لم يعد الأمر يقتصر على الليرة التركية التي تواصل الانهيار، فقد انضم المواطن التركي إلى طابور الخاسرين ليتصدرا القائمة الطويلة لسلسلة المتضررين من استمرار تدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السياسات المالية والنقدية للبلاد. وبعد انهيار سعر الليرة التركية إلى مستويات سحيقة غير مسبوقة، تعهد الرئيس التركي باتخاذ إجراءات لمواجهة هذا التسارع في انهيار قيمة العملة.
ووعد أردوغان الموظفين بقروض في إطار مواجهة انهيار سعر الليرة، وأعلن خفض ضريبة الشركات واحداً في المئة. وفي تعاملاتها الأخيرة، سجل الدولار الأميركي مستوى غير مسبوق حيث ارتفع إلى مستوى 17.5 ليرة، ووفق البيانات التي أعدتها "اندبندنت عربية"، فقد خسرت الليرة التركية نحو 60 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي خلال العام الحالي، مسجلة أسوأ عملة مقابل الدولار خلال العام الحالي.
وقال الرئيس التركي، إنه خفض التضخم في بلاده إلى حوالى 4 في المئة من قبل، وإنه سيفعل ذلك مرة أخرى عما قريب، بينما بلغ معدل التضخم السنوي 21 في المئة، بسبب مسعى تبناه لخفض كبير في أسعار الفائدة. وكرر خلال لقاء مع شبان أفارقة، وجهة نظره بأن أسعار الفائدة تسبب التضخم، مضيفاً أنه يأمل في أن ينخفض التضخم قريباً، وأضاف، "عاجلاً أم آجلاً، فمثلما خفضنا التضخم إلى 4 في المئة، عندما وصلت إلى السلطة، سنخفضه مرة أخرى، وسنجعله ينخفض مرة أخرى. لن أسمح لأسعار الفائدة بسحق المواطنين".
مطالب بإعادة النظر في السياسة النقدية
ودفع التراجع المتواصل لقيمة الليرة التركية، التجار الذين يتوخون عادة الحذر، إلى الخروج عن صمتهم لمطالبة أردوغان بإعادة النظر في سياسته النقدية، وإزاء تصميم الرئيس التركي على مواصلة الدعوة إلى خفض أسعار الفائدة، دعته جمعية رجال الأعمال الأتراك التي تمثل نحو 85 في المئة من شركات التصدير إلى تصحيح السياسة النقدية التي تدفع الاقتصاد والبلد نحو الهاوية.
ووفق دراسة أعدها مركز "مالكوم كير - كارنيغي"، أشار مصطفى كوتلاي، المحاضر البارز في قسم الدراسات السياسية في جامعة "سيتي" في لندن، إلى أن الرئيس التركي سبق أن صرح أكثر من مرة بأن معدل التضخم المرتفع هو نتيجة أسعار الفائدة العالية، ما يخالف النظريات الاقتصادية السائدة التي ترى أن العلاقة هي عكس ذلك، وتسعى الحكومة، من خلال سلسلة من التخفيضات لمعدلات الفائدة، إلى تحفيز الاستثمار المحلي ودعم القطاعات الموجهة نحو التصدير، كذلك، تتوقع أن يفضي تراجع قيمة الليرة التركية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز النمو الاقتصادي.
لكن قرار خفض أسعار الفائدة سيفاقم على الأرجح معدل التضخم، وفي وقت تتجه أسواق ناشئة عدة إلى تقييد سياساتها النقدية، أدت التخفيضات الإضافية لأسعار الفائدة، مصحوبة بالتهديدات الجيوسياسية، إلى إضعاف العملة المحلية، ونظراً إلى أن الاقتصاد التركي يعتمد على السلع المستوردة في قطاعات عدة، مثل الطاقة والمواد الخام والسلع الوسيطة، يسهم تدهور العملة في زيادة الضغط على أسعار المستهلك، ووفقاً للأرقام الرسمية، يبلغ معدل التضخم السنوي حالياً قرابة 20 في المئة، كذلك، غالب الظن أن يفاقم ارتفاع أسعار المستهلك سوء توزيع المداخيل.
وتتمثل الاستراتيجية الملائمة لتركيا على المدى الطويل في تبني مجموعة متناسقة من السياسات العامة الرامية إلى تحسين قدرة البلاد الإنتاجية وأدائها التصديري، بغية الحفاظ على استقرار الأسعار وضبط العجز في الحساب الجاري، ولا شك أن السياق السياسي يؤثر في أي سياسة اقتصادية، لذا لا بد من التركيز على ثلاثة مقومات: تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، وبناء بيئة مؤسسية مواتية على المستويَين السياسي والاقتصادي، وصياغة سياسة تصنيعية يُعتد بها.
عدو أسعار الفائدة المرتفعة
وأشارت غونول تول، مديرة برنامج الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إلى أن الرئيس التركي يصف نفسه بأنه "عدو أسعار الفائدة المرتفعة"، فهو يريد خفض تكاليف الاقتراض، لكن هذا الأمر وحده لا يجعله سياسياً غير تقليدي وفقاً للمعايير السائدة، بل لديه أفكار أخرى تثير قلق خبراء الاقتصاد، فهو يتبنى نظرية اقتصادية غير تقليدية تقضي بأن أسعار الفائدة المرتفعة تسبب التضخم، لذا، قرر تطبيق رؤيته من خلال إجراء تخفيضات إضافية على أسعار الفائدة الأسبوع الماضي، فهوت الليرة التركية إلى مستويات متدنية قياسية، وحدث انهيار العملة المحلية بعد عام صعب خسرت فيه 45 في المئة من قيمتها، ولا ينوي أردوغان التنازل عن خفض أسعار الفائدة، على الرغم من الانتقادات التي توجهها إليه أحزاب المعارضة والاحتجاجات التي تشهدها شوارع أنقرة وإسطنبول مطالبة باستقالة الحكومة.
يرى الرئيس التركي أن المقاربة التي يعتمدها هي الأكثر منطقية، ويمكن تفسير نفوره من أسعار الفائدة المرتفعة جزئياً انطلاقاً من خلفيته الإسلامية، إذ يعتبر أن الربا محرم في الإسلام، لكن رؤيته الاقتصادية نابعة أيضاً من خبرته كرجل أعمال، فهو يعتبر أن أسعار الفائدة المنخفضة ضرورية لتحفيز النمو الاقتصادي واستحداث فرص العمل وجذب الاستثمارات الأجنبية، مجادلاً أن تكاليف الاقتراض المرتفعة تؤدي إلى تباطؤ العجلة الاقتصادية وارتفاع الأسعار لأن الشركات تستجيب لرفع تكلفة الاقتراض من خلال زيادة أسعار سلعها. من هذا المنطلق، يعتقد أردوغان أن تخفيض معدلات الفائدة سيعزز الاستثمار والإنتاج والتوظيف، وأن ضعف الليرة سيعطي زخماً للصادرات التركية، ويقلص الواردات، ويقوم العجز الحالي في الحساب الجاري، ما سيؤدي إلى خفض معدل التضخم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هنا تكمن المشكلة، إذ يحذر الخبراء الاقتصاديون من أن خفض أسعار الفائدة سيتسبب في رفع معدل التضخم الذي هو أعلى بأربع مرات من المستوى الرسمي المستهدف، وبتآكل إيرادات المواطنين الأتراك ومدخراتهم، من دون أن يسهم في تعزيز الإنتاج، فكثيرون من المنتجين يعتمدون على الطاقة والسلع المستوردة، ما يعني أن تكاليف مدخلات الإنتاج التي يتحملونها سترتفع أيضاً، كذلك، يعتبر منطق جذب الاستثمارات نتيجة لضعف الليرة إشكالياً لأن أردوغان يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير لاستقطاب المستثمرين الأجانب الذين لا تجذبهم "تركيا الجديدة" التي انهارت مؤسساتها وتم فيها تقويض دولة القانون، في وقت تحدد نزوات رجل واحد كل شيء في البلاد، بما في ذلك السياسة النقدية.
لوبي أسعار الفائدة
وقال أيكان إردمير، مدير أول لبرنامج تركيا في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن، إن الرئيس التركي كان حاسماً في محاربته أسعار الفائدة العالية، التي ندد بها في عام 2018 ووصفها بأنها "أداة استغلال" شبيهة بـ"تجارة الهيروين"، وبأنها "مصدر كل الشرور". ولم تقتصر حملة أردوغان هذه على مجرد إطلاق تصريحات شديدة اللهجة، بل بلغت حد ممارسة ضغوط حادة على المصرف المركزي التركي ولجنة السياسة النقدية التابعة له لخفض معدلات الفائدة.
علاوة على ذلك، لا تكشف الرؤية الاقتصادية غير التقليدية للرئيس التركي عن قناعاته الأيديولوجية الراسخة وحسب، بل عن ديناميكيات غريبة في النظام الرأسمالي التركي القائم على المحسوبيات، من الناحية الأيديولوجية، لا تقتصر رؤية أردوغان على اعتقاد المسلمين بأن الربا من الأمور المحرمة في الشرع، بل يتبنى أيضاً نظرية المؤامرة النابعة من مواقفه المعادية للسامية، فهو عبر مراراً عن معارضة ما وصفه بـ"لوبي أسعار الفائدة"، في إشارة إلى ما يعتبره مجموعة سرية من الممولين اليهود الذين يسعون إلى تدمير الاقتصاد التركي للسيطرة على البلاد.
أما من الناحية غير الأيديولوجية، فتسهم شبكات المحسوبيات القوية في دعم الائتلاف الحاكم، الذي يعول على قدرة أردوغان على تضخيم فقاعة العقارات وإدامتها، نظراً إلى أنها تشكل ركيزة نظامه المعقد لتمويل مشروعه السياسي وتوزيع الغنائم، ويتطلب هذا النظام الهش تحفيزاً نقدياً متواصلاً لتعزيز الاستهلاك وإبقاء رجال الأعمال المقربين من الرئيس صامدين مالياً.
وعلى الرغم من أن هذا المزيج الخطر من الأيديولوجيا والسعي إلى تأمين المصالح المادية قد أدى إلى تراجع غير مسبوق في قيمة الليرة التركية وتسجيل معدل التضخم رقماً مزدوجاً، يبدو أن أردوغان غير مستعد للتخلي عن مؤامراته أو عن دائرة أتباعه.
ضغوط مستمرة لخفض أسعار الفائدة
وأشار هنري باركي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "ليهاي"، إلى أنه لطالما كان أردوغان مقتنعاً بأن التضخم في بلاده ناجم عن معدلات الفائدة المرتفعة التي تزيد تكلفة الاقتراض والتصنيع، فقد وضع حداً لاستقلالية المصرف المركزي التركي ومارس ضغوطاً لخفض معدلات الفائدة في سياسته النقدية، ما يتناقض مع المبادئ الاقتصادية السائدة، ويعتقد بعض المراقبين أن معارضته معدلات الفائدة المرتفعة نابعة من معتقداته الإسلامية الراسخة.
باختصار، يتخذ أردوغان هذه الإجراءات في الوقت الراهن ترقباً لانتخابات يونيو (حزيران) 2023، ويقلقه الانكماش المصاحِب لارتفاع أسعار الفائدة الذي قد يهدد أمراً هو بأمس الحاجة إليه، أي اقتصاد مزدهر قادر على استحداث فرص عمل جديدة، ولقد أرخى وباء "كوفيد-19" بظلاله على تركيا، تماماً كما فعل في سائر الدول، إلا أن الاقتصاد التركي سرعان ما حقق تعافياً قوياً بنسبة 21 في المئة تقريباً في الربع الثاني من عام 2021، وكان من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى تسجيل نمو بنسبة 8.5 في المئة على أساس سنوي، ومع ذلك، يتوقع معظم الخبراء الاقتصاديين عودة إلى النمو الخجول في عام 2022.
ولا يزال أردوغان في السلطة دونما انقطاع منذ عام 2003، وهي المرة الأولى التي يواجه مستويات مماثلة من التضخم، وهو يفتقر إلى المعرفة والخبرة الضروريتين للتعامل مع هذه الأزمة، ويعوزه الصبر، وهو على قناعة تامة بأنه محق وأن معرفته تفوق بكثير معرفة غيره. علاوة على ذلك، أحاط نفسه بأشخاص خانعين لا يجرؤون على معارضته، ويبدو ذلك واضحاً في تغطية الصحف الموالية به، والتي تنقل ببساطة كل ما يقوله ويؤمن به، إذاً، نجح أردوغان في إخضاع مؤسسات الدولة لإرادته.
نظرية مختلفة عما هو سائد
في السياق ذاته، يرى سينان أولغن، وهو باحث زائر في مركز "كارنيغي"، أوروبا، في بروكسل، أن الرئيس التركي تبنى مع فريقه من المستشارين الاقتصاديين نظرية اقتصادية مختلفة تماماً عن السائد، فهم يتوقعون أن يؤدي السعي إلى تحقيق معدلات فائدة حقيقية سلبية، وما يرافقه من تراجع في قيمة العملة المحلية، إلى تحسين قدرة تركيا التنافسية في الساحة الدولية من خلال زيادة الصادرات التركية وبالتالي تعزيز الإنتاج وفرص العمل والقيمة المضافة، وهذا الانتعاش الاقتصادي يصب في خدمة الحكومة إذ ستزداد شعبيتها تمهيداً للانتخابات الرئاسية والتشريعية الحاسمة المزمع إجراؤها منتصف عام 2023.
لكن ثمة عيوباً كثيرة تشوب هذه النظرية، أولاً، يُرجح أن تلغي وتيرة التضخم المتسارعة الناجمة عن هذه العملية أي تحسن في القدرة التنافسية على المستوى الدولي في المدى المتوسط، والأهم أن معدلات الفائدة السلبية ستدفع الناس إلى تحويل المدخرات من الليرة التركية إلى العملات الأجنبية، إذ ما من حافز يدفع المودعين المحليين حالياً إلى إبقاء مدخراتهم المصرفية بالليرة التركية، بل على العكس، ستواصل قيمة مدخراتهم تراجعها طالما أن معدلات الفائدة الاسمية أدنى من معدل التضخم، لذا، نتيجة لهذا التفاوت، سيستمر الطلب على العملات الأجنبية، ما سيتسبب في انخفاض قيمة الليرة التركية وارتفاع معدل التضخم عموماً.
ثانياً، أدى التدهور السريع في قيمة العملة المحلية إلى إفقار المواطنين الأتراك، على وقع تهاوي قدرتهم الشرائية بشكل ملحوظ. كذلك، تراجع الدخل السنوي للفرد الواحد بالدولار الأميركي في تركيا إلى نحو 7000 دولار، يشار إلى أن دخل الفرد بالدولار الأميركي يشهد انخفاضاً سنوياً منذ عام 2013 الذي بلغ فيه نمو الاقتصاد التركي ذروته. إذاً، غالب الظن أن تؤدي هذه التجربة الاقتصادية غير المدروسة إلى انكماش مصحوب بتراجع مطرد في شعبية القيادة السياسية الحالية.