Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيتر بوغدانوفيتش السينمائي الذي وثّق عصر "هوليوود" الذهبي

جاء من النقد ونافس كبار المخرجين وصنع أفلاماً تغوص في الواقع الأمريكي

السينمائي الاميركي الراحل بيتر بوغدانوفيتش (غيتي)

خسرت السينما الأميركية فناناً استثنائياً لا يُعوض: بيتر بوغدانوفيتش. السينمائي الأميركي المولود لأب صربي الأصل وأم يهودية، توفي عن عمر 82 سنة، تاركاً خلفه أفلاماً وكتباً وحكايات كثيرة. ما قيل في رحيله للفور يختزل مأساة رحيله: "اسطورة هوليوودية كاملة تموت معه". فبوغدانوفيتش واحد من آخر كبار "هوليوود". عاصرها ووثق عصرها الذهبي. طبعاً، أنجز مجموعة أفلام قيمة أشهرها "العرض الأخير" و"بايبر مون"، إلا أننا سنظل نتذكره كعاشق للسينما، كـ"سينيفيلي" من طينة نادرة على طريقة الراحل برتران تافرنييه، وكذلك كمؤرخ وناقد وباحث أعطى الكثير للسينما، وأخيراً كأقرب المقربين من أورسون ولز. 

الصحافي الناجح

كتاب له بارز في جزءين "معلمو هوليوود"، هو عبارة عن تجميع لأهم الحوارات التي أجراها بوغدانوفيتش في شبابه مع أهم صناع الأفلام في عاصمة السينما الأميركية. أسماء باتت تُدرس في معاهد السينما: ألفرد هيتشكوك، سيدني لاميت، روبرت ألدريتش، فريتس لانغ، جورج كوكور، هاورد هوكس، راوول ولش. إضافة إلى المعلومات الوفيرة التي يعج بها الجزءان، ثمة متعة في الإبحار على صفحاتهما، للاستماع إلى كلام أشخاص خلقوا السينما من لا شيء. يعيدنا الكاتب إلى الزمن الجميل، حين كانت المعاينة والخوض في التفاصيل من سمات النقاد. من أين جاء هيتشكوك بنظرية الـ"ماك غوفين" الشهيرة؟ لماذا ضرب دون سيغل ستيف ماكوين خلال تصوير "الجحيم للأبطال"؟ كيف استطاع بريمينغر أن يتحدى الرقابة فيلماً بعد فيلم؟ في أي ظروف وصل لانغ إلى "هوليوود"؟ كيف تغذى راوول ولش من تجربته ككاوبوي لصناعة الأفلام؟ وهل فعلاً استوحى هاورد هوكس فيلمه الشهير "أن تملك وألا تملك" من "كازابلانكا"؟ هذا جزء بسيط من مجموعة ضخمة من الأسئلة يطرحها بوغدانوفيتش على السينمائيين في محاولة غير مسبوقة للإضاءة على تجاربهم المتنوعة. حوارات ثرية رصينة وممتعة، تجمع بين الحكايات الطريفة وشرح مستفيض لأساليب العمل، كاشفةً كثيراً من كواليس أشهر عاصمة سينمائية في العالم. يأخذ القارئ المهتم فكرة شاملة عن علاقة الفنان بالاستوديوات التي يعود إليها القرار النهائي في مسائل كثيرة، كما أنه يكتشف رأي السينمائي بكل عمل من أعماله. 

هذه اللقاءت أجراها بوغدانوفيتش عندما كان ناقداً في الستينيات، بدءاً من عمر صغير جداً. كان في الحادية والعشرين عندما أُتيحت له فرصة لقاء عمالقة هوليوود، فكان محصناً بثقافة سينمائية واسعة يوم قرر خوض تجربة الإخراج. والأفلام التي أنجزها لم تشبه البتة أفلام زملائه، لأنه جاء من مكان آخر وكانت مراجعه تنهل من ينبوع السينما نفسها، لا من الواقع المعيش. زملاؤه في تلك الحقبة الزمنية كانت أسماؤهم: دوبالما وسكورسيزي وكوبولا وفردكين وهوبر وسبيلبرغ... وكانوا يرفعون راية قلب الطاولة على رأس السينما التقليدية. أما هو فكان يقف على مسافة من هذه الفكرة، لا بل عندما بدأ في صناعة الأفلام، راح يعبّر عن فكرة موت السينما الكلاسيكية، مصوراً "الميلانكولية" الناتجة من هذه الخسارة الفاضحة. وفي حين كان الصراع على أشده بين جيل صنع "هوليوود" وجيل أراد تسلمها ليحدث فيها تغييراً جذرياً، لم ينصب بوغدانوفيتش عداء لأحد، لا بل يمكن الادعاء أنه كان صلة الوصل بين "هوليوود" القديمة والجديدة.   

أجواء إنقلابية

في المقابل، شأنه شأن الذين خلقوا "هوليوود الجديدة" في مطلع السبعينيات للتمرد على نظام الاستودوات القائم، كان بوغدانوفيتش مسحوراً بـ"الموجة الفرنسية الجديدة" التي أحدثت ثورة سينمائية وصل صداها وتأثيرها إلى أميركا. 

في هذه الأجواء الانقلابية توجه بوغدانوفيتش إلى الإخراج بعد سنوات من الكتابة عن الأفلام، فقدم في مطلع السبعينيات، على مدار ثلاث سنوات متتالية، ثلاثة أفلام صنعت له مكانة بين زملائه المتمردين وجعلته صاحب شأن عند الجمهور: الأول، "العرض الأخير" (1971)، مقتبس من رواية للاري ماكمرتري (شبه سيرة)، تقع أحداثه في بلدة صغيرة تائهة ضمن تكساس في أوائل الخمسينيات. نرافق المراهقين سوني (تيموثي بوتومز) ودوان (جيف بريدجز) في رحله اكتشافهما للحياة والأفلام وكرة القدم والفتيات والملل، وما إلى ذلك من أمور كانت تصنع حياة هؤلاء الناس في تلك الفترة. هذا كله على وقع موسيقى تعود إلى تلك الحقبة. قدم بوغدانوفيتش جدارية عن المدينة وناسها، من خلال هذين الصديقين اللذين لن يتأخرا من مغادرة مسقطهما. الفيلم أطلق الممثلين جيف بريدجز وسيبيل شيبارد قبل خمس سنوات من أن تلعب دور بيتسي الشهير إلى جانب روبرت دنيرو في "سائق التاكسي" لسكورسيزي. بعد 19 سنة، تحديداً في عام 1990، عاد بوغدانوفيتش ليقدم تتمة لهذا العمل في فيلم تدور أحداثه بعد 33  سنة بعد أحداث الفيلم الأول. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في "ما المشكلة، دكتور؟"، ثاني أهم أفلامه الناجحة والخامس في التسلسل العددي، ودّ بوغدانوفيتش إنعاش نوع معين من السينما كان بدأ يتلاشى بعدما كان مهيمناً على المشهد السينمائي في الثلاثينيات والأربعينيات: تلك السينما الهزلية الساخرة التي تعتمد على الدعابة "البورليسك" وتتغذى من مسائل أخلاقية كالزواج والانفصال والطلاق والخيانة الزوجية. الفيلم بطولة راين أونيل وباربرا سترايسند التي، وفق ما رواه بوغدانوفيتش، كانت تطمح في العمل معه، فسأله مدير الإنتاج في "وارنر" أي نوع من الأفلام يقترحه عليها، فكان جوابه أنه ينوي أن يقدم لها شيئاً من قبيل "برينغينغ آب بايبي" لهاورد هوكس. اللافت أن الفيلم حقق نجاحاً ساحقاً في شباك التذاكر في منطقة شمال أميركا. بموازنة إنتاجية لم تتخط الـ4 ملايين دولار، وتجاوزت إيرادته الـ66 مليون دولار، فدخل في بورصة الأفلام الأكثر إيراداً لعام 1972 بعد "العراب" و"مغامرة بوسيدون"، وأدرجه معهد الفيلم الأميركي في لائحة أفضل مئة كوميديا أميركية. 

الغرب الأميركي

أما فيلمه الثالث الذي حصد النجاح فهو "بايبر مون" (1973. لجأ بوغدانوفيتش فيه إلى صورة باللونين الأسود والأبيض ليعيدنا إلى الثلاثينيات، إلى الغرب الأوسط الأميركي، زمن الكساد الكبير الذي ضرب بلاد العم سام. نتعرف على موسى براي (راين أونيل)، رجل يعتاش من أعمال النصب والاحتيال. اكتشافه خلال جنازة عشيقته السابقة أن لديه ابنة (تاتوم أونيل - نالت جائزة أوسكار عن دورها) تبلغ من العمر تسع سنوات، يغير مجرى حياته كلها. معاً يسافران من كانساس إلى ميسوري لتسليمها لعمتها بهدف تولي تربيتها. وقليلاً قليلاً، تبدأ الابنة بالإعجاب بوالدها على الرغم من التوتر الذي كان ناشئاً بينهما في البداية. وبدلاً من أن يكون قدوة لها، يعلمها النصب والاحتيال وينطلقان معاً في رحلة البحث عن المال بطريقة غير شرعية. جزء كبير من سحر الفيلم في هذا التواطوء بين الأب وابنته، علماً أنهما "أب وابنة" في الحياة الحقيقية لا على الشاشة فحسب. 

رابط الدم هذا نجده أيضاً في واحد من أشهر أفلامه، "قناع" (1985)، حيث لعبت الممثلة شير دور أم لشاب يُدعى روكي له وجه مشوه بسبب حالة وراثية نادرة تجعله يبدو وكأنه أسد. تعشق ابنها وتحميه، لكن لديها مشكلاتها الخاصة أيضاً، مثل المغامرات العاطفية القصيرة الأمد وإدمان المخدرات. الفيلم أعجب النقاد كثيراً، وعُرض في مهرجان كان السينمائي، إلا أن المخرج عاد ورفع دعوى قضائية على "يونيفرسال" متهماً اياها بحذف مشاهد من الفيلم وتشويهه. دعوى ربحها بوغدانوفيتش، فاضطرت الشركة إلى احترام رؤية المخرج وإعادة الفيلم إلى نسخته الأصلية في عام 2004.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما