فيما تبدو الأمور معقدة وضبابية، وإن لاح بصيص ضوء في نهاية النفق يقول بقبول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالحوار، فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت الأوساط السياسية والدبلوماسية الروسية والعالمية بوصوله إلى الكرملين في مهمة وساطة كان قد أعرب عن استعداده للقيام بها خلال مكالمته الهاتفية مع بوتين في 27 فبراير (شباط) الماضي.
وقالت مصادر الكرملين، إن بوتين وبينيت يدرسان المسائل المتعلقة بالأوضاع في أوكرانيا، في إطار ما سبق وعرضه بينيت "لتنظيم مفاوضات روسية أوكرانية بشأن تعليق الأعمال العدائية في أوكرانيا".
وكانت الأنباء الواردة من تل أبيب تقول، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي "امتنع عن إدانة الأعمال الروسية ضد أوكرانيا". ولم تكشف المصادر الرسمية بعد، عما يمكن أن يكون الزعيمان الروسي والإسرائيلي توصلا إليه، في الوقت الذي تتزايد فيه عروض الوساطة الخارجية بين الجانبين الروسي والأوكراني. ومن هذه العروض ما سبق وطرحه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكذاك قاسم جومارت توكاييف رئيس كازاخستان الذي أعرب عن "استعداده لتقديم خدمات الوساطة في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا". وقالت المصادر الكازاخية إن توكاييف كشف عن دعوته روسيا وأوكرانيا إلى طاولة المفاوضات "من أجل إيجاد لغة مشتركة... للتوصل إلى اتفاق"، مؤكداً أن لا طريقة أخرى. وأضاف توكاييف أن "السلام السيء أفضل من الشجار الجيد". ومضى يقول، خلال مؤتمر "حزب نور وطن" الحاكم، إن كازاخستان على استعداد لتقديم جميع أنواع المساعدة، بما في ذلك خدمات الوساطة، إذا كانت هناك حاجة إليها بالطبع". وكان وزير خارجيته مختار تلوبيردي أعرب في وقت سابق عن أن بلاده على استعداد لاستضافة مباحثات الوفدين الروسي والأوكراني التي طالما تعثرت بداياتها قبيل انعقاد جولتيها الأولى والثانية، إلى أن قبل الجانبان بغوميل وبيلوفجسكويه بوشا مكاناً لانعقاد الجولتين.
صمت موسكو
وإذا كانت موسكو التزمت الصمت من دون تحديد موقفها من دعوتي الرئيسين التركي والكازاخستاني للدخول في هذه الوساطة، فإنها راحت تتابع بكثير من الاهتمام ما حملته الأخبار الواردة من واشنطن وبروكسل في شأن عروض للجوء إلى الصين، للقيام بهذا الدور بالغ الأهمية، لما لها من علاقات طيبة مع كل من روسيا وأوكرانيا. وفي هذا الصدد، أعلن جوزيب بوريل مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي عن اعتقاده أن "الصين يمكنها التوسط في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، نظراً لأن الدول الغربية لا يمكنها لعب مثل هذا الدور". وفي حديثه إلى صحيفة "إلموندو" الإسبانية، قال بوريل تعليقاً على ضرورة وجود وسيط لفض النزاع بين روسيا وأوكرانيا، "ما من بديل... يجب أن تكون الصين، أنا متأكد من الأمر". وأضاف أنه "لا يمكن للدبلوماسية أن تكون أوروبية أو أميركية... الدبلوماسية الصينية لديها دور تلعبه هنا". غير أن المسؤول السياسي الأوروبي لم يكشف عما إذا قبلت الصين بالقيام بهذه الوساطة، وإذا ما كان أي من الطرفين الروسي والأوكراني يقبل مثل هذا الاقتراح، مكتفياً بالقول، إن أحداً لم يطلب من الصين ذلك، والصين لم تطلب، لكن بما أنه يتحتم قوة الوسيط ومكانته لدى الطرفين المعنيين، فإن الصين تملك من القوة والمكانة ما يكفل لها القيام بهذا الدور الذي لا تملك مقوماته أي من الولايات المتحدة أو أوروبا". واستبعد بوريل إحياء "صيغة نورماندي" الدبلوماسية الرباعية التي تضم روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
أما وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن فقد مضى إلى ما هو أبعد، باتصاله المباشر بنظيره الصيني وانغ يي، ليعرض عليه أداء بلاده دور الوساطة في ضوء ما خلصا إليه خلال استعراضهما الوضع الراهن في أوكرانيا. وكانت وزارة الخارجية الأميركية أصدرت بياناً في شأن هذه المكالمة الهاتفية، قائلة، إن وزيري الخارجية بحثا "حرب موسكو المتعمدة وغير المبررة ضد أوكرانيا". وأضاف البيان أن بلينكن "أشار إلى أن العالم يراقب ليرى الدول التي تدافع عن المبادئ الأساسية للحرية وتقرير المصير والسيادة"، مؤكداً أن العالم يتصرف بانسجام لرفض العدوان الروسي والرد عليه، بما قد يكلف موسكو ثمناً باهظاً. ومن جانبه، كشف وزير الخارجية الصيني عن ترحيب بلاده بالمفاوضات المباشرة بين الحكومة الروسية والسلطات الأوكرانية، ورفضها تصعيد الأزمة في أوكرانيا، إلى جانب إدانته ما وصفه بـ "محاولات صب الزيت على النار".
أما ما قد يرقى إلى درجة المفاجأة، فقد تمثل في ما أعلنه الوزير الصيني صراحة في شأن ضرورة توقف حلف "الناتو" عن محاولاته التوسع شرقاً، في إشارة إلى "التأثير السلبي لتوسع الناتو في اتجاه الشرق على أمن روسيا ومصالحها. وأكد ضرورة أن تأخذ الأطراف المعنية ما تطرحه موسكو من مطالب أمنية، على محمل الجد. وتوقف وزير الخارجية الصينية عند ما وصفه بـ "الحاجة إلى بناء آلية أمنية أوروبية تكون متوازنة ومستدامة وفعالة وتستند إلى مبدأ عدم قابلية الأمن للتجزئة"، إضافة إلى ضرورة الحوار بين الولايات المتحدة و"الناتو" والاتحاد الأوروبي مع روسيا على أساس متكافئ ووضع آلية لضمان الأمن في أوروبا لمواجهة التناقضات والمشكلات التي تراكمت على مر السنين.
دعوة إلى الاستقالة
وقد جاءت هذه الاتصالات واللقاءات في وقت شهدت فيه الساحة الأوكرانية اغتيال دينيس كيرييف أحد أعضاء الوفد الأوكراني في مباحثات السلام التي جرت جولتاها الأولى والثانية داخل الأراضي البيلاروسية. وأكدت وزارة الدفاع الأوكرانية هذا الخبر في بيان، قائلة إن "ثلاثة من عناصر الإدارة العامة للاستخبارات في وزارة الدفاع الأوكرانية لقوا مصرعهم خلال تنفيذ عمليات خاصة، وهم أليكسي دولا وفاليري تشيبينييف ودينيس كيرييف". ولم تكشف المصادر الأوكرانية عن مزيد من التفاصيل، في الوقت الذي أشار فيه النائب في البرلمان الأوكراني (الرادا) ألكسندر دوبينسكي، وعدد من المصادر الأوكرانية، أن كيرييف لقي مصرعه خلال محاولة اعتقاله من جانب جهاز الأمن الأوكراني في كييف. وتقول مصادر أخرى لم تكشف هويتها، إن الحادث يعود إلى شبهات واتهامات بحق كيرييف بارتكابه جرائم ترقى إلى حد "الخيانة العظمى".
وعلى الصعيد الداخلي الروسي، تتسم الأوضاع بقدر من التوتر يتزايد يوماً بعد يوم، في الوقت الذي يكشف فيه عدد من الفنانين وممثلي الدوائر الثقافية، ومنهم المغنية ذائعة الصيت اللا بوغاتشوفا، والإعلامية التلفزيونية كسينيا سوبتشاك التي طالما حظيت برعاية شخصية من جانب الرئيس بوتين بوصفها ابنة أستاذه أناتولي سوبتشاك، العمدة السابق لمدينة سان بطرسبورغ، وأول من قدم بوتين إلى السياسة، عن ارتباك واضح يشير ضمناً إلى تراجعهم عن التأييد الذي طالما كان "مطلقاً" للرئيس بوتين وحزبه الحاكم. ولعل ذلك ما قد يكون وراء الدعوة التي أطلقها دميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الرئيس بوتين، وقال فيها "هناك بين الشخصيات الثقافية الروسية كثيرون ممن يدعمون تصرفات الاتحاد الروسي في أوكرانيا، وهناك أيضاً من يسيئون فهم جوهر ما يحدث، ولكن الآن يحتاج الجميع إلى الاتحاد حول رئيس الدولة فلاديمير بوتين". وقال بيسكوف "نعم، في الواقع، تحتدم المناقشات بين ممثلي الثقافة. هناك كثير من أولئك الذين يدعمون الرئيس، ويدعمون الرئيس بصدق... لقد حان الوقت الآن لكي نتحد جميعاً ونكون معاً. وبالطبع لنتحد حول رئيسنا".
لا حياد
أما فياتشيسلاف فولودين، رئيس مجلس الدوما، الذي سبق وأطلق صيحته التي تقول إن "ثروة روسيا ليست النفط والغاز، إن بوتين هو ثروة روسيا"، داعياً إلى تغيير الدستور بما يسمح بانتخاب بوتين رئيساً لما بعد 2024، فقد اقترح أن "تترك الشخصيات الثقافية الروسية مناصبها، وترفض ما تحصل عليه من مكاسب وامتيازات إذا لم تدعم العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا". وقال فولودين "إنهم بحاجة إلى ترك مناصبهم، وما يتقاضونه من ميزانية الدولة. لن تستطيع ان تجد لنفسك موقعاً في مكانين، ولا أحد يحتاج إليك هناك". وأضاف على الهواء في قناة "روسيا 24" الإخبارية الرسمية "اتخذوا مثل هذا الموقف التعاوني تجاه كل من خان شعبه ووطنه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقدم عدد من أعضاء مجلس الدوما باقتراح "تجريد الفنانين الذين ينشرون مقالات مزيفة عن أوكرانيا من الجنسية". وفي هذا الصدد، أعرب كثيرون، منهم فودودين، عن إعجابهم وتقديرهم للدور المتميز الذي كشف عنه المايسترو فاليري غيرغييف، الذي فقد موقعه كقائد لأوركسترا فيلهارمونيا ميونخ بقرار من عمدة المدينة، لا لشيء إلا لأنه رفض الامتثال لرغبة تقول بضرورة انضمامه علانية إلى حملة الإدانة الجماعية لسياسات الرئيس بوتين، ولأنه لم ينتقد ما يجري من أحداث في أوكرانيا. وقال فولودين "قيل لغيرغييف إما أن تدين العملية العسكرية في أوكرانيا أو عليك أن تغادر. لا يُنظر إلى الموقف المحايد هناك". لذا، فقد جرى طرده وإلغاء كثير من حفلاته المحلية والخارجية.
العرض البولندي ومساعدات فرنسا
وعلى صعيد الأحداث على الجبهات العسكرية، أكدت وزارة الدفاع الروسية تقدم القوات المسلحة وفصائل الجمهوريتين المعترف بهما من جانب موسكو، لاستكمال الاستيلاء على الشريط الساحلي المطل على بحر آزوف، المرتبط بشبه جزيرة القرم، بما يمكن لاحقاً من الحيلولة دون وصول أوكرانيا إلى شواطئ بحر آزوف، والبحر الأسود. وفي هذا الصدد، تحدثت المصادر الروسية عما تصفه بأكبر عمليات اختطاف للرهائن في المنطقة، وهي ما تتمثل في احتجاز القوات الأوكرانية للمدنيين الراغبين في الاستفادة من الممرات الآمنة التي توفرها القوات الروسية لخروجهم من المدن المحاصرة.
تبقي الإشارة إلى ما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في شأن عرض بولندا على أوكرانيا استبدال ما تملكه من مقاتلات سوفياتية قديمة من طراز "ميغ" و"سوخوي"، بما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة الأميركية من مقاتلات "فانتوم"، وهي التي كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكى طلبها من واشنطن. وذلك في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن قرار يقضي بتقديم مساعدة لأوكرانيا تُقدر بـ300 مليون يورو، فضلاً عما قال إنه يعتزم تقديمه من معدات عسكرية إلى الجانب الأوكراني، إضافة إلى خطط تقديم المساعدة للاجئين من أوكرانيا.