يكاد الأمر يبدو عصياً على التصديق اليوم. ففي ذات حقبة تمكنت أرض مصر من أن تجمع من حول عمل سينمائي، بعض أبرز الأسماء في فنون تلك المرحلة: من السينمائي هوارد هاوكس إلى الكاتب الكبير ويليام فوكنر في الإخراج والكتابة، ومن ديمتري تيومكين إلى جاك هاوكنز وجوان كولينز، في الموسيقى والتمثيل. والمكان ذلك هرم خوفو الذي كان الأكبر في أيام الفراعنة ولا يزال الأكبر. ومن جمع هؤلاء وغيرهم في عمل سينمائي واحد كانت شركة "وارنر براذرز" إحدى كبريات الشركات السينمائية الأميركية. أما الزمان فكان أواسط خمسينيات القرن العشرين، ليتشاركوا جميعاً في صنع واحد من أقوى وأجمل الأفلام التاريخية ومن أكثرها عمقاً في الموضوع والحبكة. وهذا ما أمنه بالتحديد لذلك المشروع المدهش، صاحب "الصخب والعنف" فوكنر، الذي تنحى يومها عن إبداعاته الروائية ليخوض تجربة سينمائية هوليوودية سيقول إنها لم تكن مريحة له، لكنها كانت مثمرة للفن السابع.
أمام التحدي التلفزيوني
طبعاً، ما نتحدث عنه هنا هو فيلم "أرض الفراعنة" الذي أنتجه هاوكس وحققه عام 1955، فأراد له أن يكون إنجليزياً على الرغم من هويته الأميركية، غائصاً في نوع تاريخي من السينما العالمية، والمعولمة، اقتضت ضرورة إنتاجه ظروف الصناعة السينمائية التي كانت تعاني ما تعاني من "هجمة التلفزيون" الذي كان قد بات ملوناً يمكنه أن يجتذب المتفرجين مبعداً إياهم عن الصالات، جاعلاً المنتجين يشعرون بخطر وجودي يهدد صناعتهم. بالتالي، كانت تلك الحقبة التي راحت فيها السينما تجدد نفسها كي تكون قادرة على المنافسة من ناحية بجعل شاشاتها أكثر عرضاً بكثير مما اعتادت أن تكون عليه، ومن ناحية ثانية بالدنو من مواضيع تاريخية ودينية، بالتالي تتواكب مع التصوير الضخم وخارج البيوت، وما إلى ذلك. ولم يكن من قبيل الصدفة بالطبع أن تنتمي إلى تلك الفترة بعض أضخم الأفلام الهوليوودية وغير الهوليوودية ضخمة الإنتاج بانورامية الصورة متحدثة عن مواضيع عتيقة وحروب ضخمة وممالك جبارة. ومن البديهي أن يعثر السينمائيون على ذلك كله في الشرق الأوسط، منبع الحضارات والأديان والعابق بحكايات تتعدد شخصياتها وأبعادها. وكان للهوس بمصر وتاريخها الفرعوني حصة الأسد في ذلك. وعلى هذا النحو، كان من الطبيعي لهوارد هاوكس، أحد أكثر السينمائيين شعبية وسينمائية أن يتجه لتجربة حظه، سائراً على خطى من كانوا سبقوه عبر أفلام مماثلة كـ"الوصايا العشر" و"المصري" و"الرداء" و"كوفاديس" وغيرها من شرائط عرفت كيف تجمع الدين بالتاريخ في حكايات فاتنة ومشاهد لم يكن في وسع التلفزيون أن يدنو منها.
من المعرفة إلى الفلسفة
كما أشرنا إذن، سيطلع "أرض الفراعنة" من بين يدي هوارد هاوكس وصحبه، وبخاصة بفضل السيناريو الذي كتبه ويليام فوكنر، واحداً من أفضل أفلام تلك المجموعة، خصوصاً أن صناع الفيلم لم يتوقفوا عند أبعاد شكلية، حيث إن اختيارهم موضوع الفيلم أتى أعمق كثيراً مما اختارته أفلام النوع الأخرى. فصحيح هنا أننا أمام الضخامة نفسها، وفخامة جمال الملابس والديكورات التي تجتذب جمهوراً عريضاً في زمن كان يبدو فاتناً كل ما له علاقة بمصر القديمة، لكن الأهم من ذلك وحتى من الحبكة والعلاقات بين الشخصيات، كان ذلك الجانب "المعرفي" و"الفلسفي" الذي اختير كتيمة أساسية للفيلم. وذلك تحديداً انطلاقاً من فهم مدهش لوظيفة الهرم في حياة الفراعنة. وظيفته كقبر ولكن ليس طبعاً كالقبور. فالهرم تاريخياً إنما كان قد بدأ يبنى من قبل فراعنة مصر، وهنا في هذا الفيلم تحديداً، من قبل الفرعون خوفو، ليس كمعلم سياحي طبعاً ولا حتى كقبر ليدفن فيه الفرعون عندما تنتهي حياته الدنيا، ولكن كمستقر أبدي له في حياته الأخرى التي سيعيشها بعد الموت، ويشاركه فيها خاصته وأشياؤه الخاصة وكل ما يحتاج إليه بعد الموت، خصوصاً أن تحنيطه سيحفظ له حتى شكله الخارجي، وإقفال جدران "القبر" عليه، سيمنع المتطفلين من الوصول إليه بل حتى سيمنع عناصر التحليل الخارجية من إحداث أي تبديل في جلده أو جسده.
دروس مهنية لمبدعين مصريين
من هنا، كان بناء الهرم عملاً سرياً خالصاً من المفترض أن المهندس المشرف عليه الذي جعل له أسراره وخصوصياته، يدفن في الوقت الذي ينتهي فيه من بناء الهرم كي يأخذ معه أسراره ويحفظ للفرعون وحدته المطلقة في الحياة الأخرى، حياة "الما وراء" التي يعده بها كتاب "الموتى" الذي يعتبر من أعظم نتاجات الفكر الفرعوني. وهو النص الذي من الواضح أن جوهر سيناريو "أرض الفراعنة" قد صيغ انطلاقاً منه، ما يجعل الفيلم في نهاية المطاف فيلماً عن الموت وحتى عن حياة ما بعد الموت. لكننا نقول هنا "في نهاية المطاف" ونعنيها حرفياً، بالنظر إلى أن الموضوع يعرف قدراً لا بأس به من التشعب والعلاقات المتشابكة التي، وإن كانت تتحرك من تلك البؤرة الجوهرية للموضوع، فإنها لا تتوانى عن أن تقدم صوراً بانورامية رائعة، صورت في معظمها في مصر بمشاركة فنانين مصريين سرعان ما سيتسلمون لاحقاً دفة ذلك التطور الهائل الذي سيطاول الصورة السينمائية وألعاب الديكور والأزياء في السينما المصرية لاحقاً على أيدي الراحل شادي عبد السلام وغيره من مبدعين مصريين قيض لهم أن يشاركوا في صوغ جماليات "أرض الفراعنة" وغيره من أفلام من النمط نفسه حققت في مصر خلال تلك المرحلة الانفتاحية من تاريخها، في وقت انفتح فيه إبداع مصري معين على غنى ذلك التاريخ المصري القديم. غير أن هذه حكاية أخرى طبعاً.
نحو عمل استثنائي
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكايتنا هنا هي ذلك الفيلم الذي يبقى في يقيننا، استثنائياً بين هذا النوع السينمائي الذي ظل هوارد هاوكس يفخر حتى آخر أيامه بأنه قد خاض فيه، كما ظل ويليام فوكنر يقول إنه حتى وإن ندم كثيراً في آخر أيامه على خوضه تلك التجربة الهوليوودية عبر أفلام عديدة لم يعرها سوى بعض تقنياته الكتابية وأفكاره من دون أن يحبها كثيراً، فإن "أرض الفراعنة" ظل استثنائياً لديه، إذ أتاح له التعرف إلى تلك الحضارة الفرعونية العريقة والفريدة من نوعها. مهما يكن لن ينكر هاوكس على أي حال، أن فوكنر كانت له اليد الطولى في صوغ الفيلم من طريق راوٍ هو كبير الكهنة هامار، الذي يروي على مدى الـ106 دقائق التي تشغلها النسخة الأميركية الأصلية من الفيلم، فترة حكم الفرعون خوفو وقراره تكليف المعماري فاشتار بناء قبر له يجمع فيه الكنوز التي كان قد حصل عليها خلال غزواته. وهو الذي كان يتطلع طوال أيامه كي يتمكن من بناء ذلك القبر، كما إلى الحصول على ولي للعهد من زوجته نيلليفير. وكان الشرط لتكليف فاشتار ببناء ذلك القبر/ الهرم أن يدفن فاشتار وابنه مساعده مع خوفو حين تحل النهاية.
صراع الأمم والمعتقدات
وطبعاً، تدور أحداث الفيلم خلال المدة التي يستغرقها بناء الهرم، وهي مدة طويلة على أي حال، تستغرق سنوات عديدة وبالتالي تشهد أحداثاً كثيرة بين حروب وملاحم بطولية ومؤامرات في القصور وخارجها وتدخلات من بلدان مجاورة، لعل أهمها هنا قبرص التي كانت "مملكة" تتوسط الخريطة بين فكرين ودولتين كبيرتين في تلك الأزمان المبكرة: مصر الفرعونية واليونان الهلنستية، مع ما يتضمنه ذلك من تقابل بين الفكرين الطاغيين في ذلك الجانب من شرقي البحر الأبيض المتوسط. ولكن بشكل خاص في الأفكار المتعلقة بالموقف من الموت ومفاهيم الخلود التي أبدع السيناريو في التعبير عنها. ولكن أيضاً في نهاية معاصرة بل مبتكرة تصور إعفاء المهندس وابنه من شرط الدفن مع الفرعون حين يموت!
متعة للنظر وتحدٍّ للفكر
لكن السيناريو أبدع كذلك في حبك القصة، حتى خارج إطار ما هو مرجح تاريخياً، وصولاً إلى إشارات بالغة الأهمية تتعلق بالتضارب بين الأديان بين تينك المنطقتين من العالم. ولعل هذا التعمق في أمور كان يمكن القول إنها قد لا تهم الجمهور العريض الذي كان يدخل الصالات حينها للترفيه وبخاصة عبر صور بدت مذهلة بـ"السينما سكوب" وشاشاتها العريضة والصوت الذي كان قد بدأ يتجسم بشكل غاية في الإمتاع. وربما نقول إن هذا البعد الذي أراد لنفسه أن يكون ذكياً، هو الذي جعل هذا الفيلم من أقل هذا النوع من الأفلام مدخولاً. بيد أنه سيبقى، في المقابل، الأكثر بقاءً من بينها، كفيلم سبق زمنه وأتحف السينما الجادة بأبعاد جديدة ترافقت مع جمالياته إلى حد يبدو لنا اليوم مدهشاً.