"بدأت رحلتي مع صناعة الآلات الموسيقية، حين كنت طفلاً فضولياً يمضي وقته يراقب مصلّحي الآلات المتطوعين في جمعية الكمنجاتي في البلدة القديمة في رام الله، حتى عرض علي أحدهم تعلم هذا الفن"، يروي صانع الكمنجة شحادة شلالدة.
وفي عام 2005، بدأ شلالدة يتعلم العزف على آلة العود لأنها الأكثر شهرة ذلك الحين. ويذكر أن "الجمعية كانت ترسل أدواتها إلى خارج فلسطين لإصلاحها، لأن قلة فحسب تتقن ترميم الآلات، وهذا الأمر كان مكلفاً للغاية، ما دفع الجمعية إلى الاعتماد على المعلمين والهواة المقيمين في البلاد لإيجاد الخلل وإصلاح القطع المختلفة".
ومن ترميم الآلات تحول شلالدة إلى صناعتها، وخصوصاً آلة الكمان التي يرتبط اسمه بها حتى اليوم، فهي كانت التجربة الحقيقية الأولى له عام 2008 في إيطاليا، ومن ثم في المملكة المتحدة حين قرر متابعة دراسته الجامعية في ترميم القطع الموسيقية.
ازدياد العازفين يتطلب آلات متخصصة
لم تكن الثقافة الموسيقية رائجة كثيراً في المجتمع الفلسطيني، عندما بدأ شلالدة رحلته. فالمجتمع المحيط لم يكن يرى في إصلاح الآلات مهنة مستقلة، إذ كانت الفكرة السائدة أن أي شخص في مقدوره ترميم هذه الآلات. وهذا أحد أسباب عودته إلى رام الله للعمل في صناعة الآلات الموسيقية وصيانتها، وفتح مشغله الخاص، وشق طريقه في السوقين المحلية والعالمية، والمشاركة في مسابقات ومعارض دولية في الولايات المتحدة والصين وأوروبا وغيرها.
ويشير شلالدة إلى أن "التطور الكبير في معرفة الناس بالموسيقى وارتياد معاهد متخصصة خلال السنوات الماضية، أديا إلى ازدياد أعداد العازفين الفلسطينيين الذين يحتاجون إلى آلات متخصصة ودقيقة الصنع، وليست تجارية شكلية، ما ساعده على التطور أكثر في هذا المجال".
"الأوبوا... الأحب إلى قلبي"
"بدأت تعلم عزف آلة صعبة ومعقدة جداً وهي الأوبوا، لأن أوركسترا الكمنجاتي آنذاك كان ينقصها عازف على هذه الآلة، فالموسيقيون قلائل، وهذه الآلة ليست سهلة"، يروي صانع الآلات طارق جبارين بدايته في هذا المجال. فـ"الأوبوا هي آلة نفخ موسيقية قديمة جداً، ظهرت في القارة الآسيوية بادئ الأمر وتطورت على مدار العقود لتصل إلى شكلها الحالي المكون من 430 قطعة".
ولكن، بعد أن أتقن جبارين العزف على "الأوبوا"، بدأ يواجه صعوبات في ضبط مفاتيحها وإصلاح بعض المشكلات الفنية فيها. وهذا ما دفعه إلى البحث عن طرق لفكها وتركيبها مرات عدة لإيجاد الحل. ولاحقاً، انتقل إلى ألمانيا للعمل في مشغل لصناعة الآلات الموسيقية، ومن ثم إلى فرنسا للحصول على شهادة دراسية في هذا المجال.
وخلال أعوامه الدراسية، لم تكن الحياة سهلة بالنسبة إليه، إذ اضطر إلى العمل والدراسة لعام واحد فقط بدل عامين كما كان مقرراً، بسبب العقبات المادية. ومن ثم قرر العودة إلى فلسطين للبقاء مع والديه الكبيرين في السن، والبدء بصناعة الآلات الموسيقية الشعبية والتراثية كاليرغول والشبابة والناي، مستخدماً المواد الخام البسيطة كأنابيب البلاستيك التي يثقبها بقطع حديدية تسخن على النار. ولأن الطريقة بدائية وتستغرق وقتاً، لم يكن ينتج جبارين أكثر من ثلاث قطع يومياً.
ويتابع جبارين أنه شُغف بالموسيقى منذ سن الثانية عشرة، حين دعاه أحد مرتادي جمعية الكمنجاتي من الأجانب إلى تعلم الموسيقى، بعد أن كان يحاول جذب انتباههم والتعرف إليهم، خصوصاً أنه نشأ في بيئة محافظة يحاول أهلها معرفة كل شخص يدخل الحي.
"الآلات المستوردة جميلة لكن جودتها أقل"
إذا ما دخلت أحد محال الأدوات الموسيقية، سترى مجموعة هائلة من القطع مختلفة الألوان والأشكال والأحجام والأنواع والمنشأ أيضاً، وبعض هذه الآلات يكون يدوياً للمحترفين، وبعضها الآخر يكون مستورداً للهواة. وهنا تظهر الفجوات في الأسعار. فالأولى قد يصل سعرها إلى آلاف الدولارات، بحسب المواد التي تدخل في تصنيعها ومدى تعقيد مكوناتها. أما الثانية فتكون بأسعار مناسبة أكثر للناس. وهذا قد يشكل واحداً من التحديات الكثيرة التي تواجه هذه الصناعة في فلسطين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، يرى جبارين أن وجود الآلات المستوردة التي تشبه الصناعة المحلية في كثير من التفاصيل، له أثر ولو كان غير ملحوظ بشكل كبير. فالناس تتجه إلى شرائها بأسعار أقل بكثير، ولكن تفاجأ لاحقاً بتدني مستواها وعدم وجود قطع لاستبدال التالفة منها. وهذا ما يحاول حله جبارين بإعطاء خصومات على الصيانة لآلاته على مدار سنوات معينة، من أجل تشجيع الناس على الصناعة المحلية.
إضافة إلى ذلك، تشكل القيود على استيراد بعض ماكينات الحفر، وارتفاع أسعار المواد الخام وتكاليف نقلها إلى فلسطين، وتوقف عمليات الشحن إلى بعض الدول التي تعد سوقاً للأدوات التي يصنعها جبارين، عائقاً أمام عمله، أدى إلى إبقاء بعض الآلات على الرف.
ويشير جبارين إلى أن "التغيرات السياسية والاقتصادية ومحدودية الفرص المعطاة للموسيقيين من المؤسسات المحلية والحكومية تدفعهم إلى البحث عن فرص أفضل خارج فلسطين، أو ربما الهجرة إلى دولة أخرى بشكل كامل، ما يؤدي إلى انخفاض عدد المهرة ومعلمي الموسيقى".
أسعار المواد الخام وتكلفة نقلها مرتفعة
أما بالنسبة إلى شلالدة، فلا تشكل الآلات المستوردة تحدياً كبيراً، لأن قطعه عادة تكون متخصصة للمحترفين، وليست للهواة. ففي ما يخص الصوت والشكل والدقة تختلف عن تلك المستوردة الأقل سعراً في العادة، التي قد تكون غير ملائمة للعزف من ناحية الصوت، وضبط الإيقاع والمفاتيح وغيرها.
لكن العقبة الأكبر تتمثل في جلب المواد الخام من ناحية أسعارها العالية وتكلفة توصيلها المرتفعة لفلسطين، إضافة إلى الإغلاقات التي شهدتها المنطقة بسبب انتشار فايروس كورونا. الأمر الذي كان له أثر كبير على عدم القدرة على شحن هذه المواد إلى فلسطين خلال الفترة الماضية.
وعلى الرغم من وجود بعض المؤسسات والمبادرات التي تشجع الموسيقى، إلا أن الثقافة الموسيقية تحتاج إلى مزيد من العناية والاهتمام والدعم في فلسطين. وهذا ما يحاول شلالدة فعله من خلال التركيز على تعليم الأطفال صناعة الآلات الموسيقية وإصلاحها، بالتعاون مع صندوق الثقافة وبعض المؤسسات الأهلية الفاعلة في هذا القطاع، مثل جمعيتي الكمنجاتي وعبد المحسن القطان.