Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين ندد فولتير بمحاكم التفتيش وابتكر لقب "المستبد العادل"

في "أميرة بابل" أدب رحلات ونقد سياسي و"يوتوبيات" في حكاية مغامرات وغرام

تمثال للفيلسوف الفرنسي فولتير (أ.ب)

كانت تلك واحدة من آخر القصص التي نشرها الكاتب والمفكر التنويري الفرنسي فرانسوا ماري آروي في حياته، حتى وإن كان لا يزال أمامه ما لا يقل عن 10 سنين يعيشها بعد العام 1768 الذي نشرت فيه القصة، فآرويه الذي عرفه العالم باسمه الأدبي فولتير لم ينشر بعد "أميرة بابل" سوى عدد ضئيل من القصص والحكايات، وذلك بالتحديد لأنه انهمك خلال السنوات الـ 10 الأخيرة من حياته، وفيما كان مقيماً في بلدة فرناي بالقرب من الحدود مع سويسرا، في نشر نصوص سياسية مباشرة حمّلها خلاصة آرائه وأفكاره، ولم يكتب القصص إلا كي ينجز واجباً، ومع ذلك لا بد من التساؤل دائماً عن السبب الذي دفع صاحب "كانديد" و"القاموس الفلسفي" و"مقالة في التسامح" إلى نشر "أميرة بابل" من دون توقيعه، بل حتى الزعم في رسالة بعث بها إلى صديقة له يتحدث فيها عن القصة المنشورة بكونها يضمها "كتاب تلقيت نسخة منه لتوي مرسلة إلي من ناشره في هولندا"، مع أن ذلك الكتاب نشر في جنيف لا في أية مدينة هولندية؟

في الحقيقة أن فولتير لم يجد من الوقت ما يكفيه لتوضيح ما هو غامض في كلامه حول القصة، بحيث بدا وكأنه يستصغر شأنها وسط اهتمامه بالقضايا الفكرية والسياسية الكبرى، يصدر حولها النص تلو الآخر في سنواته الأخيرة.

قصة و"يوتوبيا" وأدب رحلات

لكن هذا التفسير لن يستقم بدوره إن نحن تصفحنا هذه القصة لنكتشف أنها إلى كونها تحمل نصاً ترفيهياً لا تكتفي بالبعد الترفيهي فيها، وهي لئن كانت تنتمي بشكل أو بآخر إلى أدب الرحلات إضافة إلى بعدها القصصي بل الحكائي "الأسطوري التاريخي" أيضاً، فإنها وحتى من خلال وصفها رحلات خيالية تضمها أحداثها، تغوص في عالم يبدو شديد الدنو من تلك العوالم التي غالبا ما فتن كبار مبدعي آداب المدن الفاضلة من بيكون إلى توماس مور إلى الفارابي وصولاً إلى توماسو كامبانيلا وعشرات غيرهم بالحديث عنها وتجوالهم فيها، ليقدموا انطلاقاً منها نصوصاً فلسفية تتحدث عن الحكم والحرية والدولة وموقع الإنسان – المواطن في المجتمع.

وفي هذا السياق ثمة في "أميرة بابل" عناصر كثيرة تدفع إلى التساؤل أكثر وأكثر عن سر موقف كاتبها منها وتفضيله أن تصدر خالية من اسم المؤلف والناشر في وقت واحد، ومهما يكن من الأمر هنا لا بد من أن نترك هذا البعد في الحكاية جانباً لنتحدث عن القصة نفسها وكيف تبدأ وإلام تنتهي.

صفحات فولتيرية للتغزل ببابل

تبدأ القصة في مدينة بابل في بلاد ما بين النهرين ولكن في زمن غير محدد تماماً، بل لنقل أن ليس لها أصلاً زمن بحث تبدو عابرة للأزمنة تماماً، كما سنجد لاحقاً أنها عابرة للأمكنة أيضاً، وفي بابل ملك حكيم وعاقل يتبع سبل الحضارة والعقل إلى درجة أنه إذ شبّت ابنته الحسناء عن الطوق وحان وقت تزويجها وجد، لاتزانها وجمالها وأخلاقها وفطنتها، أن من يستحقها لا بد من أن يكون كبيراً من كبار العالم، وهكذا يعلن في ذلك العالم أن الملك سيقدم ابنته عروساً لمن يتمكن في حفل ضخم واحتفال مهيب أن يشد قوساً يعجز عتلة الأبطال عن التعامل معه. وبالفعل يتطلع كثر من حكام العالم بمن فيهم فرعون مصر وأمير السكيتس وخان التتار الكبير إلى خوض المباريات التي ستقام في بابل وسط استعدادات ينفق الكاتب صفحات عدة لوصف معالمها وأدوات الضيافة فيها والترتيبات المعدة من أجلها، كي تليق بالضيوف الذين يتطلع كل واحد منهم إلى مصاهرة ملك بابل والفوز بفؤاد تحفته الكبرى: ابنته فورنوسانتي، لكن القوم إذ يصلون وتبدأ الاحتفالات لن يلقوا بالاً أول الأمر إلى متبار قرر أن يخوض المنافسة معهم لا يعرفون عنه سوى أن اسمه آمازان، وتقول الحكاية أنه آت من البلاد المسماة غانغاريدس حيث ربي وسط عالم الرعاة، إضافة إلى وسامته المطلقة وأدبه الجم ولطف معشره وسلوكه، وحين يتساءل الحضور عن كنه البلد الذي أتى منه يخبرون أنه منطقة "يوتوبية" يمكن اعتبارها نموذجاً في العدل والسلام والمساواة بين البشر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفائز يغادر بسرعة

وبالطبع، تبعاً لمنطق الحكاية سيكون آمازان الوحيد الذي يتمكن من شد السهم، ناهيك بتمكنه في خضم ذلك من لفت نظر الأميرة مما يخلق تلك الكيمياء الغرامية منذ اللحظة الأولى بينهما، ويعزز ذلك تقدم آمازان من الأميرة مقدماً لها طيراً كان حمله معه هدية لها.

ولكن هنا وفي اللحظة التي كان سيعلن فيها فوز آمازان يُستدعى هذا على وجه السرعة من قبل رسل يخبرونه بموت أبيه الذي سنعرف هنا أنه ملك غانغاريدس نفسه، وأن على الأمير التوجه لتسيير أمور الدولة التي ورث حكمها.

يرحل آمازان إذاً تاركاً فؤاده وديعة عند محبوبته مؤملاً إياها بالعودة السريعة للتفرغ لشؤون القلب والهوى، لكنه وهو في عاصمة ملكه سرعان ما يوافيه طيره الأمين ليخبره أنه قد فاجأ فورموسانتي بين ذراعي فرعون مصر. يجن جنون الفتى ويتخلى عن كل شيء ليهيم في البلاد ناعياً حبه غاضباً على حبيبته، أما هي فإنها إذ تعلم بما حدث تتطلع إلى أن توضح سوء التفاهم بنفسها، وهكذا ترتب موكباً يرافقها وتبدأ بملاحقة الحبيب وهي مدركة أن ما من أحد سواها يمكنه أن يوضح له حقيقة ما جرى من أن الملك المصري صارع عليها الملوك الآخرين واعتبرها من حقه، لكنها صدته بقوة حين أمسك بها، وكان ذلك في اللحظة نفسها التي رآها فيها الطير وكأنها تستجيب لاحتضان الملك. تلك هي قصة الأميرة ونحن نعرفها كقراء، ولكن المهم أن تحكيها بنفسها لآمازان.

جولتان حول العالم

ولكن أين هو آمازان؟ إنه في كل مكان وفي اللامكان، فهي ما إن تصل إلى بلد قيل لها إنه ارتحل إليه حتى تكتشف أنه غادره مباشرة قبل وصولها، وهكذا من خلال مطاردتها حبيبها تدور الأميرة من بلد إلى آخر متجولة في الحقيقة بين نظام حكم وآخر، مما يشكل للكاتب فرصة بديعة كي يصف لقرائه أنظمة الحكم في العالم المعاصر له، حتى وإن كانت الحكاية قد بدأت في أزمنة أقدم بكثير، فهذا الخروج عن التاريخ ليست له أهميته هنا، وبالنسبة إلى فولتير فما يهم هو النقد المفصل، السياسي والفكري والاجتماعي، الذي يوجهه إلى أنظمة حكم فاسدة، بخاصة في تلك المناطق التي سوف يسهب في الحديث عن السوء الذي ينتج فيها من الربط بين الدين والسياسة، وهكذا مثلاً نراه حين تصل الأميرة إلى إسبانيا التي كان آمازان قد غادرها للتو، يتوقف مطولاً عند محاكم التفتيش الكنسيّة والظلم الذي تمارسه باسم الدين، لا سيما من خلال تحالفها مع البلاط وكمّها الأفواه المطالبة بالتقدم والحرية.

ولئن كان الكاتب يعطي لتلك المحاكم حيزاً عريضاً من كتابه، فما هذا إلا لأنه كان شديد المعاناة منها ولا يمكنه أن يغفر لها إساءتها إلى حرية الفكر وممارساتها المتناقضة تماماً مع مبادئ التسامح التي لم يتوقف عن المناداة بها.

"المستبد العادل"

لكن محاكم التفتيش والسلطة الباباوية لم تكونا كل الأنظمة التي يتوقف كاتبنا عندها، كذلك فإن أنظمة الحكم لم تكن كلها تعسفية في رأيه، فالصينيون مثلاً حكماء ومتطورون حضارياً في مقابل التتار الذين يتميزون بالعنف والقسوة، أما كاترين الثانية قيصرة روسيا فراقية وعادلة في حكمها، كما كان سلفها بطرس الأكبر في زمنه، علماً بأن الاثنين كانا لحقبة صديقي فولتير ومن داعميه ورعاته.

وكذلك كانت حال ملوك الشمال في السويد والنروج وهولندا من الذي صورهم فولتير عادلين حتى حين بدوا له مستبدين، وربما يكون هو من ابتكر لتمجيدهم مصطلح "المستبد العادل" تحديداً من أجلهم، وفي الحالات كافة من الواضح هنا، وبصرف النظر عما ستنتهي إليه القصة التي تبدو من غير نهاية على قصرها، أن ما همّ كاتبها لم يكن مجريات الحكاية الغرامية على طرافتها، ولا حتى ذلك الموقف الرصين من كفاح المرأة في سبيل حبها على الضد من رعونة موقف الرجل (ففي النهاية لا يبدي الكاتب تعاطفاً حقيقياً مع بطله)، ما همّه كانت تلك المحصلة التي صور بها أحوال العالم في زمنه وكيف يمكن إصلاح تلك الأحوال، إصلاحاً لم يكن ينظر إليه نظرة اليائس بل نظرة المصر عليه على الرغم من كل شيء، تماماً كحال الأميرة التي أصرت على الحصول على حبيبها على الرغم من كل شيء!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة