في الموجة الأولى للإرهاب التي تزامنت مع وجود أسامة بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة" في السودان، كان من بين مؤشرات التغيير في المخيلة الدينية والسياسية لجيل الشباب المنتمين إلى التنظيمات الإرهابية، سعي الدولة إلى تبني الخطاب الديني، وظهر ذلك في بدايات حكومة الإنقاذ التي أتت بانقلاب عام 1989 على حكومة الديمقراطية الثالثة. وقد كان مجلس القيادة من عسكريين ومنتمين إلى التنظيم الإسلامي آنذاك من المحاربين القدامى في أحراش جنوب السودان ضمن حرب رسالية قوامها تحرير الجنوب من المسيحيين وإقامة دولة إسلامية، ضمن فكرة حسن الترابي، لا تقتصر على السودان وإنما تمتد لتشمل الدول العربية أيضاً. ولم يختلف هؤلاء عن الجماعات المتشددة الأخرى في وحدة الهدف، فقدم حزب "الجبهة الإسلامية" الدعوة الفكرية على أنها سلاح للتعبئة السياسية وموازية للنضال كفعل جهادي.
أما الموجة الثانية التي استمرت إلى الآن فهي نتيجة رفض الوضع السياسي، وهي بحسب تفسير الجماعات المتشددة التي نفذت عدداً من العمليات الإرهابية في السودان، أن التنظيم الإسلامي انحرف عن أهدافه. وطالع السودانيون دعوة قيادي بارز بتنظيم "حراس الدين" في سوريا يُدعى أبو حذيفة السوداني (صنفته واشنطن إرهابياً عالي الخطورة)، من سماهم عناصر تنظيم القاعدة في السودان إلى "الإسراع في الإعداد لتأسيس كتائب وتشكيلات عسكرية تنفذ عملياتها العسكرية بنظام حرب العصابات، وتركيز الخلايا الحربية خارج الخرطوم وداخلها بحيث لا يقتصر نشاطها على العاصمة، حتى تضمن وجود قواعد خلفية للإمداد والدعم لإقامة دولة التوحيد"، حاثاً على الاستفادة من حال عدم الاستقرار الأمني وهشاشة الأوضاع في السودان.
بروز الإسلام السياسي
بدأ النشاط الإسلامي المسلح في السودان منذ عهد "الثورة المهدية" التي نشبت في أواخر القرن الـ 19، وكانت ذات توجه إسلامي متشدد ضد المستعمر الإنجليزي – المسيحي، وكان غطاء الثورة هو الجهاد الإسلامي الذي شكل نضالاً بدائياً واجه أسلحة المستعمر الحديثة آنذاك بالسيوف والحراب، و"راتب الإمام المهدي" وهو دعاء صاغه محمد أحمد المهدي ليبث في روح رجاله الفدائية في ميدان القتال، وجاء من بعد المهدي خليفته عبدالله التعايشي وطبق الإسلام السياسي الراديكالي، ولم يجنح إلى الاعتدال بل غالى في حركته وانتقامه ممن يظن أنهم يتعاونون مع المستعمر.
في فترة الحكم الإنجليزي - المصري اندمج المتشددون في الحياة السوسيوسياسية وتحولوا إلى طوائف منها طائفة الأنصار بزعامة عبدالرحمن المهدي التي نتج منها سياسياً "حزب الأمة"، وطائفة الختمية التي أسسها محمد عثمان الميرغني (الختم) ذات السمة الدينية الصوفية، وخرج منها "الحزب الاتحادي الديمقراطي".
برز العداء بين الطائفتين في أن "الختمية" كانوا ينادون بالوحدة مع مصر، في حين أن "الأنصار" كانوا ينادون بالاستقلال الكامل عن بريطانيا ومصر.
إن التماثل بين نموذج زعيم "الثورة المهدية" ونائبه اللذان تحديا سلطة المستعمر بإسلام مسلح، وبين المتشددين اليوم ضد الحكام الوطنيين تعد لافتة، غير أن تحول "حزب الأمة" إلى حزب سياسي مدني ومحاربته من قبل النظام السابق حال دون النبش في جذوره، وهناك أسباب أخرى منها التحول الثقافي طويل الأمد في الحساسيات الدينية والسياسية في السودان.
وصف الكاتب والوزير السوداني السابق منصور خالد بأن "بروز الإسلام السياسي كقوة رئيسة في مركز السياسية السودانية كان منذ سقوط نظام جعفر النميري في أبريل (نيسان) 1985، بطريقة غيرت راديكالياً قواعد اللعب، وبعد استيلاء الإسلاميين على السلطة في يونيو (حزيران) 1989 فإن أكبر خيبات الخزي والعار التي اقترفوها كانت قرارهم تحويل الحرب الأهلية في السودان إلى جهاد مقدس بين المسلمين الأتقياء في الشمال والكفار في الجنوب، وهذا القرار دفع حال الاستقطاب في السودان إلى حدها الأقصى".
عمليات متسلسلة
ربما تملأ بعض الأحداث الإرهابية في الخرطوم خلال العقود الماضية بعض الفراغات حول البيئة التي تنتعش فيها الجماعات الإرهابية حتى قبل أن تعرف عالمياً بهذا الاسم، ومنها اغتيال زعيم "حزب الدعوة العراقي" المعارض لصدام حسين مهدي الحكيم ابن المرجع الشيعي محسن الحكيم في 17 يناير (كانون الثاني) 1988 داخل فندق "هيلتون" بالخرطوم. وفي العام ذاته هاجمت جماعة تابعة لتنظيم أبو نضال (صبري البنا)، أحد القيادات الفلسطينية، فندق "الأكروبول" في الخرطوم في 15 مايو (أيار) 1988، مستهدفة مواطنين بريطانيين وأميركيين وفرنسيين وبولنديين.
ومن أشهر أحداث التسعينيات حين نفذ أحد حراس زعيم تنظيم القاعدة ابن لادن أثناء وجوده في السودان، وهو من العرب الأفغان ويدعى محمد الخليفي مع مجموعته عمليتين إرهابيتين، حيث كانت عمليته المسلحة الأولى في مسجد الشيخ أبو زيد محمد حمزة في "أمدرمان"، وهو الرجل الثاني في جماعة "أنصار السنة"، في فبراير (شباط) 1994 بغرض تصفيته، ولكنه نجا بينما سقط عشرات القتلى والجرحى. أما عمليته الثانية فقد كانت بعد تمرده على ابن لادن، حيث استهدف منزله في الخرطوم بغرض تصفيته أيضاً، ولكن جرى اعتراضه بواسطة حراس ابن لادن والشرطة، ثم أوقفوا ونفذ فيهم حكم الإعدام.
كذلك نفذت "جماعة التكفير والهجرة" مذبحة مسجد الجرافة بـ "أمدرمان" في ديسمبر (كانون الأول) 2000، التي راح ضحيتها 20 مصلياً وخلفت 50 جريحاً، وكانت الجماعة على خلاف مع الشيخ أبو زيد محمد حمزة.
وفي العام 2006 اغتال متشددون من جماعة "أنصار التوحيد" أحدهم نجل الشيخ أبو زيد محمد حمزة الدبلوماسي الأميركي جون غرانفيل وسائقه السوداني عبدالرحمن عباس في ليلة رأس السنة، وفر الجناة ولكن قبض عليهم في عملية تفجير أخرى في ضواحي الخرطوم، كشفت عن مخازن لتصنيع وتخزين المتفجرات، وبعد إيداعهم سجن كوبر الشهير فروا مرة أخرى والتحقوا بالجماعات الإرهابية في الصومال ومالي.
وشهدت الأعوام من 2014 إلى 2018 التحاق بعض طلاب الجامعات السودانية بتنظيم "داعش"، وتمت إعادتهم بعد تعرضهم لكثير من الانتهاكات.
كما نفذت الجماعات الإرهابية عمليات أخرى في أحياء الخرطوم المختلفة وامتدت إلى مدينة بورتسودان وغيرها.
بيئة مهيأة
بعد سقوط النظام السابق حدثت هجمات إرهابية كان أبرزها محاولة اغتيال رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك في التاسع من مارس (آذار) 2020، واستعانت السلطات السودانية بفريق من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، وتم احتجاز المتهمين الذين وصفتهم "قوى إعلان الحرية والتغيير" بأنهم منتمون إلى النظام السابق.
وفي الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 تابعت السلطات السودانية خلايا لتنظيم "داعش"، ودهمت موقعين في حي جبرة في الخرطوم، حيث كان يتم الإعداد لتنفيذ هجمات إرهابية، وأسفرت العملية الأمنية عن مقتل أربعة عناصر تابعين لـ "داعش" واعتقال آخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما يمكن أن يدعو إلى الاتجاه نحو تنفيذ عمليات إرهابية عوامل عدة، أولها ما يعانيه السودان من مشكلات هيكلية في السياسة والاقتصاد تنعكس على المجتمع، وعلى الرغم من أن الأزمة الاقتصادية واضحة ومرتبطة بمسببات الثورة على النظم السابقة، فإنه ونظراً إلى الموارد الطبيعية التي يزخر بها السودان، نجد من ضمن الأسباب المعرقلة للاستفادة منها أيضاً عدم التوافق على الوصول إلى حال من السلام وفي مقدمها السلم المدني.
ثانياً، لم تفشل الأحزاب كماعون سياسي يستوعب الشباب في تجديد أفكارها وصفوفها وحسب، بل إنها قامت ولمدة طويلة بقمع قوى اجتماعية منظمة أخرى وتطويقها لئلا تقتسم وإياها الفضاء السياسي العام، والآن تروج الأحزاب خصوصاً بعد إخراج "قوى إعلان الحرية والتغيير" من الحكومة الانتقالية إلى أن الحكومة صادرت الثورة التي جاءت بها وتحولت إلى حكومة عسكرية لتعيد سياسة النظام السابق، لذا نجد في واجهة من يحملون هذا الادعاء نشطاء اليسار في مواجهة اليمين، ولنا أن نتخيل أن من سيشملهم اليمين ويكونون في الواجهة أيضاً هم المتشددون الإسلاميون.
ثالثاً تشكل الحال الثورية للشباب في تحدي النظام بذرة مهيأة يمكن أن تستفيد منها الجماعات الإرهابية، وبما أن الثوار ومن خلفهم الأحزاب يحاولون ألا يتركوا خيطاً يقود إليهم من هؤلاء الشباب، ويراهنون على أن ليس هناك دليل على كون هؤلاء الشباب تابعين لهم، ويقومون باستغلالهم من دون تنظيم واضح، فإن هذه الجماعات ترى فيهم الأمل الذي يمكنها من التصعيد ضد الحكومة.
انسحاب تكتيكي
قد لا تكون الحكومة الانتقالية هي التي خلقت تصاعد التهديد الإرهابي الوشيك بشكل مباشر، ولكنه يلوح في الأفق جراء الفوضى الحالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وممارسة اليسار السوداني نشاطه تحت غطاء الثوار، لتنشط بذلك التيارات الإسلامية المصادمة له بشكل أكثر عنفاً.
وبينما كان الإسلام السياسي في السودان ينمو كتعبير عن الاحتجاج والنضال ضد أي حكومة أجنبية أو وطنية وأي توجه علماني أو إسلامي معتدل، فإن التوجهات لم تحقق رضاً أو تصوراً جذاباً للمتشددين، فبدأوا يندمجون تدريجاً في سياق الإرهاب العالمي مما أسهم في توسيع شبكة التواصل بينهم ومدهم بأدوات تنفيذ هجماتهم.
وليس بالضرورة أن يقوم منفذو العمليات بالأصالة عن أنفسهم، فقد يكون هناك تمرير للأجندات من خلالهم، باستقطاب يائسين ومحبطين، كما حدث في العشرية الأخيرة من حكم الإنقاذ، إذ لم تكن لغالبية الشباب السودانيين المستقطبين من "داعش" علاقة بأي تنظيم إسلامي أو اهتمام عقائدي أو توجه سياسي، ومثلت الفترة الأخيرة من النظام السابق فترة لتحولات كبرى وقعت فيها أحداث متشابهة وإن اختلفت التفاصيل، وكان المتشددون في تلك الأحداث من الشباب الذين تلقوا تعليماً أفضل نسبياً، إذ استخدمهم المتشددون كسلاح ضد مجتمعهم.
وفي الاتجاه ذاته نجد أنه كلما برز تنظيم الإخوان المسلمين كقوة منافسة، اتجه نحو ألا يسمح للحكومة المدنية أن تأخذ مسارها الطبيعي من دون صدامات، فمن ناحية ترى القوى المدنية أن الإسلاميين سيدمرون الديمقراطية بمجرد تسنمهم السلطة، بينما يرى أنصار النظام السابق عكس ذلك، ومن هنا نشأ الصراع بين العنصرين، ولكن لدى الإخوان استراتيجية معروفة هي الانسحاب التكتيكي، ليتحول الصراع إلى صراع بين المدنيين والمتشددين.