً بمحاولات عديدة للتطرق إلى حرية اختيار ارتداء الحجاب، حيث البطل يأمر البطلة زوجته في المسلسل بارتداء الحجاب لأن كل النساء محجبات، وهي ترفض، أو البطل يعترض على ارتداء خطيبته الحجاب، لكنها تصر، وغيرها كثير.
أما الممثلات العائدات بالحجاب فأعمالهن قليلة، ومجالات مشاركتهن محدودة، بمن في ذلك من حاولن الالتفاف حول محدودية الأدوار بارتداء "باروكة"، وهو ما أثار استهجان الجميع، أولئك الداعمين للحجاب والرافضين لهم على حد سواء.
ويمكن القول إن مسلسل "ذات" للكاتب صنع الله إبراهيم من الأعمال القليلة جداً التي أرّخت للتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر وموجة المد الديني وربطها بالحجاب.