Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يفقد علم الاجتماع ثوابته في مهب الثورة الرقمية؟

"الحب عبر الإنترنت" يختزل الأشخاص باعتبارهم "مجرد جسد آخر"

صورة متخيلة للمجتمع البشري الإفترااضي (سوشيال ميديا)

أدى الانتشار المتزايد للتكنولوجيات الرقمية digital technologies في الحياة اليومية إلى تأجيج الجدل الأكاديمي حول العلاقات والبنى الاجتماعية في ما يسمى "عصر المعلومات". ونشأ عن هذا الجدل مجال بحثي في إطار العلوم البينية يُعنى بالتعقيدات والتناقضات المتعلقة بالتحولات التي يُعتقد أن تكنولوجيات الاتصال والمعلومات تحدثها عبر الممارسات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهناك فرص مهمة في هذا المجال للإسهام في النطاق الناشئ والمتنوع للعمل النظري والتجريبي لرصد هذه التغيرات، ومن ثم يمكن القول إن علم الاجتماع والخيال السوسيولوجي يواجهان مشاهد رقمية جديدة بدءاً من الذوات الإلكترونية إلى مجتمعات الإنترنت ومن حرب الإعلام إلى اللامساواة الشبكية، ومن الثقافة إلى البنية الاجتماعية، بحسب متن كتاب "علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية"؛ تحرير: كيت أورتون - جونسون ونيك بريور، ترجمة: هاني خميس أحمد عبده (سلسلة عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت).

شاشة الكمبيوتر

أستاذة علم الاجتماع في جامعة إدنبرة لين جيميسون (من الباحثين المشاركين في هذا الكتاب) ترى أن هناك تزايداً في حجم العلاقات الشخصية التي تبدأ عبر التكنولوجيا الرقمية حيث يبقى بعضها ضمن النطاق الرقمي، أما نسبة العلاقات الشخصية الرئيسة المباشرة التي لا تتدخل فيها التكنولوجيات الرقمية فهي في تضاؤل مستمر. ومع ذلك فإن "عواقب" أو "تأثيرات" التكنولوجيات الرقمية ليست في العادة نتائج تحددها هذه التكنولوجيات، بل هي بحسب جيميسون، المتخصصة في علم الاجتماع النسوي، تنبثق من الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم أثناء تفاعلهم مع هذه التكنولوجيات. مثلاً تعتبر شاشة الكمبيوتر المكان الذي يُعبَّر حوله عن "تماسك العائلة الآسيوية"، وليست المصدر الذي يولد هذا التماسك.

أما العائلات في المملكة المتحدة فتعبر عن "العيش معاً مع الحفاظ على الاستقلالية الفردية"؛ من خلال وجود أجندة رقمية مستقلة لكل فرد، وكذلك أجهزة مستقلة في أجزاء مختلفة من المنزل. فخلفية الأعراف المتعلقة بسلوك الأصدقاء والعائلة وممارسات الصداقة والطريقة التي تمارس بها الأسرة حياتها تؤدي إلى تعديل المزايا الناشئة عن الإمكانات الجديدة للاتصال الرقمي. مثلاً العلاقات التي تشترط أن تكون العلاقة بين الجنسين وكذلك بين الأجيال قائمة على التبعية إلى درجة كبح جماح التعبير العاطفي المباشر، إنما تتيح فرصاً أكبر للأجهزة التي تقدم اتصالاً شفهياً أو نصياً باستخدام الوسائط الرقمية لتوفير إمكانات جديدة كلياً للتعبير عن المشاعر. وبالمثل فإن الشعور بالتواصل الهاتفي الرقمي مع الأشخاص المقربين باعتباره يتأرجح بين الحميمية المكثفة والمراقبة إنما يعكس التوترات التي تشوب العلاقات سواء داخل الأسرة أو مع الأصدقاء. وهذه التوترات تكون أكثر حدة في السياقات الثقافية التي يريد فيها الآباء الاستمرار في ممارسة الرقابة على أبنائهم.

الجنس عبر الإنترنت

وتذهب جيميسون في هذا الصدد إلى أن "الجنس عبر الإنترنت" يخلق حميمية جسدية متخيَّلة، ولكن عادة ما يكون ذلك باستخدام نصوص تغلب عليها النظرة التقليدية للنوع الاجتماعي، كما يتجلى في سلوك يُنظر إليه باعتباره أقرب إلى اللعب والخيال منه إلى العلاقات الشخصية والحميمية الحقيقية. وعلى الرغم من أن "الجنس عبر الإنترنت" يتضمن التفاعل، فإن النزعة إلى اختزال الأشخاص باعتبارهم "مجرد جسد آخر" تجعله أقرب إلى الإباحية التي تمثل الطريقة الأكثر شيوعاً لاستخدام الشبكة العنكبوتية منه إلى التواعد عبر الشبكة نفسها بنِية الانتقال بسرعة نحو اللقاء المباشر بحثاً عن "الكيمياء" الصحيحة للحفاظ على علاقة تكون مصحوبة بالحضور المشترك. ومع الاعتراف بإسهام الإنترنت في حدوث تزايد هائل في نسبة التخاطب حول الجنس وفي فرص الحصول على المعلومات الجنسية والاتصال الجنسي، فإن جميع هذه الاستخدامات للإنترنت من أجل الجنس لا تشير أبداً إلى بروز اتجاه نحو تحول جذري يحتمل أن يحل محل الجنس الذي ينطوي على التلامس الجسدي. فضلاً عن ذلك ثمة تعارض بين الأحلام بإقامة علاقات حميمية ومتكافئة مستوحاة من الخطابات المتداولة عالمياً عن الحب بين شريكين يتبادلان الاهتمام كل منهما بالآخر، وأيضاً بين المشاركة في الجنس عبر الإنترنت الذي يمكن أن يوسع نطاق إمكانات المتعة الجنسية من دون تحيز لأحد الجنسين من جهة، والأنظمة التي تعمل بطريقة مؤسسية على إدامة أشكال انعدام المساواة بين الرجل والمرأة من جهة أخرى.

ومن هذا المنطلق بات يقال إن التكنولوجيات الرقمية الجديدة تشكل حياتنا اليومية وتتيح إمكانات العمل العاطفي وتنفيذ الواجبات المنزلية من بُعْد، وتعمل على إعادة تجميع أنماط النشاط الاجتماعي والتواصل من خلال فهم الإسهامات الأساسية لعلم الاجتماع النسوي والنظريات النسوية للتكنولوجيا في التنظير للعصر الرقمي القائم على النوع الذي يتسم بتوترات وتناقضات وتعقيدات قد تفتح الطريق أمام احتمالات جديدة للمساواة بين الجنسين. ولكنه أيضاً عصر يجب ألا نغفل فيه عن أوجه عدم المساواة بين الرجل والمرأة.

الخيال السوسيولوجي

وعموماً، يهدف الكتاب إلى دراسة وتحليل التكنولوجيات الرقمية الجديدة في إطار سوسيولوجي، من خلال تعزيز النقاش حول ملامح العلاقات الاجتماعية والمؤسسات والبنى في عصر المعلومات، بالإضافة إلى تقديم تمهيد شامل للتحولات التكنولوجية وتأثيراتها في المجتمعات الإنسانية، والتعرف على دور التكنولوجيا الرقمية في إعادة تشكيل الأدوات والمفاهيم داخل علم الاجتماع. وقد شارك في هذا الكتاب مجموعة من الباحثين من خلال دراسة علم اجتماع التكنولوجيا باعتباره أحد فروع علم الاجتماع الذي يتناول الجوانب الاجتماعية للتكنولوجيا، ويطرح عدة تساؤلات منها: هل المفاهيم السوسيولوجية السائدة تظل مناسبة للغرض؟ أو هل يمكن أن يكون هناك إدراك يتسع للتطبيقات الجديدة والسياق الاجتماعي المتغير؟

كيف يمكن لعلم الاجتماع إعادة تقييم أفكاره الأساسية من خلال مدخل للعلوم البينية المتداخلة؟ وإلى أي حد يكون الخيال السوسيولوجي SOCIOLOICAL IMAGINATION أساساً كافياً يصلح للبحوث في العوالم الرقمية digital worlds عبر تجاوز الحدود المعرفية؟ وإذا كانت المعرفة مطلوبة، فأي نوع من المعارف المستعارة والتوافقات والتعارضات نتوقعها أو حتى نشجعها؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجد مؤلفو فصول الكتاب أنفسهم (17 باحثاً من إنجلترا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وهولندا وأستراليا ونيوزيلندا) في مهمة مفتوحة لاستكشاف هذه التساؤلات. وتكشف فصول الكتاب الخلافات والتناقضات والتحديات التي تواجه علم الاجتماع، وتؤكد تنوع هذا التخصص الأكاديمي والمجال الثري للنقاشات التي ستكون متاحة للبحث السوسيولوجي. وعلى الرغم من هذا التنوع فإن أحد القواسم المشتركة المهمة عبر فصول الكتاب يتمثل في تأكيد حاجة علم الاجتماع إلى أن يتجاوز مفاهيمياً التضادات الثنائية المتمثلة في الافتراضي / الواقعي، والتحول / الاستمرارية التي تميز جزءاً كبيراً من الجدل القائم لفهم العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع والثقافة.

غموض الثقافات الرقمية

يطرح الكتاب ضرورة التفكير في زيادة التآلف مع العالم الرقمي ودمجه في الحياة اليومية، ومقاومة النزعات الثنائية، وتسليط الضوء على الفوضى والترابطات في المشاهد الاجتماعية الرقمية الجديدة. وفصوله، بحسب ما ورد في المقدمة التي كتبها محررا الكتاب وهما محاضران في علم الاجتماع في جامعة إدنبرة، تعتمد بروح تأملية على غموض الثقافات الرقمية لاستقراء الطرق التي تعمل التكنولوجيا من خلالها على بلورة المجالات السوسيولوجية الأساسية، أو حتى تركها من دون تغيير.

وفي الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة التغيير السوسيوثقافي يبدو منطقياً بالنسبة إلى مؤلفي فصول هذا الكتاب، الذي جاء في نحو 300 صفحة من القطع المتوسط، أن يجددوا تأكيد الأوصاف السوسيولوجية الجيدة للظواهر الرقمية الطارئة، وذلك استباقاً لأي اندفاع طائش باتجاه التحليل.

وفصول الكتاب التي تناقش في المجمل طبيعة علم الاجتماع في المرحلة ما بعد الرقمية، تنقسم إلى خمسة أجزاء يضم كل منها فصلين مترابطين، ويركز كل جزء على اهتمامات سوسيولوجية أساسية: العلاقات والفضاءات والبنى واستخدام الوسائط والممارسات. وهذه التوليفة لا تهدف إلى تقديم صورة شاملة للأجزاء الجوهرية لهذا المجال المعرفي، بل إن الهدف منها هو أن يُقْرأ كل فصلين مترابطين على أنهما حوار، وأن يعمل النص بأكمله على تعزيز التفاعل عبر بنية هذا المجال المعرفي. وبهذه الروح فإنه توجد في نهاية كل فصلين كلمة ختامية يجري من خلالها تأمل موضوع إعادة التفكير النقدي لهذه المجموعة وإثارة التساؤلات حول كيف يمكن لعلم الاجتماع أن يتذكر مفاهيمه الأساسية أو يعيد النظر فيها، أو ينقحها، أو يزيل الشوائب منها، وذلك في ضوء "الاستفزازات" الرقمية.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب