Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انقسام الكنائس الأرثوذكسية... رصاصة "دينية" تهدد بوتين

تمتعت موسكو بقوة ناعمة عبر الكنيسة التي باتت تواجه عزلة بعد مباركة الحرب

قطعت الكنيسة الروسية علاقتها مع القسطنطينية منذ اعترافها باستقلال كنيسة كييف عام 2018 (أ ف ب)

"الدين أفيون الشعوب"، عبارة شهيرة كتبها الفيلسوف الألماني كارل ماركس عام 1843، بين طيات كتابه حول نقد فلسفة هيغل. وبعيداً من جدلية العبارة في ما يتعلق بحقيقة الأديان، أثبتت الممارسة العملية للجماعات والنظم السياسية صحة المقولة، بخاصة عندما يتعلق الأمر بسيطرة الحاكم على الشعب أو تعزيز سلطته عبر استغلال الدين ورجاله لتبرير وتمرير قرار ما، حتى في النظم الديمقراطية، وهو ما حدث على سبيل المثال قبيل الغزو الأميركي للعراق، عندما صور الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الحرب بأنها "مهمة إلهية يقوم بها من أجل عالم أفضل"، واستخدم آنذاك رجال دين لتمرير فكرته، مثل القس تشارلز ستانلي الذى دعا في إحدى عظاته إلى دعم بوش خلال الحرب باعتباره "يقاوم الشر".

وعندما شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي حملته العسكرية على أوكرانيا، وصف أسقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبطريرك موسكو كيريل الأول خصوم روسيا بأنهم "قوى الشر"، فضلاً عن أن واحدة من مبررات بوتين للحرب هي الدفاع عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في أوكرانيا.

لكن الأمر يختلف كثيراً عما هو في الولايات المتحدة، إذ ليس الأمر مجرد استخدام دعائي للدين أو الكنيسة، فالعلاقة بين الكنيسة والدولة في روسيا وحتى في أوكرانيا لها بعد تاريخي وثيق ومختلف، فكنيسة موسكو إحدى أدوات النفوذ الرئيسة للكرملين، وهو ما يجعلها طرفاً في الحرب الروسية على أوكرانيا، لكن في الوقت ذاته باتت تلك القوة الناعمة مهددة بفعل الحرب. 

علاقة تاريخية وانشقاق

تاريخياً، اتبعت الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا بطريركية موسكو، إذ تعود هيمنتها إلى أكثر من 300 سنة، فمع تنامي قوة روسيا وضعف كنيسة القسطنطينية في ظل الحكم العثماني، فوض البطريرك المسكوني عام 1686 بطريرك موسكو سلطة ترسيم مطران (أسقف) كييف. وفي العام 1990 وتحت ضغط من الحملة القومية من أجل الاستقلال، أحيت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الوضع شبه المستقل لكنيستها التابعة في أوكرانيا، وأعادت تسميتها إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (UOC)، لذلك وجدت كنيستان أرثوذكسيتان متنافستان في أوكرانيا منذ ذلك الحين، حيث كنيسة UOC الموالية لموسكو وكنيسة UOC-KP التي تمثل أوكرانيا المستقلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى مدى القرن الماضي شكل الأرثوذكس الأوكرانيون المستقلون كنائس منفصلة تفتقر إلى الاعتراف الرسمي، وسعت الكنيسة الأوكرانية إلى الاعتراف بها من القسطنطينية (المقر التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية) منذ أن استقلت البلاد عن الاتحاد السوفياتي، فعندما انفصل متروبوليتان فيلاريت عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لإنشاء الكنيسة الأوكرانية، بطريركية كييف (UOC-KP)، لم يحصل على اعتراف القسطنطينية.

ذلك الوضع تغير بعد أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم وضمتها من أوكرانيا عام 2014، ثم دعمت الانفصاليين الذين شكلوا منطقتين منفصلتين في إقليم دونباس شرق البلاد.

استقلال أوكراني وغضب روسي

وفي الـ 15 من ديسمبر (كانون الأول) 2018 عقد نحو 190 أسقفاً وكاهناً وقادة من الكنيسة في أوكرانيا اجتماعاً امتد ساعات طويلة داخل كاتدرائية "سانت صوفيا"، بحضور الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو لانتخاب رئيس الكنيسة الأوكرانية الموحدة الجديد المطران إبيفانيوس، معلنين "تأسيس كنيسة أرثوذكسية مستقلة خاصة ببلادهم"، ليغيروا تقليداً دينياً يمتد عمره إلى قرون طويلة، إذ كانت كنيسة كييف تابعة لموسكو، وفي أعقاب ذلك سافر المطران المنتخب إلى إسطنبول حيث البطريركية القسطنطينية المسكونية ليحصل على "أمر رسمي" يمنح كنيسة كييف "الاستقلال".

وعلى عكس الكنيسة الكاثوليكية التي يترأسها البابا فرانسيس من الفاتيكان، ليس لدى القسطنطينية سلطة على الكنائس الأرثوذكسية الأخرى، إذ لا يوجد هيكل هرمي في الكنيسة الأرثوذكسية، لكن كان لاعتراف بطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول باستقلال الكنيسة الأوكرانية أهمية رمزية.

أثار الأمر غضب الكنيسة في روسيا التي أعلنت قطع العلاقات مع بطريركية القسطنطينية في إسطنبول، احتجاجاً على موافقتها على طلب أوكرانيا إقامة كنيسة مستقلة، ووصفت التحرك بأنه "أكبر انشقاق في المسيحية منذ 1000 عام"، إذ شبهت الاستقلال بالانشقاق العظيم الذي حدث العام 1054، وأدى إلى انقسام بين الكنائس الغربية والشرقية، وحذرت من أنه قد يؤدي إلى "صدع دائم في الأوساط الأرثوذكسية العالمية".

قرار الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا عام 2018 كان يرتبط بشكل مباشر بضم روسيا لشبه جزيرة القرم واعتبارها أراض روسية، إذ اعتبرت كييف الانفصال خطوة مهمة ضد التدخل الروسي في شؤونها، مع اتهامها للكنيسة الروسية بممارسة نفوذ خبيث على أراضيها من خلال السماح بأن يستخدمها الكرملين أداة لـ "تبرير النزعة التوسعية الروسية، ودعم المتمردين الانفصاليين في شرق أوكرانيا".

ضربة لروسيا بدعم أميركي 

وجاءت الخطوة وقتها بدعم أميركي بعد أن وضع بطريرك القسطنطينية بارثولوميو الأول أوكرانيا تحت الولاية الكنسية لرئيس أساقفة أميركا دانييل بامفيلون، والأسقف الكندي إيلارون من إدمونتون، اللذين يترأسان الكنائس الأوكرانية الأرثوذكسية في كلا البلدين.

وسبق ذلك زيارة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية- بطريركية كييف، ميتروبوليتان فيلاريت إلى واشنطن، حيث ألقى كلمة آنذاك في المجلس الأطلنطي (مركز أبحاث أميركي رفيع) في سبتمبر (أيلول) 2018، حذر فيها من أن روسيا ربما تستغل أي خلافات بين الكنائس في كييف كذريعة لتوسيع عدوانها في أوكرانيا، ودعا واشنطن إلى دعم تأسيس كنيسة محلية أوكرانية أرثوذكسية موحدة في أوكرانيا. 

وصف السفير الأميركي السابق لأوكرانيا ومدير مركز "أوراسيا" لدى المجلس الأطلنطي جون هيربست، خطوة توحيد الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا واستقلالها التام عن موسكو بأنها "ضربة كبيرة لبطريرك موسكو كيريل وحليفه المقرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، الذي يؤيده كيريل بـ "إخلاص"، كما أنها "خطوة كبيرة في جهود أوكرانيا لتحرير نفسها من نفوذ الكرملين".

هيربست أشار خلال مقالة له إلى أن بطريركية موسكو كانت أداة فعالة لقوة الكرملين الناعمة، فقبل ذلك الاستقلال كان يمكن لبطريركية موسكو أن تدعي أن الكنائس الأرثوذكسية في أوكرانيا، التي لا تخضع لسيطرتها، "لم يكن لها وضع قانوني في العالم الأرثوذكسي".

شبح الانفصال 

العدوان الروسي الأوسع داخل أوكرانيا، والذي شبهه بعض رجال الدين بقصة قتل قابيل لأخيه هابيل، نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين الشعبين الروسي والأوكراني، زادت من إضعاف تلك القوة الناعمة التي طالما تمتعت بها روسيا، فخلال الأسبوع الماضي أعلنت كنائس أرثوذكسية ومصلون داخل روسيا وخارجها إدانتهم أو انفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبطريركها بسبب الحرب، ووفقاً لمراقبين فإن مباركة البطريرك الروسي لغزو أوكرانيا تسببت في انقسام الكنيسة الأرثوذكسية بجميع أنحاء العالم، وأطلقت العنان لتمرد داخلي غير مسبوق. 

 

والأسبوع الماضي طلبت أبرشية القديس نيكولاس ميرا الروسية الأرثوذكسية في أمستردام بهولندا، التي تأسست عام 1974 وتضم أكثر من 20 جنسية، الانفصال رسمياً عن بطريركية موسكو، ونقل تبعيتها لأبرشية تابعة للبطريركية المسكونية القسطنطينية. 

وفي إشعار نشر عبر موقعها على الإنترنت، قال قساوسة الكنيسة إنه "لم يعد بإمكانهم العمل داخل بطريركية موسكو وتوفير بيئة روحية آمنة لمؤمنينا"، وقالت الكنيسة إنها لم تعد تذكر اسم البطريرك كيريل في طقوسها الدينية بسبب دعمه لغزو أوكرانيا، وهذه هي المرة الأولى التي تنفصل فيها الكنيسة الأرثوذكسية الغربية عن بطريركية موسكو.

في الوقت ذاته، دعت رسالة مفتوحة باللغة الروسية موقعة من قبل ما يقرب من 300 رجل دين أرثوذكسي داخل روسيا وخارجها إلى إنهاء فوري للأعمال العدائية، ودعا الموقعون "كل من لديه السلطة إلى وقف حرب الأشقاء مع أوكرانيا وبدء المصالحة ووقف الأعمال العدائية على الفور".

وأعرب رجال الدين عن حزنهم على المحاكمات التي تعرض لها "الأخوة والأخوات" في أوكرانيا بلا استحقاق، وقالوا إنهم مضطرون إلى تذكير السلطات بأن "كل حياة بشرية ثمينة وهبة فريدة من الله، ولهذا السبب نريد من جميع القوات على حد سواء، الروسية والأوكرانية، أن تعود لمنازلها وعائلاتها في أمان". 

وأشاروا أيضاً إلى أنهم يحترمون "الحرية التي منحها الله للإنسان، ويعتقدون أن على شعب أوكرانيا اتخاذ قراره بشكل مستقل، وليس تحت تهديد السلاح ومن دون ضغوط من الغرب أو الشرق".

"خطيئة قابيل"

وفي أوكرانيا دان قادة الكنائس الأرثوذكسية المختلفة الغزو الروسي، ودعا رئيس الكنيسة الأوكرانية الخاضعة لبطريرك موسكو ولكن تتمتع باستقلالية واسعة، المطران أونوفري إلى "تنحية الخلافات وسوء الفهم المتبادل، والاتحاد بالحب لله ووطننا الأم". 

واعتبر مراقبون أن رد فعل أونوفري الذي قارن الحرب بـ "خطيئة قابيل"، يشير إلى أنه حتى الكنيسة التابعة لموسكو لديها إحساس قوي بالهوية الوطنية الأوكرانية. ومن القادة الأرثوذكس الآخرين الذين انتقدوا الحرب البطريرك ثيودور الثاني، بطريرك الإسكندرية وسائر أفريقيا للروم الأرثوذكس، والبطريرك دانيال من رومانيا ورئيس أساقفة فنلندا ليو.

ومن بين 260 مليون مسيحي أرثوذكسي في العالم، يوجد حوالى 100 مليون في روسيا، وبعضهم في الخارج متحدون مع موسكو، لكن الحرب أدت إلى توتر تلك العلاقات. وقالت أستاذة الدراسات الدينية بجامعة "إليا" الحكومية في جورجيا والسفيرة الجورجية السابقة لدى الفاتيكان، تامارا جردزيليدز، خلال تعليقات لوكالة "رويترز" الأسبوع الماضي، إن "بعض الكنائس غاضبة للغاية من كيريل بسبب موقفه من الحرب، لدرجة أننا نواجه اضطرابات في الأرثوذكسية العالمية".

ووفقاً لمجلس العلاقات الخارجية الأوروبي فإن ذلك الانقسام والتوتر يعني تراجع التأثير العالمي للكنيسة الروسية، مما سيكون له آثار بالداخل أيضاً، فبينما قطعت كنيسة موسكو علاقاتها مع القسطنطينية بالفعل وباتت ترتبط بعلاقات متوترة مع غيرها من الكنائس، فإن تلك العزلة تقلل من قوتها الناعمة، مما يجعل الكنيسة أقل فائدة للدولة الروسية، لكن في الوقت ذاته أكثر اعتماداً عليها. 

ويرى مراقبون داخل موسكو أن العواقب ستكون طويلة المدى، إذ ستفقد الكنيسة الروسية ميزتها العالمية وتتمحور حول الداخل، بل ستكون أقرب للسلطة، مما قد يؤدي لرد فعل عنيف مناهض لرجال الدين. 

أيديولوجية "روسيا المقدسة"

ونشر العلماء ورجال الدين في مركز الدراسات المسيحية الأرثوذكسية بجامعة "فوردهام" وأكاديمية "فولوس" للدراسات اللاهوتية الأسبوع الماضي "إعلاناً لاذعاً حول ما يُعرف بـ "العالم الروسي"، وكتبوا أن هذه الأيديولوجية هي "تعليم خاطئ يجذب كثيرين في الكنيسة الأرثوذكسية، وقد تبناه حتى اليمين المتطرف والأصوليون من الكاثوليك والبروتستانت".

واستشهد كل من بوتين والبطريرك كيريل بما يعرف بـ "العالم الروسي" على مدى العقدين الماضيين، وهي أيديولوجية تقوم على أن "هناك مجالاً أو حضارة روسية عابرة للحدود تسمى روسيا المقدسة"، وتشمل روسيا وأوكرانيا وبيلاروس (وأحياناً مولدوفا وكازاخستان)، فضلاً عن الروس العرقيين والمتحدثين بالروسية في جميع أنحاء العالم"، بحسب صحيفة "موسكو تايمز".

وتضيف الصحيفة المعارضة أنه وفقاً للأيديولوجية فإن موسكو هي المركز السياسي وكييف "أم كل الروس" تمثل الجانب الروحي، وأن اللغة الروسية هي اللغة المشتركة والكنيسة الروسية الأرثوذكسية تحت بطريركية موسكو هي العقيدة المشتركة، وفي هذا "العالم" يعمل البطريرك في تناغم مع زعيم وطني (بوتين) ليحكم هذا العالم الروسي، فضلاً عن دعم روحانية وأخلاق وثقافة مميزة مشتركة، كما أن هذا المركز الروحي يقف ضد ما يعتبره أتباع الأيديولوجية "الغرب الفاسد بقيادة الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية التي استسلمت لليبرالية والعولمة وكراهية المسيحية وحقوق المثليين التي تم الترويج لها في مسيرات المثليين والعلمانية المتشددة". 

وتستشهد أيديولوجية "العالم الروسي" بالتاريخ المشترك دينياً وسياسياً، إذ يعود أصل الشعبين إلى مملكة "كييف روس" التي كانت تضم أجزاء من روسيا وأوكرانيا وعاصمتها كييف في العصور الوسطى، والتي رفض أميرها فلاديمير الأول الوثنية في القرن الـ 10، وتعمد في القرم واعتمد الأرثوذكسية ديانة رسمية، لذا فإن مدينة كييف تحمل أهمية رمزية كبيرة لبوتين وكيريل. 

وفي العام 2014 استشهد بوتين بهذا التاريخ لتبرير استيلائه على شبه جزيرة القرم، وهي الأرض التي وصفها بـ"المقدسة" بالنسبة إلى روسيا، وبينما يقول بوتين إن بلاده هي الوريث الحقيقي لروس، ينسب الأوكرانيون ذلك لدولتهم الحديثة ويقولون إن موسكو لم تظهر كقوة إلا بعد قرون.

المزيد من تقارير