Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم غير غروسيه نظرة الغرب إلى الحروب التي خدعته باسم الدين

"تاريخ الحملات الصليبية" يكشف عن الحقائق المطموسة بأوامر عليا وأنانيات قاتلة

الحملات الصليبية "التي كشف" غروسيه عن حقائقها (غيتي)

منذ منتصف القرن العشرين على الأقل، وحتى من قبل إصدار الكاتب اللبناني أمين معلوف كتابه "الحروب الصليبية كما يراها العرب" بالفرنسية، وللقارئ الفرنسي، ومن قبل صدور الترجمة الفرنسية لكتاب مشابه كان قد أصدره قبل ذلك المستشرق الإيطالي فرانشسكو غابرييلي، لم يعد من الصعب العثور على كتب ودراسات باللغة الفرنسية تتعامل بموضوعية مع تاريخ الحملات الصليبية بعد أن كان هذا التاريخ قد ظل عرضة للتعصب والتشويه طوال قرون من الزمن، بل إن العكس هو الذي بات واضحاً، حيث قل عدد وأهمية الدراسات التي كانت لا تكف عن تمجيد تلك الحملات وتبريرها "دينياً" محاولة نزع الطابع العدواني عنها. وخلال كل تلك الأزمنة نعرف أنه دائماً ما كانت هناك شكاوى لدى العرب من أن صورة الحروب الصليبية لا تصل إلى الفرنسيين والعالم الغربي، إلا من خلال أقلام أوروبية اعتادت، منذ الأزمان السحيقة أن تتحامل على التاريخ العربي وتصور المسلمين على الصورة التي كان دُعاة الحملات الصليبية يصورونهم بها، لتبرير غزو الشرق. ولعل في مقدورنا هنا أن نعود بالنقطة الانعطافية الفاصلة بين الحالتين إلى مؤرخ فرنسي تمكن خلال ثلاثة أعوام هي 1934 و1935 و1936 من أن يقلب الصورة، حتى وإن لم يحظ جهده أول الأمر على الأقل، بما كان يستحقه من اهتمام، من دون أن نفترض أن ذلك "الإهمال" كان لأسباب سياسية أو أيديولوجية.

مؤرخ الشرق الدؤوب

وهذا المؤرخ الذي سيعتبر من قبل المنصفين استثناءً في التأريخ الأوروبي للحملات الصليبية هو الفرنسي رينيه غروسيه، الذي، حتى وإن لم تنقل آثاره التاريخية باكراً إلى لغة الضاد، عرف في بعض الأوساط الأكاديمية العربية على الأقل بتلك الموضوعية التي ميزت مؤلفاته، وليس فقط في تأريخه للحروب الصليبية، بل في عمله الدائب والمتشعب على التأريخ للشرق عموماً، ولأقاصي آسيا أيضاً. أما بالنسبة إلى الشرق الأدنى فإنه قيل دائماً منذ اكتشاف غروسيه وعمله الشامل، إنه رسم الدرب الجديدة لإعادة نظر راديكالية كان لا بد أن يوجدها القرن العشرون في كتابة التاريخ بنوع من موضوعية لا تنطبع باللامبالاة والحيادية اللتين تميزان عادة موضوعية مفترضة تتحول إلى متراس يختبئ خلفه من لا يريدون أن يقولوا رأياً حاسماً.

موضوعية منصفة

ولعل موضوعية غروسيه الحقيقية، في عمله فائق الأهمية هذا، ونتحدث هنا طبعاً عن ثلاثيته "تاريخ الحملات الصليبية ومملكة الفرنجة في القدس"، تبدأ منذ العناوين التي اختارها لأجزاء الكتاب الثلاثة. فهو عنون الجزء الأول "الفوضى الإسلامية ومملكة الفرنجة" (لاعباً على اللفظ الفرنسي المتقارب النطق لمعنى كلمتي فوضى ANARCHIE، ومملكة MONARCHIE)، فيما عنون الجزء الثاني "مملكة الفرنجة والمملكة الإسلامية: التوازن"، ليصل إلى الجزء الثالث ويعنونه "المملكة الإسلامية والفوضى الفرنجية". وهكذا منذ العناوين حدد المؤرخ خط الصعود الذي عاشه الجانب الإسلامي من زمن الفوضى إلى استتباب المملكة، محدداً في الوقت نفسه، وبشكل طردي، خط الهبوط الذي عاشه الفرنجة في المنطقة، في المقابل من زمن المملكة إلى الفوضى، بعد أن رسم في الجزء الثاني أي الأوسط ما قام من توازن بين الحالتين خلال الفترة الفاصلة. والحقيقة إن أجزاء الكتاب الثلاثة تشتغل انطلاقاً من هذا الترسيم وتشرحه وتؤرخ له، في لغة لا يلوح عليها أي أثر لتحامل على المسلمين. إنه التأريخ الموضوعي في أفضل تجلياته، يمكننا أن نقول.

ما أهمله التاريخ الرسمي

والحال ان غروسيه، وعلى طول كتابه حرص على أن يفرد فصولاً وصفحات عديدة للإسهاب في التوقف عند ما كان مهملاً من قبل المؤرخين الغربيين من قبل، أي ردود فعل شعوب المنطقة على تلك الحروب، بحيث كانت النتيجة توضيحاً، للمرة الأولى في التاريخ كما تلقاه الغربيون عموماً، والفرنسيون خصوصاً طوال قرون طويلة، لما كان غامضاً من قبل، ويشكل ثغرة في فهم التاريخ الحقيقي للمنطقة العربية الإسلامية المعنية بالحملات. كذلك، فإن كتاب غروسيه لم يكتفِ بأن يكون تاريخاً للحملات الصليبية، بل إنه تجاوز ذلك ليرسم صوراً بارعة لاستقرار الممالك اللاتينية في هذه المنطقة من العالم، ولا سيما للتأريخ لمملكة القدس. وهكذا نراه في الجزء الأول ينطلق من دراسة الحملة الأولى (1096-1099)، التي كانت في الوقت نفسه، وكما يصف لنا في الكتاب، حملة شعبية وحملة سادة من كبار النبلاء والأعيان، وأدت إلى تأسيس مملكة الفرنجة في القدس. أما الجزء الثاني فيخصصه للحقبة التي تمتد من زمن توطيد الاحتلالات حتى زمن الإخفاقات الأولى التي مُني بها الصليبيون (1130–1188)، ما خلق نوعاً من توازن القوى وجعل مملكتين أساسيتين تتجابهان نداً للند، المملكة الصليبية والمملكة الإسلامية. أما في الجزء الثالث، فإنه يتوقف ملياً، ودون ضغينة بالطبع، عند المرحلة (1188–1291) التي استعاد فيها المسلمون قوتهم ووحدتهم في مواجهة الخطر، استعادة أدت إلى انتصارهم على الصليبيين، إذ بات هؤلاء منقسمين على بعضهم البعض بفعل معارك داخلية، وغير قادرين على الحفاظ على مكاسبهم. وانطلاقاً من هنا أرّخ غروسيه بشكل خلاق للتدهور الذي أصاب الفكرة الصليبية نفسها، عازياً إياه مناصفة إلى عوامل موضوعية تتعلق بالقوة الجديدة التي اكتسبها المسلمون عبر وحدتهم، بل حتى عبر تعاملهم الخلاق مع "أقليات" غير مسلمة من سكان مناطقهم لم يتمكن الصليبيون من الإبقاء على اكتسابها إلا لفترات قصيرة، من ناحية، ومن ناحية أخرى عوامل ذاتية تتعلق هذه المرة بضروب الفساد والتناحرات والصراعات التي سادت صفوفهم معطوفة على "أنانيات شخصية كشفت كم أن البعد الديني المعلن لحملاتهم كان وهماً، وأن الغايات الأساسية كانت سياسية وشخصية أولاً وأخيراً".

توليف باهر

يقيناً، إن غروسيه لم يأتِ بأي شيء من هذا كله من بنات مخيلته، فكل هذه التحليلات كانت موجودة من قبله، فالمعاني، وكما كان من شأن شاعر عربي أن يقول: موجودة هناك دائماً مرمية على الطريق. فهذا التحليل المعمق والموثق لخلفيات الحروب الصليبية ومجرياتها ونهاياتها بالتالي، كان باحث فرنسي آخر هو جوزيف فرانسوا ميشو، قد اشتغل عليه قبل قرن من ظهور عمل غروسيه مُولِّفاً بين أعداد هائلة من الوثائق والدراسات التي لم تكن متوافرة إلا للباحثين النخبويين فيما كان بعضها مخفياً بأوامر كنسية وإرادات عُليا تريد حجب الحقائق عن الجمهور العريض، لكن ميشو تمكن من جمعها والتوليف بينها لينجز عملاً بالغ الأهمية حتى وإن ظل ذلك العمل محدوداً ضمن الإطار الأكاديمي ليأتي غروسيه وينفض عنه الغبار ويشتغل عليه من جديد مقارناً بينه وبين ما كان توافر له من دراسات وتواريخ إسلامية، بل حتى مغولية كان عمله الطويل على التواريخ الآسيوية قد مكّنه من جمعها والاشتغال عليها، ومن هنا تلك الموضوعية التي طبعت عمله في نوع من تقديم لافت مهّد للاستقبال الذي سيكون في فرنسا، وغيرها لاحقاً، لكتابي غابرييلي ومعلوف اللذين أمعنا في تبديل النظرة رأساً على عقب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مراجع على الرغم من التحفظات

أما بالنسبة إلى رينيه غروسيه (1885–1952) الذي سيعرف منذ صدور ثلاثيته هذه بمؤرخ الحملات الصليبية، فإن جهوده البحثية التي ستدخله عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وستجعل منه محاضراً في متحفي جيرنوشي وغيميه الباريسيين المعنيين بالتاريخ، مكنته من أن يصدر بين عام 1922 ("تاريخ آسيا" في 4 أجزاء) والعام الذي سبق رحيله،1951، نحو 35 مؤلفاً معظمها يتناول التاريخ الآسيوي، ومن أبرزها "إمبراطورية السهوب"، و"الإمبراطورية المغولية"، و"إمبراطورية المشرق: تاريخ المسألة الشرقية"، و"تاريخ الفلسفة الشرقية"، و"يقظة آسيا"، و"اليونان والشرق"، و"على خطى بودا"، و"حضارة الشرق" في 4 أجزاء، إضافة إلى عدد كبير من دراسات أخرى، صحيح أن بعضها قد يبدو اليوم عتيقاً بعض الشيء، ولا سيما على ضوء المكتشفات الحديثة والتقنيات التي تساعد اليوم على فهم أفضل لكل تلك التواريخ الآسيوية، غير أن هذا لا يمنع القول إن العالم الأكاديمي والحياة الثقافية الفرنسية، بل حتى الأوروبية بشكل عام، حيث إن معظم مؤلفاته الكبرى قد ترجم إلى العديد من اللغات الأوروبية، ولا سيما في لندن وبرلين وروما، لا يزالان إلى اليوم يعتبران مؤلفاته الأساسية من أهم الدراسات التي يرجعون إليها، وبخاصة فيما يتعلق بالنظرة المتجددة إلى الحملات الصليبية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة