Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من "كل سنة وأنت طيب" إلى إعلانات التبرعات... ظواهر مصرية تختفي في العيد

أموال المتسولين المكتسبة بعبارات التهاني الممزوجة بالابتزاز لا تنافسها في الوفرة سوى حملات المساعدة على الشاشات

حركة المرور في وسط العاصمة القاهرة تشهدا زحاما شديدا في العيد (أ.ف.ب)

انتهى الموسم وأغلق رمضان أبوابه، ويعود عوّاده أدراجهم من حيث أتوا. علامات العيد ظهرت، وأجواء الروحانيات حلّت محلها أضواء الأعياد وصخب ينذر بعودة تدريجية للحياة العادية، حياة ما قبل رمضان.

رمضان، بالإضافة لكونه شهر الصوم والعبادة والكرم والروحانيات بأنواعها، إلا أن البعض ابتدع نظاماً موازياً للشهر، يبدو من الخارج "رمضان"، لكنه في واقع الأمر تشنيع للشهر وتحوير للفكرة وقلب للموازين رأساً على عقب. فبالتوازي مع المظاهر الرمضانية من صيام وإفطار وسحور وصلاة وتصدّق وأجواء الفرحة والنكهة الروحانية المميزة، نجح البعض على مدار السنوات القليلة الماضية في تحويل جانب من الشهر الكريم إلى شهر الدقّ على أوتار الإحسان، والإفراط في إعلانات التبرعات، والتسلّح بالخمول في مواجهة متطلبات الأعمال، والتحجّج بالصيام لتبرير العصبية وتمرير الانفعالية، وإخراج السبحة الكهرمان من مخبئها مع الجلباب والقفطان.

قفطان رمضان

على مدى 30 يوماً بالتمام والكمال في مصر، أبدعت السيدات والشابات في استعراض ما تحويه خزاناتهن من أحدث صرعات الطبقة المخملية في مصر، ألا وهي قفطان رمضان. كمّ مذهل من القفاطين المغربية المشتراة من بلادها حيناً، ومن رحلات مكوكية إلى دبي والسعودية أحياناً، أعلنت عن نفسها في حفلات إفطار وسحور الشهر الكريم. الصرعة الحديثة تحقق النقيضين المطلوبين في ليالي رمضان: إعلان الحشمة مع ضمان الجاذبية.

"سهام" وابنتاها الشابتان "تيا" (18 عاماً) و"كرمة" (20 عاماً) يعتبرن القفطان المغربي أفضل موضة رمضانية على الإطلاق. تقول سهام إن ميزة القفطان هو تعدد ألوانه ونقوشه بالإضافة إلى تفرّد هويته الشرقية التي تشبه شهر رمضان. وتضيف "تيا" إلى كلام والدتها أنه مريح وجذاب، وفي الوقت نفسه محتشم بعيداً عن العباءات التي تعتبرها غير مناسبة للشابات على الإطلاق. وتنهي "كرمة" ملحمة القفطان المغربي في السهرات الرمضانية المصرية بقولها إن الأسرة تحصل على مخزون رمضان من القفاطين لدى زيارتها للوالد الذي يعمل في دبي، وهو المخزون الذي يكلّف جيب الوالد الكثير. وتعترف بضحكة مخملية خبيثة "القفاطين الأنيقة غالية بعض الشيء، لا سيّما أننا لا نرتديها إلا في شهر رمضان، لكنها كوول (جذابة وأنيقة شبابياً)".

ولائم مخملية

القفطان الـ"كوول"، الذي يبلغ سعر الواحد منه آلاف الجنيهات لا يضاهيه في مخمليّته وخيلائه إلا ولائم رمضان المبالغ في محتوياتها والمفرط في كمياتها. صحيح أن الضغوط الاقتصادية والأسعار الجنونية وانفلات أسواق السلع الغذائية عوامل أدت إلى تقشف في الموائد وحرص بالغ لدى القاعدة العريضة من الهرم الطبقي، إلا أن الهرم يحوي طبقات أخرى تعتنق التبذير ولا تعترف في رمضان إلا بالكثير والكثير من الطعام. ظاهرة هدر الطعام عبر تجهيز كميات أكبر بكثير من عدد المدعوين ما زالت تتأرجح بين وعي مجتمعي بضرورة نبذ الإسراف وتعلق ثقافي بتلابيب عادات وتقاليد تعتبر الموائد غير المُلغّمة بتلال الطعام عيباً في حق أصحابها.

 

تمت خطبة "مي" و"خالد" قبل شهر من رمضان. تقول "مي" ضاحكة إن والدتها ووالدة خطيبها انخرطتا في سباق محموم على ولائم رمضان. توضح "رغم أنني وخالد لا نحبّ الإسراف في إنفاق الأموال من أجل إرضاء الآخرين أو التفاخر أمامهم، إلا أن والدتينا تنتميان إلى فكر مغاير". يلتقط "خالد" طرف الحديث ويقول "دُعينا إلى بيت خطيبتي في الأسبوع الأول من رمضان، وفوجئنا بوليمة تكفي 50 شخصاً رغم أن عدد أفراد عائلتينا لا يتجاوز العشرة، هذا بالإضافة إلى محتوى الوليمة باهظ الكلفة. هنا أعلنت والدتي الحرب وعقدت نيتها على الانتصار، فدعت عائلة مي على الإفطار في الأسبوع التالي، حيث كمية الأكل كانت تكفي 70 شخصاً مع الإمعان في البهرجة والزخرفة لدرجة أنها استعانت بمصممة أفراح لتزيين المائدة في تصرّف يخلو من بديهيات المنطق".

موائد منطقية

وإذا كان الكثير من ولائم الإفطار الرمضانية "منزوعة" المنطق تحت ضغط بقايا عادات وتقاليد، أكل عليها الزمان وشرب، يُجرى رفعها في مرحلة انتقالية هي أيام العيد الثلاثة، فإن ولائم رمضانية أخرى أكثر منطقية يُجرى رفعها وتخزينها لحين حلول رمضان المقبل. موائد الرحمن التي يقيمها البعض من أهل الخير لإفطار المارة والفقراء وعابري السبيل يتم تحميلها حالياً على سيارات النقل مع المقاعد وأواني الطبخ العملاقة لتعاود معالم الأرصفة الظهور مجدداً بعد 30 يوماً من الاختفاء خلف الموائد وأقمشة الخيّامية الضخمة التي تزين خلفية الموائد.

عربات النقل المتجهة إلى المخازن تحوي كذلك فوانيس رمضان الضخمة التي أصبحت ظاهرة تحرص المحلات الكبرى والفنادق وبعض الشركات والمصانع وأصحاب الفيلات وسكان العمارات على تزيين المداخل بها. ترحل الفوانيس ومعها زينات رمضان، سواء تلك الورقية البدائية البسيطة التي صنعها أبناء الحارة وبناتها، أو الـ"ليد" المبهجة المنيرة التي يصنع منها المقتدرون أشكال نجوم وأهلة وعبارة "رمضان كريم" على الواجهات.

ابتزاز روحاني

"كل سنة وأنت طيب" المستخدمة في الأصل لتبادل التهاني والتعبير عن الأماني تحولت في شهر رمضان إلى بديل للتسول ومخطط للابتزاز الروحاني. جموع وحشود وأفواج غير مسبوقة من المتسولين والمتسولات غزوا شوارع القاهرة منذ اليوم الأول من شهر رمضان وعسكروا فيها على مدار 30 يوماً كاملة. تمركزات استراتيجية عند المطبات المستوجبة تهدئة السرعات، ووقفات تكتيكية عند أبواب محلات الحلويات الكبرى، وتموقعات مدروسة دراسة متأنية في إشارات المرور وأماكن العُقَد المرورية، حيث دقّ على أوتار السائقين الرمضانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أوتار الخير الرمضانية التي يتم شدها بعبارة "كل سنة وأنتِ طيبة" والتي باتت تعني "اعطني مما أعطاك الله" تحوّلت خلال أيام الشهر الكريم إلى صنعة وحرفة وموسم لاكتناز الأموال الإضافية. يقول منذر سليم، موظف في محل حلويات شهير في حي مصر الجديدة، إن حفنة من المتسولين الموسميين تظهر في شهر رمضان أمام المحل. ولأن المحل شهير وأسعاره المرتفعة تعني أن زبائنه قادرون على إخراج الأموال، يتصارع المتسولون حول أولوية التسول في محيطه. يقول سليم "من واقع خبرتي أقول إن كثيرين من الزبائن يتصدقون على هؤلاء المتسولين بدافع أجواء رمضان، والبعض يخشى الابتزاز الروحاني من جهة أو العين الثاقبة المركزة على الحلوى المشتراة من جهة أخرى، فيخرج مالاً لسدّ ثغرة روحانية أو درء عين بشرية". وينوه سليم بأن هذه الجموع تختفي تدريجياً ثاني أو ثالث يوم العيد، إذ يعودون إلى بيوتهم محمّلين بالمال الوفير.

وفرة أموال المتسولين

أموال المتسولين، المكتسبة عبر عبارات التهاني الممزوجة بالابتزاز، لا تنافسها في الوفرة سوى إعلانات التبرعات على الشاشات، والتي طاردت المشاهدين وأفسدت متعة المشاهدة طيلة أيام الشهر الكريم. سيل فائض وبحر هائج من مطالبة المشاهدين والمشاهدات بتبرعات وصدقات وهبات وأموال الزكاة على مدار 30 يوماً كاملة. أفعال الأمر "تبرع" و"شارك" و"ساعد" و"ادعم" و"اكفل" و"انقذ" و"بادر" و"الحق" و"سارع" و"ساند" و"انجد"، ظلت تطارد ملايين المشاهدين على مدار ساعات البثّ أو بالأحرى على مدار ساعات يقظتهم بشكل غير مسبوق. وبقى المعنى الأوحد في بطن كل إعلان هو "ادفع بالتي هي أحسن"!

الدفع بهذا الكم المذهل غير المسبوق من إعلانات التبرعات لمستشفيات وفقراء وقرى داهم البيوت فجأة في أول رمضان، لكنه أيضاً يرحل فجأة مع انتهاء عيد الفطر المبارك مع الإبقاء على الخمسة الكبار، أي المستشفيات الخمسة الأكبر على قائمة التبرعات.

شاشات التبرعات

"أهل الخير" المرابطون أمام الشاشات في الأمسيات الرمضانية أمضوا جزءاً من النهارات الرمضانية على الطريق. والطريق في أيام رمضان وقع بين شقي رحا: أزمات المرور المستعصية من جهة، وعصبية السائقين المستفحلة من جهة أخرى. أحد رجال المرور في شارع الثورة في مصر الجديدة يقول إن ارتباط رمضان بالأزمات المرورية يعود إلى سلوك المواطنين، من إيقاف للسيارات في أماكن مخالفة بحجة إتمام معاملة بنكية أو شراء سلعة، أو عصبية البعض من السائقين أو تعجلهم مع تصور خاطئ بأن كسر قواعد المرور من شأنه أن يختصر الطريق.

عصبية على الطريق

ورغم أن عصبية السائقين ومعها الأزمات المرورية من الظواهر التي لا تلملم متعلقاتها كلياً معلنة الرحيل مع انتهاء شهر رمضان، إلا أن ظواهرها الرمضانية هي التي ترحل. يقول ضابط المرور إن الشارع المصري يعاني انفلاتاً مرورياً بسبب التغاضي عن قواعد السير، لكن الأمر يزداد حدة في شهر رمضان.

حدّة العصبية المنعكسة مرورياً في أجواء رمضان التي يفترض أن تكون روحانية يلخصها أستاذ الطب النفسي الدكتور أحمد محمود، في خمسة أسباب رئيسة، هي: العطش، ونقص النيكوتين بسبب التوقف عن التدخين، ونقص الكافيين ممثلاً في الشاي والقهوة، والجوع، وقلة ساعات النوم، وجميعها تؤدي إلى التوتر والعصبية والغضب. ويضيف "ورغم النصائح التي نمطر بها الناس قبل وأثناء رمضان لتقليل العصبية المتوقعة، حيث تقليل عدد السجائر وأكواب الشاي والقهوة قبل رمضان تدريجياً، وانتقاء أنواع الأطعمة للإفطار والسحور والتي تقلل الشعور بالعطش والجوع، مع ضبط مواعيد النوم ليحصل الشخص على عدد ساعات راحة ونوم معقولة، إلا أن مسلسل العصبية يتكرر في كل عام".

ويرحل رمضان مصطحباً معه ظواهر حديثة وصرعات عديدة، وعادات وتقاليد بعضها أصيل والبعض الآخر عقيم، وجموع متسولين يعودون أدراجهم إلى بيوتهم بعد شهر من العمل الشاق مواصلين الليل بالنهار رافعين شعار "كل سنة وأنت طيب"، وفوانيس الزينة وموائد الفقراء وولائم الأغنياء، وعصبية الطريق، والسبحة الكهرمان، وساعات نوم تعود إلى سابق عهدها بعد 30 يوماً من النوم وقت الصحيان والصحيان وقت النوم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات