انتقل التونسيون بسرعة البرق من رمي 900 ألف رغيف خبز يومياً، إلى الوقوف في الطوابير أمام المخابز قبل أن تغلق أبوابها لعدم توفر الطحين. وفي مكان آخر تبدو أروقة المتاجر الكبرى فارغة من مواد غذائية أساسية كالدقيق والسكر والأرز والمعكرونة والبيض والزيت المدعم. هكذا أصبحت الحياة اليومية للتونسيين تتلخص في البحث عن المواد الأساسية.
هذا النقص الذي ظهر منذ أشهر بسبب الأزمة المالية التي تعيشها البلاد، تفاقم منذ أيام مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.
أمام هذا الوضع تضاعفت مخاوف التونسيين، خصوصاً أن شهر رمضان الذي يرتفع فيه الاستهلاك الغذائي، على الأبواب. ويقول الرئيس التونسي قيس سعيد، إن المحتكرين والمضاربين وراء فقدان هذه المواد من السوق. في المقابل، يرى متخصصون في الاقتصاد أن فقدان الحبوب وغيرها من مواد أساسية يتعدى مجرد محتكر يريد المزيد من الأرباح إلى أسباب أخرى أكثر خطورة.
يذكر أن أعوان المراقبة الاقتصادية يحجزون يومياً كميات كبيرة من المواد الأساسية للمضاربة بها في السوق أو لتهريبها إلى القُطر الليبي، كما تحاول وزارة التجارة التونسية طمأنة المواطنين معلنة على لسان الوزيرة فضيلة الرابحي قبل أسبوعين أن "تونس لديها ما يكفيها من هذه المواد الأساسية إلى حدود الأشهر الستة المقبلة". كما قالت إنهم استعدوا جيداً لشهر رمضان، وإن كل المواد متوفرة حالياً.
موائد التونسيين مهددة
لكن على الأرض، وخلال جولة سريعة في أسواق تونس، يبدو واضحاً النقص الفادح لعديد المواد الأساسية فيما الحيرة والحسرة ظاهرتان في أعين المواطنين.
"الخالة راضية" تتجول لاهثة من مكان إلى آخر تقول إنها تبحث عن القمح والشعير لتحضير "البسيسة" قبل دخول رمضان، لكن من دون جدوى، فهي لا تتخيل رمضان من دون هذا "المشروب السحري".
وتُعد "البسيسة" من الأغذية الأساسية في طاولة أغلب التونسيين في رمضان، وهي تتكون أساساً من القمح المطحون وبعض الحبوب الأخرى مع إضافات وبُهارات خاصة، فهى تُحضَّر في شكل مشروب يستهل به الصائم إفطاره، وأيضاً للسحور، لما لها من فوائد غذائية تجعل الصائم يشعر بالشبع والنشاط.
من جهة أخرى، تقول الكاتبة الصحافية المتخصصة في الشأن الاقتصادي، إيمان الحامدي، إن تونس من بين البلدان التي تواجه صدمة أسعار الغذاء في العالم، بما يجعل خبز المواطنين مهدداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن تونس تواجه شُحّ التموينات من الحبوب الموجهة للاستهلاك البشري أو الحيواني بسبب تصاعد الأسعار في السوق العالمية بشكل جنوني في منذ اندلاع الأزمة الروسية - الأوكرانية، وهو ما يُكبّد الموازنة نفقات إضافية لتوريد القمح، مضيفة أن "اقتصاد تونس هو اقتصاد نُدرة يعتمد على التوريد في أكثر من منظومة غذائية بعد تفكك أغلبها خلال السنوات العشر الماضية".
ورجحت الحامدي أن تتصاعد الأزمة وتؤثر على موائد التونسين وغذائهم خلال شهر رمضان الذي يزيد الإقبال فيه على المعجنات بنحو 40 في المئة. وأكدت في سياق متصل أن الحكومة لا تكشف عن أي خطوات لمواجهة الأزمة فيما يُعاني القطاع الزراعي التونسي منذ سنوات أزمات جفاف أثرت بدورها على الإنتاج المحلي من القمح ما يزيد من التبعية نحو القمح المورد، ولا سيما القمح الأوكراني.
وتصدر أوكرانيا أكثر من 15 في المئة من إنتاجها من القمح نحو تونس، المصنفة بما قيمته 190 مليون دولار، بحسب بيانات عام 2020. كما يعد التونسيون من أكثر الشعوب المستهلكة للمعجنات بكل أصنافها.
"التنكيل بالتونسيين"
من جهته، لا يفوت الرئيس التونسي فرصة من دون التنديد بالمحتكرين، وقال، "لا بد من تحميل كل طرف مسؤوليته كاملة لأن المناوئين للشعب التونسي هدفهم التنكيل به في كل مظاهر الحياة، فمرة يتعلق الأمر بالأدوية الحياتية، ومرة بالبنزين والفضلات، وهذه الأيام بالنسبة لعدد من المواد الأساسية كالقمح والزيت المدعم".
وأشار إلى أن ما يحصل ليس من قبيل الصدفة، ولكنه بتدبير وبترتيب مسبق ممن يهزّهم الحنين إلى ما قبل 25 يوليو (تموز) 2021. كما شدد على ضرورة مراقبة مسالك التوزيع والتصدي بكل الوسائل القانونية المتاحة للمحتكرين والمضاربين.
من جهتها، أصدرت المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك بياناً بخصوص نقص المنتوجات الاستهلاكية الحساسة. وقالت إنه "نظراً لمتابعتهم للكميات المحجوزة من طرف أعوان المراقبة الاقتصادية بجميع الولايات، تعلم المنظمة المستهلك أن المخزون الاستراتيجي لجميع المواد الغذائية الأساسية متوفر، ويمكن من تغطية حاجاتنا الاستهلاكية للفترة القادمة، وأن نسق إنتاج وتوزيع هذه المواد يفوق المستويات العادية".
وأضافت أن إثارة الخوف من ندرة المواد الغذائية الأساسية وارتفاع أسعارها لا أساس له، وهي من الأساليب التي يعتمدها المضاربون لتحقيق أهدافهم.
من جانبه، قال القيادي بالتيار الديمقراطي المعارض هشام العجبوني، "كنت أنتظر أن يقدم لنا رئيس الدولة رؤيته للمرحلة المقبلة وكيفية تعاطي حكومته مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي بعد جائحة كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية، وعن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومخاطر التضخم المستورد على المقدرة الشرائية للتونسيين والتونسيات وسبل الحد من آثاره والإجراءات التي ستتخذها الحكومة لتفادي النقص في المواد الأساسية من حبوب ومحروقات وأدوية، وغيرها".
إلا أنه، بحسب تعبيره، "ما زال يهدد ويتوعّد منذ أشهر المُحتكرين والمُنكّلين بالشعب التونسي بالويل والثبور، ولا يفعل لهم شيئاً".