Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تشيزاري بافيزي يدون يوميات الوحدة والحب المستحيل

الشاعر الإيطالي يكشف أسرار الكتابة ويرسم أجواء ما قبل الإنتحار

الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي (أ.ف.ب)

سيزار بافيز أو تشيزاري بافيزي، أحد أكثر الكتاب والشعراء الإيطاليين (1908-1950) الذين حيكت حولهم قصص وأجريت دراسات، وأعدت أفلام عن حياتهم القصيرة الصاخبة والتي وضع لها صاحبها حداً، وهو لما يزل في الـ 42.

تشيزاري بافيزي شاعر وكاتب قصص وروائي وكاتب سيناريو لأفلام عدة، ومترجم للأدب الأميركي (ملفيل، دوس باسوس، ويليام فوكنر، شارلز ديكنز، وغيرهم). من مواليد سان ستيفانو عام 1908، ولما شب انخرط في صفوف الحزب الوطني الفاشي (1932-1935) بدافع من أهله المحافظين، إلا أنه لم يلبث أن طرد من الحزب لانتمائه سراً إلى فرق معادية للفاشية. وبعد الحرب العالمية الثانية انتمى بافيزي إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، ومضى يتنقل بين روما وميلانو، حيث عمل في التعليم والصحافة النقدية، وأصدر العديد من المجموعات القصصية والروايات والأعمال الشعرية.

وفي العام 1950، يوم 27 أغسطس (آب)، قرر بافيزي أن يضع حداً لحياته في أعقاب أزمة عاطفية حادة نتيجة انفصال حبيبته الأميركية كونستانس داولينغ عنه لدواع لا ينكرها في يومياته، "عجزي الجنسي ورفضي الالتزام السياسي" (ص:500).

15 عاماً من التدوين

الكتاب الصادر حديثاً عن دار منشورات الجمل بعنوان "مهنة العيش" لتشيزاري بافيزي، وهو كناية عن يوميات، كان المؤلف قد ثابر على تدوينها طوال 15 عاماً (1935-1950)، وصدرت بعد مماته عام 1952. والمفيد في الأمر أن هذه الترجمة إلى العربية التي أعدها الكاتب والمترجم صالح الأشمر عن الفرنسية، هي الثانية بعد ترجمة عباس المفرجي للكتاب نفسه والعنوان عينه. ولئن كنت أفترض أن الكاتب الإيطالي، موضوع المقالة، بافيزي بات معروفاً لدى القراء العرب، وأن كتاب "مهنة العيش" بدوره سبق لهم أن تعرفوا إليه بصورة عامة وإجمالية، فإن من الصعب استنفاد أفكار بافيزي النقدية والفلسفية والأسلوبية التي انطوت عليها اليوميات، بل فاضت بها، إذ اختلطت الوقائع لديه بالأفكار المقتبسة بالآراء الجمالية والفلسفية المستخلصة من تجاربه اليومية ومن تمرسه الطويل في الكتابة الشعرية، ومن ميله المتشائم الناجم عن يتم مبكر ووحدة قاسية.

لكن اللافت الأول في هذه اليوميات التي خطها صاحبها، بدءاً من العام 1935 وانتهاء بأواخر أيام حياته، أي عام 1950، خلوها من أي إشارة إلى الحرب وكأنها لم تكن، علماً أنه كان لتشيزاري دور ثانوي فيها، بل سعى جاهداً إلى التهرب من خوضها شخصياً والتحول إلى معاداة الفاشية، على الرغم من المنفى الذي ألجئ إليه لأربع سنوات في جزيرة كالابري.

وعلى ما تبين للقراء فإن المسائل الشخصية المحضة وتأملاته في صعوبات الكتابة والتحولات التي طرأت على أسلوبه عبر الزمن، وفي معنى الأدب وقيمة أعماله الأدبية وقيمة الأدب بحد ذاته، هي التي طغت على ما عداها من المواضيع بما ينسجم مع الطابع الحميم لليوميات، بصيغتها التي ارتأى بافيزي تقديمها بها.

الشعر والإلهام

في مستهل تدوينه لهذه اليوميات، أي عام 1935، استدرك بافيزي فارط أمره، إذ تنبه إلى أنه يكتب قصائد محلية موضوعها هو الإعجاب بمسقط رأسه، وتلك هنة لا يرتضيها، إذ يقول في هذا الشأن: "أمن الممكن أن يضفي الشاعر قيمة على قصيدته لمجرد نظمها بمحض الإلهام؟"، وبمعنى آخر إن لم تكن الطبيعة مصدر إلهام الشاعر الوحيد فكيف يتسنى له خلق عمل متناسق، إن كان هذا العمل مؤلفاً من قصائد غير قياسية؟ ولعل الشاعر في تساؤله الإنكاري هذا قصد إلى تبيين لزوم قيام الشعر أو العمل الأدبي أياً يكن، لا على الإلهام وإنما على رؤية تشاؤمية إلى العالم، وبالتالي فقد خلص إلى أن مصدر الاتساق في العمل ينبغي أن يكون ماثلاً في ذاتية الشاعر وفي طباعه وحاله النفسية، وهذا ما يتسنى للقارئ ملاحظته في المدونات العائدة للعام 1935 وعلى مدى الأيام والأشهر، مناقشاً مسألة الإلهام وأساليب الشعر الغنائي، وبناء العالم في القصائد والأساطير الأصلية المبثوثة في الشعر اليوناني القديم والأساطير المختلقة أو الخاصة، وهي أقرب ما تكون بأسطورة الذات، يستخلقها الشاعر أو الأديب لنفسه، على نحو ما بيّنه شارل موران لاحقاً، ورولان بارت من ثم.  

ولو تأمل القارئ بناء على منطلق الشاعر السالف، لوجد أن الوحدة واليأس هما نواة العمل الأدبي الذي أعرض له ههنا، عنيت به "مهنة العيش"، من دون أن يعني هذا الأمر أن يتخلى الشخص (الشاعر) عن مراجعة ذاته والتأمل في حياته ومنجزاته، ولا سيما شعره، وفي هذا يجد الشاعر أنه أخطأ، وبالتالي وجب عليه معاودة النظر في بناء القصيدة والسرد الشعري وتنويع الضمير الناظم للحكي فيها، ليكون من خارج الحكي باعتبار أن الشخصيات والأحداث والحكايات (في الشعر) إن هي إلا وسائل للتعبير عن ذات الشاعر. وبموجز العبارة، بدا تشيزاري بافيزي في يومياته هذه شديد الانهمام بفنه وفي تجويد عبارته وتجاوز أخطائه، ذلك أن "حكايات الفنان هي التجاوز المتتالي للتقنية المستخدمة في العمل السابق، والنقد الذاتي وسيلة الفنان لتجاوز نفسه، والفنان الذي لا يحلل ولا يدمر تقنيته باستمرار هو شخص فقير" (ص:217)

بل يمكن القول إن شبكة من المسائل والقيم والآراء والحالات يسقطها الكاتب المدون، تشيزاري، على يومياته، بحيث تنبئ عن رؤيته وعالمه اللذين لم يتسن له كشفهما في سائر أعماله التي تراوحت بين المجموعات القصصية والروايات والشعر الذي عُرف به، على الرغم من نصيبه الأقل بين هذه الأنواع.

المعاناة والألم 

ومن تلك المسائل المعاناة والألم اللذين يراهما بافيزي في كل شيء، لا سيما في العلاقة بالمحبوب وعلاقة العاشق بامرأته المعشوقة، وبالتالي فإن رغبة المحب في استمرار العلاقة بالمحبوب مدى الحياة تجد تعليلها في أن "الحياة ألم والحب مخدر، ومن يريد أن يستفيق في أثناء عملية جراحية يخضع لها؟" (ص:116) ولو أضاف الشخص إلى هذا الاعتبار، رأي بافيزي باستحالة ثبات المرأة على حال الوفاء لرجل واحد، واستناد طبيعتها إلى العهر، بحسبه، لاكتملت صورة وحدته وبات مسوغاً لديه الانتحار الذي لم يكف عن تناوله في تعليقاته حتى الأخيرة منها، قبل انتحاره عشية 27 أغسطس من العام 1950.

"في الحياة، يحدث لكل رجل أن يلتقي عاهرة، وقلما يلتقي امرأة محبة وعفيفة، 99 بالمئة منهن عاهرات" (ص:125)

وإن صحت عشوائية الاختيارات التي أجريها من الكتاب الضخم (505 صفحات)، فإنها لمجرد الإشارة إلى ثراء المواضيع وغزارة التعليقات وعمقها في الكتاب، على الرغم من تواتر بعض المسائل، كما أشرت، ومنها مسألة المعاناة والخطيئة، "هي أن تتصرف ضد ما هو مألوف لديك".ص:150)، والخيال البشري "الأفقر بكثير من الواقع". ص:170)، وأنوع النثر وأساليب القصة بين بلزاك وتولستوي ودوستويفسكي والحرب وأثرها المدمر على تكوين نفسية الإنسان.

ولكن في اليوميات أيضاً بسط لآراء العشرات بل المئات من المفكرين والأدباء والفلاسفة والفنانين الذن قرأ لهم تشيزاري بافيزي، وتأثر بأقوالهم ومضى يناقشهم فيها ويستخلص منها ما يوافق رؤيته المتشائمة والمرتابة، من فيكو ونيتشه وإدغار لي ماسترز وجيرترود شتاين ومارسيل بروست وأوسكار وايلد وجيوفاني فيرغا وميريميه ولاندولفي وتوماس هاردي وكيركغارد وإبيكتاتوس وفيليس بالبو، وغيرهم كثير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والشيق في الأمر أن الكاتب لا ينأى يضيف جديداً إلى مواضيعه ومسائله وانتقاده الأدبي الذاتي والغيري، طبعاً من دون أن يهمل الإطلالة على غلالة التشاؤم التي تغلف اليوميات، ومن تلك الإضافات آراؤه في السينما التي "تعلمنا التمييز بين البصري والكلمة المنطوقة اللذين كان المسرح يخلط بينهما" (ص:347). ولا ينسى في سياق عودته إلى نقده الذاتي لعمله الشعري "عمل متعب"، التنبيه إلى عمل العقل الباطن الموجه لكلمات الكاتب أو الشاعر. "حياة العقل الباطن. العمل الذي ننجح في إنجازه هو شيء آخر دائماً. نتقدم من شيء إلى شيء، وتبقى الأنا العميقة سليمة دائماً" (ص:364)

إذاً يعود بافيزي خلال السنوات الأخيرة من يومياته إلى تعريف الشعر باعتباره "حكاية الخرافة" (ص:327) والأسطورة، ويكشف عن مبدأ النضج لدى الكُتاب في مسيرتهم الأدبية الطويلة، مشفوعاً بأمثلة عن كبار كتاب الدراما مثل شكسبير وغيره، ثم يستأنف انتقاد المسيحية لإنكارها اللذة وتبجيلها الألم، ولا يلبث أن يعترف بسعيه إلى الله عبر الكتابة: "لماذا عندما تتمكن من الكتابة عن الله وعن الفرح البائس لتلك الأمسية من كانون الأول في تريفيزي تشعر بالدهشة والسعادة، مثل من يصل إلى بلاد جديدة؟" (ص:434)

بعبارة موجزة، يمكن للقراء العرب، لا سيما المهتمين بتتبع آراء الكتاب والشعراء الإيطاليين الحديثين والمعاصرين، اعتبار يوميات تشيزاري بافيزي بعنوان "مهنة العيش" عينة نموذجية على دور الثقافة الموسوعية في إثراء كتابة الأديب وإعانته على التعبير الدقيق عن تجربته الإنسانية بكل أبعادها. وكلمة شكر أخيرة تقال للمترجم الكاتب صالح الأشمر الذي كابد لنقل العمل إلى العربية، متجاوزاً كثيراً من مصاعب اللغة والمصطلحات والأسماء ومستويات الأسلوب التي صيغت بها اليوميات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة