Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نادجا التي فتنت رائد السوريالية تعود برسومها والنصوص

معرض فرنسي يلقي ضوءا على المرأة الغامضة وعلى رواية أندريه بروتون

الصورة الوحيدة ل"نادجا" التي سحرت بروتون وكتب عنها رواية (الخدمة الإعلامية للمعرض )

جميعنا يعرف جملة أندريه بروتون الشهيرة: "سيكون الجمال متشنّجاً أو لن يكون"، التي باتت التعريف الأدق للجمالية السوريالية. لكن معظمنا يجهل أن هذه الجملة لم تنبثق في ذهن رائد السوريالية إثر جهد تأمّلي، بل إثر لقائه في باريس بشابة فاتنة تدعى ليونا ديلكور. لقاء صدفوي صاعق ألهمه روايته الشهيرة "نادجا" (1928) التي تشكّل حالياً موضوع معرض مهم في "متحف الفنون الجميلة" لمدينة رووان الفرنسية، يطمح إلى إظهار مرجعية هذا الكتاب داخل الحركة السوريالية، وفي الوقت نفسه، إلى إنارة القدر المأساوي لموحيته.

ولمن لم يقرأ بعد هذه الرواية السيرذاتية، نشير بدايةً إلى أن بروتون يروي فيها الأيام القليلة التي عاشر خلالها الشابة ليونا، متوقفاً عند العلامات والمصادفات واللقاءات العارضة أثناء تجواله معها في شوارع باريس، باعتبارها عناصر مكوّنة لمغامرة عاطفية جنونية، وأيضاً لكتابة من نوع جديد. ومن هذا المنطلق، بعثر داخل نصّها عشرات الصور التي تستجيب لهدف مقصود: تفجير الجانب الأدبي للرواية و"إلغاء أي وصف" فيها. صور هي عبارة عن نُسَخ للوحات ورسوم سوريالية وغير سوريالية، لقطع فنية بدائية وبورتريهات شعراء رافقوا بروتون في مغامرته الشعرية الفريدة.

نزهة مثيرة

ولأن هذه الصور تشكّل نقاط توقّف داخل النص، وفي الوقت نفسه، نوافذ مفتوحة على السوريالية، يلجأ المعرض الحالي إليها كخيط موجّه لاقتراح نزهة مثيرة على زواره، داخل عالم "نادجا"، وبشكل أوسع، داخل السوريالية. وباستلهامه الانتقائية التي تميّز الأعمال الفنية التي زيّن بروتون بها جدار محترفه الشهير، يسمح مسار المعرض بولوج "العالم المحظور"، أي "عالم التقاربات المفاجئة والصُدَف المدهشة" التي عبّر صاحب "الحب المجنون" عن أمنيته في حدوثها منذ الصفحات الأولى من روايته.

في الصالة الأولى من المعرض، نشاهد البورتريهات الحاضرة في "نادجا" التي أنجزها الفنان مان راي لبعض رفاقه السورياليين، مثل إيلوار وديسنوس وبيريه وبروتون نفسه، وتسمح في التعرّف إلى الحلقة السوريالية الأولى وبعض موضوعاتها المفضلة، كالنعاس اليقظ الذي نقرأ داخل رواية بروتون حوله الآتي: "أتذكّر الآن روبير ديسنوس خلال الحقبة التي عُرِفت بـ "حقبة النعاس". أراه "نائماً"، لكنه يكتب ويتكلم. نحن في محترفي عند المساء، فوق "كباريه السماء". (...) وديسنوس يتابع رؤية ما لا أراه، ما أراه فقط حين يظهره لي".

في الصالة الثانية، نشاهد، إلى جانب لوحات ماكس أرنست وجورجيو دو كيريكو الحاضرة في "نادجا"، أعمالاً لا تنتمي إلى الجمالية السوريالية لكنها شكّلت موضوع حوار بينه وبين ليونا، كلوحة جورج براك التكعيبية "عازف القيثارة"، وأحد المصاريع الستة للوحة باولو أوتشيلو "معجزة القربان المدنَّس" التي تعكس اهتمام السورياليين بفن القرن الخامس عشر وبصوريته الغريبة التي تنبئ بالفن الحديث.

في الصالة الثالثة، يتبيّن لنا كيف أن السورياليين، ضمن سعيهم للتحرر من العقلانية، الضيّقة في نظرهم، اهتموا بجميع حالات الوعي وافتُتنوا بسلطة الحلم واللاوعي. وفي هذا السياق، احتلت العلوم الباطنية والتنجيم وشخصية الرائية موقعاً مهماً في خيالهم، مثل مدام ساكو التي تردد بروتون على منزلها مراراً، وتوقف في "نادجا" عند صحّة ما تنبّأت به عن ليونا. تحضر أيضاً في هذه الصالة الرسوم التي أنجزها السورياليون أثناء جلسات التنويم المغناطيسي وتناولها بروتون في روايته.

ميتولوجيا سوريالية

ولأن القفاز يحتل مكانةً خاصة في الميثولوجيا السوريالية، نظراً إلى تجسيده ما يخفيه، وإخفائه ما يجسّده، بالتالي لتشكيله التجسيد المثالي لذلك الالتباس الذي سعى السورياليون خلفه، رُصدت الصالة الرابعة لموضوعه الذي قاربه دو كيريكو في لوحاته الأولى، قبل أن يتناوله بروتون في "نادجا" عبر سرده فصل افتتانه بالشابة ليز ماير إثر مشاهدته القفاز الأزرق الذي كانت تضعه، ثم القفاز المصنوع من البرونز بمعصم منحن وأصابع رفيعة، الذي ستقدمه هذه الشابة هدية له.

ولا يهمل المعرض الفضاء المديني كمسرح لتجليات الصُدَف الغالية على قلب السورّياليين، إذ يبيّن في صالته الخامسة كيف اختبر بروتون ورفاقه ذلك الرابط بالمدينة الذي يرتكز على التجوال والتيه في أزقتها بحثاً عن علامات ولقاءات غريبة وغير متوقّعة. وفي هذا السياق، يقابل المعرض في هذه الصالة الصور الفوتوغرافية التي التقطها جاك أندريه بوافار لسوق البرغوت وأماكن أخرى مختلفة من باريس، ويحضر بعضها في رواية "نادجا"، بصور لأوجين أتغيه الذي بجّل السورياليون عمله خلال العشرينيات. نشاهد أيضاً في هذه الصالة مختارات من القطع التي عثر بروتون عليها في السوق المذكور وكتب في "نادجا" حولها: "(...) هذه الأشياء التي لا يمكننا العثور عليها في أي مكان آخر، أشياء قديمة، مجزّأة، غير صالحة للاستعمال، وبالكاد يمكن تحديد ماهيتها. أشياء مُضِلّة بالمعنى الذي أحبّه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الصالة الأخيرة من المعرض فرُصِدت لحياة ولآثار الشابة ليونا ديلكور التي لم تفتن بروتون بشخصيتها الغريبة فحسب، بل أيضاً بموهبتها الفنية التي تتجلى في رسوم وزّعها رائد السوريالية داخل روايته، وتحضر في هذه الصالة. رسوم سوريالية بامتياز، تعكس عالماً داخلياً ملغزاً وحميمياً.

مسار ينتهي في مصح

ونعرف في هذه الصالة أن ليونا وُلدت عام 1902 في ضاحية مدينة ليل، وتوفيت في مصحّ عقلي عام 1941. نعرف أيضاً أنها أنجبت طفلة من أب مجهول عام 1920، وبما أنها رفضت الزواج منه لتجنّب الفضيحة، عرض والداها عليها المغادرة إلى باريس حيث استقرت عام 1923 في شقة صغيرة ومارست مهناً صغيرة لكسب قوتها، واختارت لنفسها اسم نادجا لأنه يعني بالروسية "الأمل". وفي الرابع من أكتوبر(تشرين الأول) 1926، التقت ببروتون وعاشرته على مدى تسعة أيام وتسع ليال اتفقا خلالها على كتابة سردية لقاءاتهما اليومية، كل على حدة. ومن هذه اللقاءات، استقى بروتون روايته الشهيرة، بينما ملأت ليونا دفتراً كاملاً بالطرَف والملاحظات، ثم واصلت الكتابة إليه بانتظام في الأشهر التي أعقبت لقاءهما، وأرسلت له رسوماً كثيرة احتفظ بها جميعاً. وفي 21 مارس (آذار) 1927، إثر عارِض جنون، اقتادت الشرطة هذه الشابة إلى مصح عقلي لازمته حتى وفاتها.

بالنسبة إلى بروتون، تمثّل ليونا مثالاً لـ "العبقرية الحرّة"، على الرغم من معاناتها من حالة اكتئاب عميقة. ومع أن عارض الجنون الذي رمى بها في المصحّ حدث بعد أشهر قليلة من افتراقهما، لكن من الجائر الاعتقاد بأنه كان مسؤولاً عمّا حصل لها، كما اتهمه بعض المغرضين. إذ نعرف من مراسلتهما أنهما بقيا على اتصال إلى حين دخولها المصح، ومن مصادر مختلفة، أنه باع عدة لوحات من مجموعته الخاصة لمساعدتها، وواظب على زيارتها في المصح، قبل أن يحقق أمنيتها ويضع واحدة من أهم روايات الحب حولها: "ستكتب رواية عني. (...) كل شيء يخفت، كل شيء يتوارى. منا، يجب أن يتبقى شيءٌ ما...".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة