منذ عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، برز شقاق في العلاقة "الأطلسية" بين الولايات المتحدة وأوروبا. ولم تكن خطوة باراك أوباما الامتناع عن ضرب نظام دمشق بعد الهجوم بالكيماوي على الغوطة الشرقية في 2013 سوى حلقة من حلقات انكفاء أميركي عما عرف بـ"لعب دور شرطي العالم" من جهة، ومن شد حبال مع الحليف الأوروبي، من جهة أخرى. ففي 2011، ومع تقدم جحافل قوات معمر القذافي إلى بنغازي المنتفضة، رفضت إدارة أوباما التدخل المباشر نزولاً على طلب الحلفاء الأوروبيين والتزاماً بالمبادئ الجامعة والعامة "الأميركية" في هذا المعرض نصرة لحقوق الإنسان. وبرزت يومها عبارة "القيادة من الخلف" على لسان أحد مستشاري أوباما.
فطلبت إدارة أوباما من أوروبا: الحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية، اللواتي ناشدنها التدخل، تسديد ثمن القاذفات الأميركية ولوجيستيات ضرب ليبيا. وعرضت تزويد المقاتلات البريطانية والفرنسية بالوقود مقابل تقاضي ثمن الخدمة هذه. وبرزت كذلك في إدارتي أوباما عبارة "ركاب بالمجان" عن الشركاء في الحلف الأطلسي من الأوروبيين.
وعليه، لم يمثل عزوف الرئيس السابق دونالد ترمب عن حضور احتفال "الناتو" السنوي قطيعة تامة عن نهج سلفه أوباما، على الرغم مما أثاره من نفور في أوساط الأوروبيين الذين اشتكوا من تخلٍّ أميركي عنهم. وسار على خطاه في مطالبة "أوروبا" بزيادة موازناتها الدفاعية إلى عتبة اثنين في المئة من مجمل ناتجها المحلي. وهذا ما صدعت به عدد من القوى الأوروبية على مضض، ولكنها لم تبلغ عتبة الاثنين في المئة. وكانت فرنسا على سبيل المثل في صدارة الدول الأطلسية التي رفعت موازنتها الدفاعية لتبلغ نحو 1.84 (177 مليار دولار) في المئة من ناتجها، أما ألمانيا فبلغت مساهمتها في "الناتو" نحو 491 مليار دولار، أي 1.36 في المئة من الناتج القومي الألماني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رص صفوف أوروبا
والانعطاف الأكبر تمثل في تغير موقف ألمانيا. فطوال 80 عاماً نظرت إلى مصالحها القومية على أنها تبلغ من طريق القوة الاقتصادية فحسب. فهي قوة اقتصادية أولاً وآخراً. وكانت اللا مبالاة بشؤون العالم هي الغالبة على مواقفها، إلى أن أعلن أولاف شولتز، المستشار الألماني، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أن بلاده تحتاج إلى قوة عسكرية من طائرات وعتاد تليق بـ"وزنها وأهميتها". وقررت الحكومة الألمانية إرسال عتاد حربي إلى أوكرانيا قوامه ألف صاروخ مضاد للدبابات و500 صاروخ ستينغر.
ولا تغرد برلين خارج سرب الاتحاد الأوروبي، فرياح التغيير بلغته كذلك، وانتقلت الخارجية الأوروبية من التنديد أو إعراب القلق إلى خطوات عملية لا تقتصر على عقوبات محكمة على مصارف وشركات روسية، بل قدمت لأوكرانيا مساعدة عسكرية قدرها 500 مليون دولار. وأغدقت كل من بريطانيا وفرنسا وفنلندا بدورها مساعدات عسكرية على أوكرانيا، وأخذت تلاحق الأوليغارشيين الروس وتسعى إلى مصادرة أو تجميد ممتلكاتهم الفاخرة وأصولهم.
وكأن دعوة الولايات المتحدة الدول الأوروبية إلى تولي زمام شؤونهم الدفاعية لم تلق أذناً مصغية ولم تجد طريقها إلى التحقق إلا حين برز خطر عسكري في عقر دار أوروبا، وطوى نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي.
عالم الأمس القريب؟
واليوم بعد 12 يوماً على اجتياح أوكرانيا، يشعر المرء حين تناول المنعطف الأوروبي بأن زمناً طويلاً سرى وطوى "الانعطاف" ورسخه في آن واحد. وكأن ما نشهده اليوم هو صنو ما رواه ستيفان زفايغ في الصفحات الأولى من رواية "عالم الأمس" قبل الحرب العالمية الأولى. ففي أوروبا حينها كما في الأمس القريب، كان التنقل يسيراً، وكانت النخب الأوروبية راجحة الدور وتربطها علاقات معرفة وتعاون. وكانت الحياة مستقرة و"متوقعة" إلى حد سمح بسعي الناس إلى ضمان مستقبلهم بعد التقاعد من طريق بوليصات تأمين وبوليصات تقاعدية ومستقبل ذريتهم بواسطة بوليصات تأمين على الحياة. واليوم يلوح في الأفق طيف تقطيع أوصال أوروبا من جديد وانتزاعها من سبات السلام.