Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"خلف محل مارتين"... الروائي الذي لم يرتدع عن "قتل" شخصياته

نص ساخر من مارسيل إيميه لحل إشكال أدبي حير سارتر ومورياك معاً

الكاتب الفرنسي مارسيل إيميه (غيتي)

قلة أولئك الكتاب والمفكرون الذين حققوا، بخاصة في فرنسا، أعمالاً تخرج عن إطار العقلانية الصرفة. وكان مارسيل إيميه واحداً منهم، هو الذي يكاد يكون منسياً بعض الشيء في فرنسا اليوم، لحساب زملاء له كان أكثرهم أقل إبداعاً منه، وأقل احتفالاً بالأدب كأدب.

إيميه، الذي رحل عن عالمنا في عام 1967، كان من دعاة الأدب الصرف، واقفاً في هذا ضد التيارات التي سادت فرنسا خلال العقود الأخيرة من حياته. ومن هنا كان النقاد يقولون عنه إنه ينتمي بالأحرى إلى أزمان ماضية، ويشبهونه بسلفه الفرنسي الكبير لاروشفوكو من ناحية دمجه للأدب التخييلي بالبعد الأخلاقي التهكمي والوعظي وإطلاقه على الإنسان نظرة حنون، إضافة إلى امتلاء أدبه بالغرائب والحنين إلى أزمان رومانسية عبرت.

تصفية حسابات

قد لا يكون تشبيه إيميه بلاروشفوكو مجرد صدفة. فالحال أن ثمة قاسماً مشتركاً أساسياً يجمع بينهما وهو بالتحديد حسّ السخرية الذي يبدو ماثلاً في كتابتهما، بالتالي استخدامهما للغة وكل إمكانياتها استخداماً مغرقاً في اللؤم بحيث إن كثراً اعتبروا إيميه لاروشفوكو القرن العشرين. وهم إن لم يكونوا معتمدين في هذا التوصيف على رواياته وقصصه التي غالباً ما اتسمت بتلك الغرائبية التي تبعده تماماً عن لاروشفوكو، فإنهم استندوا فيه إلى عدد من كتب أخرى له أوصل فيها حسّ السخرية والبعد التهكمي إلى مستوى لم يضاهه فيه أحد من مجايليه. وفي مقدمة هذه الكتب ذاك المعنون "خلف محل مارتين"، الذي أصدره عام 1938 وجمع فيه على أي حال بين قدر من الكتابة الغرابية وقدر أكبر من حسّ التهكم اللئيم الذي عزز من قوته كونه كتبه على شكل "تصفية حساب" مع الوسط الأدبي الفرنسي إنما من دون أن يبدو عليه أنه يفعل ذلك.

(الكاتب- القاتل)

يدور هذا النص المغرق في الطرافة حول كاتب يصفه إيميه لقرائه قائلاً منذ مفتتح النص: "كان هناك روائي اسمه مارتين، لم يكن بمقدوره أن يمنع نفسه من قتل الشخصيات الرئيسة في رواياته، ولا حتى الشخصيات الأقل أهمية في تلك الروايات. فكل هؤلاء الأشخاص الذين يطالعوننا في بدايات النصوص مليئين بالقوة والحيوية عابقين بالأمل في الفصول الأولى سرعان ما يموتون كما لو بفعل الوباء ما إن يصل القارئ معهم إلى الصفحات الثلاثين الأخيرة من الرواية، وغالباً في وقت يكونون فيه في شرخ شبابهم. ولقد انتهى الأمر بهذه المقابر الجماعية إلى الإضرار بالكاتب نفسه. فلئن كان ثمة في العادة إجماع على قدرة مارتين ككاتب وعلى جمال لغته وأسلوبه، فإن كل تلك الميتات السابقة لأوانها انتهى بها الأمر إلى أن تجعل قراءة كتبه أمراً محبطاً، لا سيما الكتب الأكثر جمالاً من بينها".

حوار مع الناشر الحصيف

ولا شك أن الفصل الأجمل في هذا العمل هو ذلك الذي يلي هذا التقديم حيث يصور لنا الكاتب اجتماع عمل بين مارتين وناشره. فخلال ذلك الاجتماع وإذ يسأل الناشر مارتين عما إذا كان يحمل له جديداً يجيبه هذا الأخير بثقة وقوة أن "نعم لديّ رواية جديدة ستكون جاهزة للنشر عما قريب". ولكن هنا سنلاحظ بسرعة أن الناشر يعبر عن حذر شديد وهو ينتظر من الكاتب أن يحدثه عن الرواية الجديدة بشيء من التفاصيل سائلاً إياه عما إذا كان مسروراً بإنجازها فيجيبه مارتين إنه مسرور بالطبع طالما أنه أنجز ما يقارب ثلثها ولن يطول به الأمر قبل أن ينجزها كلها. ولدى إلحاح الناشر أكثر يستطرد مارتين قائلاً، إنه راضٍ تماماً عن العمل الجديد "فأنا لم أكن موفقاً في أي من كتبي السابقة كما حالي هذه المرة بالنسبة إلى اختيار الموضوع والشخصيات والمواقف". يلح الناشر في السؤال مستوضحاً حول الموضوع فيشرح له مارتين أنه عن مسؤول في مكتب يدعى ألفريد متزوج ويعيش سعيداً مع زوجته وابنه حتى اللحظة التي تجري فيها حماته عملية استعادة لشبابها وتبدأ بإغرائه هو شخصياً بشكل يفقده اتزانه وطاقاته جميعاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تنازلات كاتب

إزاء هذا الموضوع سيشعر الناشر بشيء من الراحة فامرأة على مثل هذه القوة لن يكون من السهل تخلص مارتين منها كما اعتاد أن يفعل مع شخصيات مماثلة في كتب سابقة له. وهو أمر يسارع مارتين إلى تأكيده أول الأمر معلناً أمام سرور الناشر أن الرواية سوف تكون بحاجة إلى تلك الحماة المتصابية وإلا ستفقد مبرر وجودها. غير أن الرضا الذي سيطر على الناشر إذ تلمس جديداً منطقياً في الرواية الجديدة لكاتبه المفضل، سرعان ما بدأ يخبو حين قال مارتين ما يعني أن "للأقدار تصاريف أخرى. فالمرء مهما بلغ من القوة والبأس ومهما نجا من الأوبئة والأمراض وراح يستمتع بالحياة، لا سيما هنا بالشباب الاصطناعي الجديد الذي بدأت الحماة تتذوقه، لن يكون في منأى عن حادث سير يصيبه وينهي حياته". وهنا أسقط في يد الناشر وراح يخوض سجالاً مهنياً ارتضى مارتين في نهايته أن يترك الأمور هذه المرة معلقة كأن تصاب الحماة بغيبوبة طويلة بدلاً من أن تموت. وهكذا لمرة هنا أبدى الناشر رضاه عن مارتين وهو يفكر بقدرته على حل إشكال أمضى سارتر ومورياك سنوات من عمرهما وهما يفكران في حل له ويتعلق بحرية الكاتب في أن يقبض بيديه على مصير شخصياته بما في ذلك المسائل المتعلقة بحياتها وموتها.

بعيداً من الرسائل

ومن المهم أن نذكّر هنا أن مارسيل إيميه (1902 – 1967) الذي ولد في أقصى الريف الفرنسي، عاش صباه وشبابه وجل أيامه في باريس، وشارك في صخب حياتها ونزاعات تياراتها الأدبية والفكرية قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها. ولئن كانت باريس قد كرمته على الدوام ولم تبخل في إطلاق الألقاب عليه، ومنها لقب "كاتب العصر"، فإنه لم يفته أن يقف على مسافة من العاصمة الثقافية، معلناً انتماءه إلى أزمان وأماكن أخرى، مكتفياً بمراقبة أخلاقيات شتى الطبقات مركزاً بصورة أساسية على البورجوازية الصغيرة وممثليها الأدبيين كما يفعل في هذه القصة ولكن مع حرصه الدائم على ألا يجعل من أدبه رسالة اجتماعية صرفة. فمارسيل إيميه كان يؤمن بالكتابة وبمتعة القراءة، وكان يؤمن أيضاً أن الأدب يجب أن يتوجه أساساً إلى أجيال لم تدنسها مثالب المجتمع بعد، ولم تنخرط بعد في اخلاقيات طبقاتها.

ومن هنا ما يلاحظ من أنه كتب معظم أدبه للأجيال الشابة، أو أنه، على الأقل، جعل أدبه قادراً على الوصول إلى تلك الأجيال، لإيمانه بأن لغة الأدب وحساسيته يمكنهما أن يحققا ثورة جمالية واجتماعية تلعب في الذهنيات، من دون أن يدعي الأدب لنفسه دوراً أكبر من ذلك الدور. والذين يقرأون أدب مارسيل إيميه لن يفوتهم أن يدركوا أنه نجح دائماً في هذا.

انبهار وتهكم وغرابة

ولد إيميه عام 1902 في جوانيي، وأمضى طفولته وسط غابات الشرق الفرنسي، ما ترك لديه انبهاره بعالم الغرابة، وامتلاء عالمه بالأحلام الضبابية التي تبدو على الدوام وكأنها حاردة من قلب الغابات. غير أن انخراطه في حياة الطبيعة لم يمنعه من أن يملأ رواياته وقصصه القصيرة بشخصيات يكشف من خلالها عورات وأخلاقية البورجوازية الفرنسية الصغيرة، حيث كان في معظم الأحيان يستخدم عالم الخيال والتخييل العلمي (كما في "عابر الجدران" مثلاً) للتوقف، وإن بشيء من التفهم عند شخصيات تكشف ذهنيات مجتمع بأسره. وعلى هذا امتلأ أدبه دائماً بشخصيات عادية ممتثلة لا مخيلة لها ولا تطلعات روحية، لكنه عرف كيف يضع تلك الشخصيات في مواقف تكشفها بل تعريها أمام نفسها.

وفي هذا الصدد يمكننا أن نذكر أعمالاً لإيميه لا تزال حية حتى اليوم وتخدم كمرايا لمجتمع ندر له أن فهم نفسه حقاً: "أورانوس"، "عبور"، "طريق التلامذة"، و"عبور باريس". في كل هذه الأعمال وغيرها، عبّر مارسيل إيميه عن نظرة إلى العالم، وإلى مجتمعه الفرنسي اتسمت دائماً بالسوداوية العابثة، من دون أن ينسى في أعمال أخرى (مثل "لافويفر" و"حكايات القط المعلق") أن يعود إلى عوالم الجن والسحر ليجعل من الحيوانات التي يرسمها ويرسم مغامراتها، تعبيراً طيباً وحنوناً عن الشرط الإنساني، الذي كان همه الأول والأخير على أي حال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة