Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المركزية الفكرية تقهر خصائص الأقليات ولكن الويل من الأقلية عندما تستبد

كتاب "على المحك" يطرح أسس المعرفة العملية ويواجه مسألة الإرتياب

لوحة للرسام حسين جمعان (صفحة الرسام - فيسبوك)

لا يقول المرء شيئاً جديداً إن أقر بأن الفلسفة، في نشأتها، على يد سقراط ومن قبله، كان لها الفضل في إطلاق أنماط من التفكير والتفلسف لا تزال تتوالد، وتتفرع، وتتأسس في أنظمة وطرائق عيش ومعرفة، هي من أركان الحداثة والعصرنة التي يحياها العالم، إلى يومنا. من دون أن يعني هذا الأمر أنه ليس من عوامل فكرية أخرى تحرك الفكر الإنساني، وتشرط العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الجماعات والأمم والمؤسسات الصغرى والكبرى.

كتاب "على المحك" للأكاديمي اللبناني الأصل نسيم نقولاوس طالب والأميركي الجنسية، والمترجم إلى العربية حديثاً (2022) على يد نتاليا الحسامي، والصادر عن دار نوفل، يتناول قضايا تندرج بصورة عامة في باب فلسفة الفعل، والمتحدرة بدورها من فلسفة الأخلاق التي كان قد أرسى دعائمها سقراط لألفين وأربعمئة سنة خلت.

مسألة الارتياب

ينحو الكاتب نسيم نقولاوس طالب باتجاه التبسيط وإلإكثار من الأمثلة، على نهج مشرقي قديم، ويقسم كتابه إلى خمسة أقسام، دعاها كتباً في حد ذاتها؛ ففي القسم الأول يعالج مسألة الارتياب (وهو ضد اليقين، باعتباره أن على المرء تفعيل منطقه العملي لكشف مكامن الغش والاحتيال الكثيرة، في الحياة المعاصرة) ولزوم اعتماده على المعرفة العملية والعلمية لكشف الوقائع. والقسم الثاني بعنوان "نظرة أولى إلى الوساطة" ويعني بالأخيرة كل شكل من أشكال الحكم أو التوسط بين الأفراد والجماعات، يأتي الكلام عليها. أما الثالث، فكان بعنوان "التباين الأكبر"، والرابع فبعنوان "ذئاب بين الكلاب"، والخامس "أن تكون حياً معناه أن تقبل على بعض المخاطر"، والسادس بعنوان "نظرة أعمق إلى الوساطة"، والسابع بعنوان "الدين والإيمان والمخاطرة بالذات"، والثامن بعنوان "المخاطرة والعقلانية".

لدى معالجته مسألة الارتياب، بالكتاب الأول، يعتبر الكاتب أن المعيار في الصدق لدى أي فعل (أخلاقي، أو سياسي، أو تجاري، أو ديني) إنما هو في مدى المخاطرة بالذات التي يقدم عليها فاعل الفعل؛ ويعطي أمثلة على ذلك المزاعم في تحرير أنظمة (يعطي مثالاً النظام الليبي) سرعان ما تتحول ليبيا، على إثره، إلى "أسواق عبيد" (ص:18)، على حد قوله، ومثلها المزاعم بالحداثة حمالة المساواة، وقد دحضها عبر ما سماه التناظر المعنوي بين شريعة حمورابي (العين بالعين والسن بالسن)، والقانون الخامس عشر للقداسة ("أحب جارك كما تحب نفسك"، سفر اللاويين 19:18)، وبين القاعدة الذهبية القائلة "عامل الناس كما تحب أن تعامل" (متى،7:12)، ومعادلة القانون الكوني ("تصرف فقط بطريقة تجعل المبدأ الذي يدفعك إلى التصرف يتحول إلى قانون كوني" كانط، 1783، 441:4). وفي ختام محاجته بشأن المخاطرة، وفي أعلى درجة منها، يورد المخاطرة بالروح، باعتبارها "تمثل التزاماً وجدانياً، وإقبالاً على المخاطر، وفصلاً بين الرجل والآلة... بل إن المرء إن لم يخاطر بنفسه ويدافع عن رأيه فهو نكرة" (ص:45).

ولا ينسى، في هذا السياق، أن يذكر مثالاً على المخاطرة بالذات النائب الأميركي الشهير رالف نادر، الذي أهدى له الكتاب، بالنظر إلى الصراع المرير الذي خاضه ضد الشركات الكبرى (الجنرال موتورز) إحقاقاً لحقوق المستهلكين.

خطر المركزية

وفي معالجته القسم الثاني بعنوان "نظرة أولى إلى الوساطة" يميل الكاتب، وعلى ضوء الدراسات الأنثروبولوجية، إلى تفضيل الأنظمة السياسية التي "تنطلق من البلدية، وتشق طريقها صعوداً" (ص:76)، على تلك القائمة على المركزية الشديدة. ذلك أن هذه المركزية غالباً ما تقهر مطالب الأقليات وخصوصياتهم، على حد قوله، وتقلل من إمكان مساءلة الموظفين والسياسيين المولجين رعاية شؤونهم. وبناء عليه، يخلص طالب إلى أن خير السياسات في بلد هي تلك التي يكون حجم الحكم فيها وآلياته البيروقراطية أصغر، وبالتالي تكون أكثر عرضة للمساءلة من قبل المعنيين، وتكون المخاطرة فيها متبادلة على غرار ما تدعو إليه الحوكمة. وبالمناسبة، يميل الكاتب إلى إيثار النظام الفيدرالي على ما عداه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويسلط الكاتب طالب في القسم الثالث الضوء على "هيمنة الأقلية المتشبثة برأيها" على مجتمع أو نظام بذاته، محذراً من مخاطر هذه الهيمنة، لا سيما إذا كان أفرادها ميالين إلى المخاطرة بالذات (أو بالأحرى المخاطرة بالروح). ولا يقتصر هذا الأمر على المستوى السياسي، إنما يتعداه إلى المجال الاقتصادي؛ ويعطي مثالاً على ذلك ما يفرضه "شعب الكوشر" (اليهود)، وهم "أقل من ثلاثة أعشار سكان الولايات المتحدة"، من أساليب في المأكل ما تعجز الأغلبية عن رده، وقد باتت راسخة في الأذهان والأنظمة الغذائية للبلاد كلها. والواقع أن الكاتب يجري تفريقاً بين نمطين من هيمنة الأقليات متعارضين في النهج والأسلوب؛ الهيمنة الديكتاتورية التي تقوم على استبداد عنفي، كالذي حصل في الشرق الأوسط مع "داعش" وكل هيمنة تسعى إلى الفرض، وهذه ينبغي محاربتها ورد أذاها عن سائر البشر. أما النوع الثاني من هيمنة الأقليات، فهو الذي تستدعيه عوامل ثقافية وجغرافية وسياسية أعم، ويتم لصالح تكوين "لغة التواصل المشترك"، كما حصل مع اللغة الآرامية التي لم تستدع هيمنتها على منطقتي المشرق ومصر وبلاد فارس استخدام العنف، وإنما تعزا هيمنتها إلى أن الفرس "الناطقين بلغة هندو-أوروبية هم الذين نشروا الآرامية، في سوريا وبابل"(ص:97-98)، وصولاً إلى منغوليا، كونها لغة السكان المحليين، وربما لسهولة كتابتها والنطق بها وحملها المصطلحات المنقولة عن اليونانية، وما أمكن تدوينه من علوم متداولة في حينه.

"ذئاب بين الكلاب"

ويتطرق الكاتب نسيم طالب، في القسم الرابع بعنوان "ذئاب بين الكلاب" إلى الطرق القانونية التي كانت تحتال بها– ولا تزال- بعض الدول، والمجتمعات والجمعيات ذوات نزعة الهيمنة، من أجل امتلاك الآخرين المختلفين عنها، وإدخالها إلى حظيرتها، مثل قوانين الزواج، وقوانين الذمية، واستراتيجية امتلاك العبيد العصريين، وهم كناية عن موظفين كبار يتم إغراؤهم بالمال والمناصب والامتيازات في سبيل أن يضمنوا ولاءهم للشركة، ويتخلوا عن أي طموح سوى تحقيق سياسة الشركة وإنجاحها كيفما دار الأمر.

على أن اللافت في هذا العرض التاريخي هو أن الكاتب يشدد في ختامه أنه ليس من إيمان من دون ثمن يؤديه المؤمن، وأن "المخاطرة بالذات" كانت الدليل الوحيد الذي قدمه المؤمنون على صحة العقيدة، بعد أن كانت دليلاً على صدقية أي فرد في مباشرته عملاً أو في دفاعه عن فكرة أو قضية عادلة.

لا شك أن الكتاب الذي عرضت لأهم النقاط فيه، للكاتب نسيم نقولاوس طالب، وهو يشكل الخاتمة في سلسلة "الارتياب"، ينطوي على آراء في الفلسفة العملية وأخلاقيات الفعل تكاد تكون خلاصات عابرة للأزمنة والجماعات، ودالة على موسوعية الكاتب وامتلاكه رؤية خاصة في مقاربة المجتمعات وتقييم أداء الجماعات فيها بناء على معايير كونية أهمها "مقدار المخاطرة بالذات"، ورصد الخزعبلات، والتناظر في العلاقات البشرية، وغيرها. 

ولئن أمكن القارئ الباحث - غيري - أن يتصدى لبعض الآراء الواردة في الكتاب، والنابعة من قناعات راسخة لدى الكاتب، فإنه ليستبشر خيراً من احتضان العربية، وإن عبر الترجمة، فرعاً جديداً من فروع الفلسفة العملية، تليه فروع وأبحاث مفيدة، وباعثة على التفكر في الذات والآخر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة