Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليالي الحصاد" كما صورها قلم محمود دياب غاضبا في الزمن الجميل

الفن يكشف دوره في الحياة الاجتماعية كما كان يعيشها مجتمع ما قبل المسرح

مسرح الفنان المصري محمود دياب اعتنى بقضايا المجتمع (اندبندنت عربية - علاء رستم)

خلال سنوات الستين من القرن الفائت عرفت الحياة الفنية، لا سيما المسرحية في مصر، من ضمن ما عرفته من ازدهار فني اختلط بقدر هائل من أسئلة تبحث عن نوع من خصوصيات فنية، كان الزمن يتيح طرحها سواء بالنسبة إلى تجديدات في الأشكال الفنية أو حتى في المضامين. ومن هنا، من ألفريد فرج إلى ميخائيل رومان، ومن محمود دياب إلى نجيب سرور وغيرهم، عرفت الحياة الأدبية المصرية ذلك الجيل من الكتّاب الذي كان همه الرئيس يربط القضية الفنية بنظيرتها الاجتماعية، ويواكب فترة الصعود السياسي عارضاً، ناقداً، مجدداً حتى في الأشكال، على أسس كان يوسف إدريس من أبرز المنظرين لها.

أبناء هذا الجيل، كانوا على أي حال ينتمون إلى يوسف إدريس قدر انتمائهم إلى توفيق الحكيم، ينهلون من بريخت بقدر ما ينهلون من الفنون الشعبية كالسامر، وألف ليلة وليلة وغير ذلك. كما أنهم كانوا، بوصفهم بعض أبناء الجيل الأول من مبدعين ظهروا في حضن التغير الثوري الذي جاءت به حركة الضباط الأحرار، يشعرون بمسؤوليتهم ومسؤولية مسرحهم، بينهم محمود دياب الذي بكّر في الرحيل من بينهم، وهو بالكاد تجاوز الخمسين من عمره، في أكتوبر (تشرين الأول) 1983، وكان واحداً من أبرزهم. ناهيك عن أنه كان أكثرهم إحساساً بضرورة الوحدة والترابط داخل عمله. ومن هنا ما نلاحظه من إلحاح عدد قليل من القضايا المركزة في مسرحياته، لا سيما منها قضية الريف، ومسألة التعامل مع التاريخ بوصفه وسيلة للتعبير عن الراهن.

بين الريف والتاريخ المظفر

من مسرحية "البيت القديم" (1964) التي حفلت بتفاؤلية قد تبدو اليوم تبسيطية حول التطلعات الاشتراكية في مجتمع صاعد، إلى "أرض لا تنبت الزهور" 1979، التي يعود فيها إلى التاريخ، وإلى أيام مملكة تدمر، ليقدم رؤية معاصرة تستعير حكاية الزباء، التي بعد أن يقتل أبوها لا يعود ثمة هدف أمامها إلا الانتقام له. من تلك المسرحية إلى هذه، خط محمود دياب طريقه، عبر عدد من المسرحيات الطويلة والقصيرة، ليرسم ما هو صنو للمجتمع ولأحلامه وتطلعاته، على خشبة لم تفته ضرورة أن يكون ما عليها مجدداً في الشكل أيضاً.
مسرحية "الزوبعة" التي كتبها دياب في عام 1966، كانت على أي حال، هي التي أطلقته، وفيها قدم صورة للصراعات وللتفاوتات في الريف ضمن مناخ تحريضي كان يتلاءم مع ما تعد به الثورة المصريين، غير أنه لم ينس في طريقه أن يعرج على القيم البالية التي كانت لا تزال تسود المجتمع الريفي، على الرغم من كل ما كانت الثورة بذلته. أما في مسرحيته التالية "ليالي الحصاد" 1967، وهي من أشهر أعماله، فإن دياب بلغ من تجديده في الشكل ذروة ما كان بلغها سابقاً، حيث إنه وظف هنا ما سمي بـ"السامر" الشعبي عبر سهرات يقيمها الفلاحون ويتسامرون خلالها في لعبة يقوم فيها الواحد منهم بتشخيص حياة الآخرين، وهكذا تتبادل الشخصيات الأدوار ويختلط التشخيص بالحياة الواقعية، ويصل الأمر إلى ذروته عبر تداخل الأزمنة، ما يفجر في نهاية الأمر العواطف والمواقف، ويكشف عن آلام القرية وأبنائها.

عودة إلى فنون "السامر"

مهما يكن، بالمقارنة مع العدد الأكبر من مسرحيات محمود دياب، قد تبدو مسرحية "ليالي الحصاد" اليوم مفتعلة في تركيبتها المتناقضة مع ما يمكن لمسرحية ريفية أن تكونه، غير أنها في زمنها كانت عملاً ثورياً في الشكل كما في المضمون، لكنه أثار جدالاً واسعاً في الأوساط الفكرية من منطلق أنها فيما تسير كما يعلن بعض النقاد وحتى مؤلفها، على درب التجديد الذي يعود إلى مسرح "السامر" المرتبط بالمجتمع الشعبي، والشعبي المصري تحديداً الذي وصل التحليل بالبعض إلى حد العودة به إلى أيام الفراعنة، تنحو كما قال آخرون إلى سياق تجديدي عالمي معاصر يمزج مسرح "الهابيننغ، بمسرح الإنسان المضطهد (آوغستو باول) بالسامر مزجاً مفتعلاً. غير أن ذلك السجال لم يصل إلى نتيجة وبقيت "ليالي الحصاد" عملاً رائداً، بل حتى يستجيب لبعض دعوات يوسف إدريس من ناحية ما.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن المعروف أن حلقات السامر التي ولدت في الريف المصري وربما من أزمنة ما قبل المسرح تستجيب بشكل أو بآخر لتلك القواعد الفنية الجديدة التي كان إدريس يتطلع إليها، فكانت استجابة دياب طبيعية عندما طور بخاصة في "ليالي الحصاد" نوعاً من "سامر" جديد ينقل عن تلك الجلسات العفوية التي اعتادت عليها الحياة الاجتماعية في بعض الأرياف المصرية، حيث يلتقي المزارعون في العشيات بعد كد العمل وتعبه ليتسامروا، مبتكرين حكايات تتحدث عن بعضهم بعضاً وعن طرائف مما يعيشونه بالفعل، محاولاً كل واحد منهم أن يقلد تصرفات وردود فعل جاره أو صديقه، وغالباً في قوالب تبغي التسرية عن النفس وخلق حال من التبادل الوجداني، مفترضين استكمالاً لحكايات غمضت نهاياتها أو التبست مساربها، فيغرق الآخرون في الضحك حتى ولو كان من بينهم ضحايا تلك المواهب العفوية.

الفن يعيد اختراع الحياة

وطبعاً ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه السمر في تلك الجلسات، ولكن تقوم عليه بالطبع هنا في "ليالي الحصاد" الحكاية التي افترض المؤلف وجودها، ناقلاً إياها من مكانها الطبيعي في الحياة الاجتماعية الحقيقية إلى مكان إبداعي، وكأنها تعاش من جديد في ليلة من ليالي ما بعد الحصاد. وهكذا يجد المتفرجون الحقيقيون أنفسهم هنا محاطين بممثلين يلعبون دور فلاحين حقيقيين يروون هنا وكأنهم يتسامرون حكايات تدور من حول رجل متقدم في العمر تبنى صبية حسناء وتعهدها بين عياله حتى كبرت، فقرر ألا يفرط بها، بل يحتفظ بها لنفسه، اطمأن إلى رغبته تلك حتى راح شباب مزارعون يتزاحمون على خطب ودها والتقرب إليها ما أثار عواطف متضاربة ونزاعات حتى اللحظة التي تحول فيها السمر، دون أن يفقد حسه المرح، إلى خصامات وصلت لحدود الغيرة والقتل، ومن خلال ذلك إلى تصوير الحياة الريفية، وربما أيضاً ما تحمله العواطف والأحاديث المتبادلة من عنف في ثناياها تنم عن تكامل ذلك المجتمع دافعة إياه إلى تصحيح مساره من داخله في لعبة قد تكون وعظية، لكنها في نهاية الأمر تحدد للفن الشعبي دوره في الكشف عما يعتمل داخل المجتمع وعن دوره في اللعبة كلها.

أسئلة الحرب الشائكة

وفي مسرحيته التالية "الهلافيت" عاد دياب من جديد ليطرح هموم الريف من خلال حكاية فلاحين بائسين، مهمتهم أن يسلوا سادتهم عبر تشخيص حياة هؤلاء، ما يفجر العلاقات الطبقية ويكشفها ويؤدي إلى تمرد الفلاحين على سادتهم، عبر لعبة التماهي الدرامية.

وفي عام 1974 كتب محمود دياب في رد فعل على المناخ العام الذي أثارته حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، والتساؤلات التي أثيرت من حولها، مسرحية "رسول من قرية تميرا للاستفسار عن مسألة الحرب والسلام". وكانت واحدة من أبكر المسرحيات المصرية وأكثرها جرأة، في مجال طرح مسألة الانتهازية، ووضع حرب التحرير والقضية الاجتماعية في خطين متوازيين يلتقيان من حين لآخر. وذلك عبر حكاية المقاتل فكري الذي ينشغل في المعركة، بينما عمه يغتصب أرضه. وعلى نفس السياق كتب محمود دياب مسرحية "أهل الكهف" عن الفئة التي كانت ثورة 1952 هزمتها، ثم ها هي اليوم تستيقظ في العهد الانفتاحي لتعود وتغتصب البلد.

وصولا إلى أبناء الصمت

بعد ذلك كانت مسرحية "باب الفتوح" التي عاد فيها دياب إلى التاريخ يستلهمه، مستعيناً باستعادة زمن صلاح الدين الأيوبي وانتصاراته، ليؤكد أن الانتصارات العسكرية لا تنفي ضرورة وضع قواعد للعدالة الاجتماعية كما كتب دياب قصصاً كان يحولها إلى سيناريوهات سينمائية وتلفزيونية، ومن أشهرها سيناريو "الظلال على الجانب الآخر" الذي حوله غالب شعث فيلماً قاسياً وغاضباً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة