تتوقع أوساط سياسية ورسمية لبنانية تفعيل خطوات متدرجة للعودة الخليجية الدبلوماسية للبنان، بعد أن سحبت أربع عواصم خليجية سفراءها من بيروت في آخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وطلبت من سفراء لبنان في عواصمها المغادرة جراء انفجار الأزمة، إثر تصريحات لوزير الإعلام اللبناني السابق جورج قرداحي ينتقد فيها الموقفين السعودي والخليجي في حرب اليمن، مما أدى إلى استقالته من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بناء على إلحاح من الأخير.
وسلكت الأزمة مساراً متعرجاً لرأب الصدع من حينها إلى أن أعلن ميقاتي عصر الأربعاء، 23 مارس (آذار)، أثناء ترؤسه جلسة مجلس الوزراء، أن "التصريحات تؤشر إلى أن الغيمة التي خيمت على العلاقات مع لبنان إلى زوال، وأن ما يربط لبنان وشعبه بإخوانه في دول الخليج هو تاريخ مشترك وإيمان بمصير مشترك أيضاً، وأن أي التزامات هي رهن بالخطوات التي يجري تطبيقها تباعاً، على أمل أن تكون كفيلة بإعادة العلاقات لطبيعتها". وإذ دعا "الأشقاء العرب إلى الوقوف لجانب لبنان"، أكد الحرص على تطبيق ما ورد في البيان الوزاري لجهة التزام أفضل العلاقات مع الدول العربية والخليجية، ولا سيما السعودية".
وتوقعت مصادر إعلامية في بيروت أن تكون العلاقة الخليجية - اللبنانية مدار بحث في اجتماع لوزراء خارجية مجلس التعاون قبل نهاية شهر مارس، فيما تحدثت مصادر فرنسية في باريس عن أن بعض الانفراج في العلاقة بين لبنان والرياض والكويت ودول الخليج يعود للتنسيق المتواصل بين الجانبين الفرنسي والسعودي في إطار الاتفاق بين الجانبين منذ لقاء الرئيس إيمانويل ماكرون ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ولم تستبعد المصادر عودة قريبة لسفيري السعودية وليد البخاري والكويت عبدالعال القناعي إلى بيروت.
"اختبار النيات" بعد بيان جدة
بقيت جهود إعادة ترتيب العلاقة بين لبنان والدول الخليجية خاضعة للتوتر على خلفية اتهام الدول الخليجية السلطات اللبنانية بالخضوع لنفوذ إيران عبر "حزب الله"، وتغطية الحكم اللبناني لتدخلات الحزب وطهران في حرب اليمن وفي الشؤون الداخلية للدول العربية، لكن سلسلة مبادرات حصلت أدخلت العلاقة اللبنانية - الخليجية في "اختبار نيات" كما وصفها ميقاتي، أبرزها اجتماع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جدة، 4 ديسمبر 2021، وتبعتها في الـ 22 من يناير (كانون الثاني) الماضي مبادرة كويتية قادها وزير الخارجية الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح خلال زيارته بيروت.
واللافت كان في البيان الذي صدر حينها عن الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، أنه إضافة إلى تشديده على تطبيق لبنان الإصلاحات والتزام اتفاق الطائف (ينص على حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية)، أقر "إنشاء آلية سعودية - فرنسية للمساعدة الإنسانية" للبنان، تجسدت لاحقاً بقيام صندوق مشترك بين باريس والرياض، على قاعدة ضرورة عدم ترك لبنان في ظل الأزمة الاقتصادية المالية التي يعيشها اللبنانيون، والتي يستفيد منها "حزب الله" وإيران. ولقي البيان السعودي - الفرنسي في حينها ترحيباً لبنانياً رسمياً وسياسياً.
خريطة الطريق الكويتية وتجاوب ميقاتي ومولوي
أما المبادرة التي حملها وزير الخارجية الكويتي فهي بمثابة خريطة طريق من 12 بنداً لمعالجة العلاقة اللبنانية - الخليجية المأزومة، تدور بمعظمها حول استعادة الدولة اللبنانية قرارها وسيادتها، ومنع النشاطات التي يقوم بها "حزب الله" ضد دول الخليج، ومنع تهريب المخدرات إلى السعودية وسائر الدول الخليجية، ورد لبنان على الورقة الكويتية بالتجاوب مع البنود الـ12 باستثناء البند المتعلق بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم (1559) الذي ينص على نزع سلاح الميليشيات، وبالتالي سلاح "حزب الله"، نظراً إلى أنه قضية أكبر من قدرة السلطة اللبنانية، ويتطلب جهداً إقليمياً وقرارات تتجاوز البلد.
وإذ لقي الرد اللبناني تفهماً من وزير خارجية الكويت، فإن رد الفعل من سائر دول الخليج بقي مكتوماً، بينما كثفت أجهزة الأمن اللبنانية جهودها من أجل كشف عشرات محاولات تهريب المخدرات إلى الرياض خصوصاً، إضافة إلى الدول الخليجية الأخرى، وأقامت وزارة الداخلية صيغة تنسيقية مع الأجهزة الأمنية لتبادل المعلومات، وحاولت بقوة القانون منع نشاطات رعاها "حزب الله" ضد السعودية والبحرين، لكن الحزب نقلها إلى مناطق نفوذه.
وكرر وزير الداخلية بسام مولوي إعلان رفضه أي نشاط على الأراضي اللبنانية يخل بأمن دول الخليج، وطلب اتخاذ إجراءات في هذا الصدد.
ودأبت الخارجية اللبنانية على إصدار بيانات الإدانة للهجمات التي شنها الحوثيون على الأراض السعودية.
الخطوط الثلاثة للتواصل
خلال الأسابيع الأخيرة نشطت اتصالات بعيدة من الأضواء على ثلاثة خطوط، الأول فرنسي – سعودي حين زار باريس في الـ 15 من مارس المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا يرافقه السفير لدى بيروت الدكتور وليد البخاري، واجتمع إلى مستشار الرئيس الفرنسي الدبلوماسي للشرق الأوسط السفير باتريك دوريل، المكلف بمتابعة الشأن اللبناني من قبل الرئيس ماكرون، وتردد أن البحث كان استكمالاً لاجتماع جدة، على قاعدة ما تردده الدبلوماسية الفرنسية بضرورة عدم ترك لبنان وحده في ظل المعاناة الاقتصادية الكبيرة لشعبه من جهة، وأهمية عدم استفراد إيران به من جهة ثانية، وأعقب ذلك الإعلان أن الصندوق السعودي - الفرنسي للمساعدات الإنسانية الذي تقرر إنشاؤه في اجتماع جدة سينطلق في تقديم هذه المساعدات بقيمة 36 مليون دولار أميركي قريباً، من طريق "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية". وتردد أن اجتماعاً ثانياً عقد في الـ "إليزيه" عصر 23 مارس للغاية نفسها.
والثاني أن الوزير الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح أجرى اتصالاً بميقاتي في الـ 19 من مارس، سرّب من بعده أنه كان إيجابياً، وأن البحث تناول الخطوات المتخذة من جانب لبنان حتى تاريخه من أجل تصحيح العلاقة، استناداً إلى التزامات المسؤولين اللبنانيين بتحسين العلاقات مع دول الخليج، وخلال الاتصال أبدى الوزير الكويتي ارتياحه "إلى الخطوات التي تقوم بها الحكومة اللبنانية لتصويب مسار العلاقات بين لبنان ودول الخليج"، متمنياً "أن يصار إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها قريباً"، وشكر ميقاتي "دولة الكويت على وقوفها الدائم إلى جانب لبنان ومساندته في الأوقات الصعبة"، كما نوه "بالمساعي الطيبة التي يبذلها وزير خارجية الكويت لإعادة العلاقات إلى مسارها الصحيح".
والثالث أن قياديين من "الحزب التقدمي الاشتراكي" أجروا اتصالات مع الجانب السعودي، فيما قام رئيس الحزب وليد جنبلاط أثناء وجوده في باريس باتصالات مع المسؤولين الفرنسيين ثم مع ميقاتي من أجل ملاقاة ما صدر عن الجانب الكويتي، بالتزامن مع دعوة المسؤولين السعوديين لعودة الدبلوماسيين إلى بيروت، خصوصاً أن جنبلاط أوفد النائب وائل أبو فاعور إلى المملكة، فيما زارها أيضاً الوزير السابق ملحم رياشي موفداً من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي كان ناشد القيادة السعودية العودة للبنان قبل أكثر من أسبوع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتصال ثم بيان فترحيب
وأسفر هذا التسلسل للاتصالات عن صدور بيان ميقاتي في الـ 20 من مارس بـ "التزام الحكومة بنود المبادرة الكويتية، وإعادة العلاقات بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي إلى طبيعتها"، مشدداً على "أن الاتصال الذي جرى بينه وبين وزير خارجية دولة الكويت يصب في هذا الإطار".
ولفت إلى "سلسلة مناشدات وصلته من مختلف القيادات السياسية والروحية والاقتصادية في هذا الإطار"، وجدد التزام الحكومة اللبنانية باتخاذ الإجراءات لتعزيز التعاون مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، وعلى التزام لبنان بكل قرارات جامعة الدول العربية والشرعية الدولية، والعمل الجدي والفعلي لمتابعة واستكمال تنفيذ مندرجاتها بما يضمن السلم الأهلي والاستقرار الوطني للبنان".
كما كرر ميقاتي التأكيد على "ضرورة وقف كل الأنشطة السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية التي تمس سيادة السعودية ودول مجلس التعاون، والتي تنطلق من لبنان"، وتعهد باتخاذ الإجراءات لمنع تهريب المخدرات إلى السعودية ودول الخليج والتشديد على كل المنافذ".
وأدى التزام ميقاتي بالاتفاق مع الرياض بتسليمها المطلوبين، ومنع استخدام القنوات المالية والمصرفية اللبنانية من إجراء أي تعاملات مالية يترتب عليها الإضرار بأمن السعودية ودول مجلس التعاون"، إلى تلقف الرياض بيانه بإيجابية، فرحبت الخارجية السعودية عبر حسابها على "تويتر" بما "تضمنه من نقاط إيجابية"، آملة في أن "يسهم ذلك في استعادة لبنان لدوره ومكانته عربياً ودولياً"، وأكدت "تطلع المملكة إلى أن يعم لبنان الأمن والسلام".
وتبع الترحيب السعودي ببيان ميقاتي آخر من الخارجية الكويتية، "لتجديده التزام الحكومة بالإجراءات اللازمة لإعادة لبنان لعلاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي"، وأملت الخارجية الكويتية باستكمال الإجراءات البناءة والعملية، مما يسهم في مزيد من الأمان والاستقرار والازدهار للبنان وشعبه الشقيق".
وشمل تسلسل المواقف تأكيد وزير الداخلية بسام مولوي أن "السعودية ستكون دائماً إلى جانب لبنان العربي المتمسك بالشرعية العربية التي تضمن الأمن والأمان والاستقرار لكل الدول العربية"، وكرر التزامه "منع كل محاولات تصدير الأذى إلى الأشقاء، وكل تعرض لفظي أو فعلي لأي من دول الخليج العربي".
المساعدات إنسانية والحضور ضرورة إقليمية
ورجحت أوساط متابعة أن تقتصر المساعدات المالية السعودية على الناحية الإنسانية في هذه المرحلة، وليس من طريق المؤسسات الرسمية والحكومية، بل عبر الجمعيات الخيرية.
وفيما أخذ بعضهم يربط اقتراب تقديمها باستحقاق الانتخابات النيابية، لفتت أوساط أخرى إلى أنها لا تستهدف الانتخابات بل تأتي على أبواب شهر رمضان المبارك، في ظل الضائقة المالية الخانقة التي زادت حال الفقر، ومن عادة الرياض أن تقدم المساعدات خلال الشهر الفضيل.
لكن العودة الخليجية المرتقبة لها أبعاد سياسية أيضاً في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة، والتي تتسارع فيها الأحداث بحسب بعض المراقبين، سواء أهناك انتخابات أم لا، فتكثيف الحضور العربي في البلد في هذه المرحلة، وفي ظل ما يتردد عن قرب التوصل إلى اتفاق إيراني - أميركي في فيينا ينعكس على عدد من الدول، خطوة ضرورية في كل الأحوال.
دفاع عون عن "حزب الله" ورد السنيورة
وأشارت المصادر إلى أنه في ظل هذه الأجواء التي شهدت تسلسلاً مدروساً للمواقف خلال الأيام الماضية يمهد لعودة خليجية إلى لبنان، كانت ذات دلالة أن الفريق الحليف لـ"حزب الله" في السلطة، أي رئيس الجمهورية ميشال عون، اختار أن يدافع عن الحزب في حديث إلى الصحافة الإيطالية في روما حيث قابل البابا فرنسيس والمسؤولين الإيطاليين، وقال لصحيفة "لاريبوبليكا" إنه "ليس لحزب الله تأثير بأي طريقة في الواقع الأمني للبنانيين في الداخل، وأنه قام بتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، وهو مكون من لبنانيين عانوا الاحتلال، ومقاومة الاحتلال ليست إرهاباً".
استدعى كلام عون استنكاراً من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي اعتبر أن الأول "تجاهل أن كلامه لا يمكن قبوله في لبنان أو تصديقه، إذ إن الشعب اللبناني ليس غبياً، ولم ينس الويلات التي يتعرض لها جراء سياسة حزب الله وممارساته، لا سيما حين وجه سلاحه واحتل وسط مدينة بيروت وعطل الحياة فيها لسنة ونصف السنة، وقام بغزو مسلح لمدينة بيروت ومناطق لبنانية أخرى، وتسبب بقتل وجرح لبنانيين أبرياء".
وذكر السنيورة عون بأن "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانت بالإجماع عناصر قيادية تابعة لحزب الله في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا يزال الحزب يمانع في تسليم المتهمين إلى المحكمة".