Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روسيا تخرج من معاهدة السماوات المفتوحة... بين المقدمات والنتائج

هل تكون منظومة الأقمار الصناعية بديلاً مناسباً يسهم في تجاوز موسكو "مخططات واشنطن"؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (رويترز)

بعد جهود مُضنية لم تفلح معها روسيا في إثناء الولايات المتحدة عن قرارها بشأن الانسحاب من معاهدة "السماوات المفتوحة"، أعلنت السلطات الروسية عن قرارها بالانسحاب الرسمي من هذه المعاهدة اعتباراً من 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وكانت موسكو قد استبقت هذا القرار بإقرار مجلس الدوما في 19 مايو (أيار) الماضي لقانون يقضي بالانسحاب من المعاهدة، أقره مجلس الاتحاد في 7 يونيو (حزيران)، وهو ما صدق عليه الرئيس فلاديمير بوتين في وقت لاحق من ذلك التاريخ لينهي بذلك مرحلة من التعاون لم تستمر أكثر من 20 عاماً بعد توقيع المعاهدة في عام 1992، ودخولها حيز التنفيذ في 2002. وكانت موسكو قد توصلت في وقت سابق مع الولايات المتحدة و35 دولة أخرى إلى توقيع هذه المعاهدة التي تمنح الدول المشاركة فيها حقوق التحليق فوق أراضي بعضها البعض من أجل التفتيش والسيطرة على الأنشطة العسكرية، ومنها تحركات القوات، ونشر القاذفات، وبناء المنشآت العسكرية، وغير ذلك من الفعاليات التي يمكن بموجبها توفير تدابير بناء الثقة في أوروبا بعد توقيع كل من الرئيسين السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، والأميركي جورج بوش (الأب) في مالطة عن انتهاء الحرب الباردة في ديسمبر 1989. 

وقالت المصادر، إن المعاهدة كانت توفر أيضاً تجميع مختلف المعلومات ومعالجتها، لتكون في متناول كل الدول الأعضاء في إطار ما سبق وأعرب عنه من أفكار رؤساء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا في جنيف في 21 يوليو (تموز) 1955، وهي الأفكار التي لم يتسنَّ المُضي قُدماً في العمل من أجل وضعها حيز التنفيذ لأسباب تعود إلى عدم التزام الولايات المتحدة بها، وتورطها في محاولات التجسس ضد الاتحاد السوفياتي وهو ما رد عليه الاتحاد السوفياتي في حينه بإسقاطه طائرة الاستطلاع الأميركية U-2 في سماء منطقة الأورال السوفياتية في مايو 1960، وما أعقب ذلك من إعلان الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف عن وقف المفاوضات حول هذا الموضوع. 

ولم تعد الأطراف المعنية إلى هذه القضية إلا بعد الإعلان عن انتهاء الحرب الباردة، حيث جرى التوصل إلى توقيع المعاهدة بالأحرف الأولى في فيينا في 21 مارس (آذار) 1992 من جانب 34 دولة من الدول أعضاء مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، التي يبلغ عدد أعضائها 57 دولة. وكانت السلطات الروسية كشفت في أعقاب إعلان واشنطن عن انسحابها من المعاهدة أن الولايات المتحدة لن تخسر شيئاً بإعلانها عن مثل هذا القرار، نظراً لأنها سوف تستحوذ على كل ما تحصل عليها البلدان الأعضاء من حلفائها في الناتو والمنظمات الأخرى من معلومات، على النقيض من روسيا. وذلك ما تضعه موسكو في الاعتبار وما حاول قسطنطين غافريلوف رئيس وفد روسيا في محادثات فيينا حول الأمن العسكري ومراقبة التسلح، التقليل من أهميته في تصريحاته التي كشف فيها عن "أن بلاده تملك مجموعة من الأقمار الصناعية يمكنها رصد تحركات القوات العسكرية في أوروبا والولايات المتحدة عبر الأطلسي". 

ومضى المسؤول الروسي ليؤكد "أن هذه الأقمار يمكن أن تكون بديلاً عن معاهدة السماوات المفتوحة، التي ستخرج روسيا منها". ونقلت وكالة أنباء "تاس" عن قسطنطين غافريلوف، ما قاله حول "أن مصير معاهدة السماء المفتوحة اللاحق بات ضمن اختصاص الدول الأعضاء المتبقية فيها، على الرغم من أن خروج روسيا والولايات المتحدة منها سيقلص مدى شمولها بشكل كبير". غير أن هناك من التصريحات ما يبدو على غير اتفاق مع ما نقلته وكالة "تاس" عن غافريلوف، ومنها ما نقلته صحيفة "كوميرسانت" الروسية عنه حول "أن أداة مماثلة أو مشابهة للسيطرة على الأسلحة التقليدية، في رأينا، سيكون من الصعب تطويرها بسرعة، بل والأكثر صعوبة الاتفاق على جميع المعايير". وأضاف غافريلوف، "أن معاهدة الأجواء المفتوحة هي ثمرة سنوات عديدة من التنمية. إنها وثيقة معقدة لكل من إجراءات التنفيذ ولحل المشكلات الفنية الناشئة أثناء تشغيل الطائرات ومعدات المراقبة".

مسؤولية واشنطن

غير أن الأهم، وبحسب اعتقاد الأوساط الرسمية في روسيا، وخارجها، يظل في ما أعلنته وزارة الخارجية الروسية حول "أن موسكو فعلت كل ما في وسعها للحفاظ على هذه المعاهدة، وأن واشنطن تتحمل المسؤولية كاملة عن انهيارها"، كما انتقدت الوزارة الروسية مواقف الجانب الآخر بإشارتها إلى أن الولايات المتحدة تدعو إلى الشفافية في المجال العسكري "فقط في تلك الحالات التي تتوقع تحقيق بعض المكاسب من خلالها". ولمزيد من الإيضاح أعلن سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية المسؤول عن ملف العلاقات مع الولايات المتحدة، أن بلاده سوف تطلب بعد تسليمها مذكرة الانسحاب من المعاهدة إلى جهة الإيداع بعقد مؤتمر للدول المشاركة، يمكن أن تشرح فيه "مدى الأخطاء التي ارتكبها زملاؤنا الغربيون"، على حد قوله. 

ونقلت وكالة "تاس" عنه ما قاله حول "أن الشركاء الغربيين رأوا في موقفنا شيئاً لم يكن موجوداً فيه، ولا يمكن أن يكون، وبدأوا في التكهن بأننا كنا نحاول تقسيم المجتمع الغربي. لكن هذه هي حجتهم المعتادة، تعويذة مملة: عندما لا يكون هناك وقت، عندما لا يوجد ما يقال في الجوهر، يبدأون في اتهام روسيا إما بالتدخل في شيء ما، أو محاولة الطلاق، أو الانقسام، وما إلى ذلك من أشياء أخرى". وكانت صحيفة "آر بي كا" الروسية قد نشرت بعض الملاحظات التي استندت إليها الولايات المتحدة في تبريراتها لموقفها من الخروج من المعاهدة. وقالت: "إن الولايات كانت أعربت عن استيائها من القيود المفروضة على الرحلات الجوية فوق الشيشان، وكذلك القيود المفروضة على الرحلات الجوية في منطقة كالينينغراد". وفيما نقلت الصحيفة الروسية ما طرحه الجانب الروسي من تصريحات فندت فيها هذه الاتهامات، أشارت في الوقت نفسه إلى أن هذه "القيود الروسية" كانت رداً على إجراءات مماثلة سبق واتخذتها الولايات المتحدة، ومنها "رفض الجانب الأميركي لمطالبات مضادة لواشنطن تتعلق، من بين أمور أخرى، برحلات جوية فوق جزر هاواي. قال وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، إن روسيا تستخدم البيانات التي تم الحصول عليها بموجب معاهدة الأجواء المفتوحة لتوجيه أسلحتها نحو البنية التحتية للولايات المتحدة وأعضاء (الناتو) في القارة الأوروبية". ومن جانبها، أعلنت مصادر الكرملين أن الولايات المتحدة سبق وأعلنت عن تراجعها عن العديد من الاتفاقيات التي تربط بين البلدين في مجالات نزع التسلح والاستقرار الاستراتيجي. وأشارت إلى أن الولايات المتحدة سبق وأعلنت انسحابها من معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، بحجة أن موسكو تواصل تطوير أسلحة محظورة. ونفت روسيا الاتهامات، لكنها أعلنت أيضاً انسحابها من المعاهدة. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا، يصل البلدان إلى نهاية مرحلة جديدة من مراحل التصعيد والإيغال في العداء والخصومة التي تستمد بداياتها من اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014، وما أعقبها من عقوبات تتزايد حدتها يوماً بعد يوم. أما عما يمكن أن يكون عليه العالم من دون مشاركة روسيا والولايات المتحدة في معاهدة السماوات المفتوحة، فهو ما يعكف الخبراء والمراقبون على دراسته من منظور أن المعاهدة صارت تفقد معنى وجودها إلى حد كبير. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "كوميرسانت" الروسية تقول: "إن المعاهدة من دون المشاركة الروسية والأميركية ستنخفض مساحة تطبيقها بنحو 80 في المئة. وهكذا، أصبحت إحدى أدوات الحد من الأسلحة التقليدية القليلة المتبقية شيئاً من الماضي". ونقلت الصحيفة عن وزارة الخارجية الروسية ما قالته حول أن موسكو على يقين من أن قرار واشنطن العام الماضي حول الانسحاب من المعاهدة حدد مصير هذه المعاهدة سلفاً، بما يعني أن "المسؤولية الكاملة عن تدهور نظام المعاهدة تقع على عاتق الولايات المتحدة الأميركية البادئة بالخروج من المعاهدة". 

أداة لتعزيز الثقة والأمن

وفيما أعربت الخارجية الروسية عن أسفها تجاه الانسحاب من المعاهدة، أشارت "إلى أن عقوداً طويلة من التنفيذ المثمر لمعاهدة الفضاء الخارجي أكدت أنها كانت خير أداة لتعزيز الثقة والأمن، وخلقت فرصاً إضافية لتقييم موضوعي وغير متحيز للإمكانات العسكرية والأنشطة العسكرية للدول المشاركة". وأضافت أن المعاهدة "وقعت ضحية الصراع الداخلي لمجموعات النفوذ المختلفة في الولايات المتحدة"، في إشارة إلى من وصفتهم بالصقور في الأنساق العليا للسلطة والإدارة في الولايات المتحدة الأميركية. وأشارت الخارجية الروسية في بيانها إلى جنوح واشنطن نحو تبني سياسات تدمير الاتفاقات التي تم التوصل إليها سابقاً في مجال الحد من التسلح، وقالت، "إن الرئيس الأميركي جو بايدن وصف خلال الحملة الانتخابية قرار سلفه دونالد ترمب بالانسحاب من المعاهدة بأنه خطأ، وأوضح خلال محادثته الهاتفية الأولى مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد تنصيبه، أن واشنطن يمكن أن تعود إلى المعاهدة، لكنه أشار إلى أن اتخاذ القرار المناسب سيستغرق وقتاً". وأعادت وزارة الخارجية الروسية إلى الأذهان "أن موسكو عرضت خيارات مختلفة لحل مشكلتين مهمتين بشكل أساسي بالنسبة لها، وهما "عدم نقل المعلومات الواردة أثناء الرحلات الجوية إلى الدول غير الأعضاء في معاهدة الفضاء الخارجي، وضمان تنفيذ حقها في إجراء مثل هذه الرحلات فوق المنشآت العسكرية الأميركية، في أوروبا"، وهما ما لم تجرِ مراعاتهما حتى تاريخ اعلان موسكو عن قرارها بشأن الخروج من المعاهدة. 

وحول مستقبل الأوضاع في أعقاب انسحاب كل من الولايات المتحدة وروسيا من المعاهدة تنقسم الآراء وتتباين التقديرات، ومنها ما قاله إيليا كرامنيك، الباحث في جامعة العلاقات الدولية الذي قال، إن "الشروط المسبقة أسهمت في تطوير العلاقات فيما يتعلق بالحد من التسلح في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، وبين روسيا وحلف شمال الأطلسي ككل". أما عن احتمالات أن تكون الأقمار الصناعية بديلاً للمعاهدة، فقال كرامنيك إن أنظمة الأقمار الصناعية يمكن أن تفعل الكثير، ولكن ليس كل شيء، إذ إن قدراتها لا تزال محدودة، بخاصة بالنسبة للدول الأوروبية الأعضاء في "الناتو"، التي لا تمتلك الغالبية العظمى منها أقمار استطلاع صناعية خاصة بها من حيث المبدأ، وقائمة الانتظار لتلقي المعلومات من كبار الرفاق موجودة بالفعل، لكنها طويلة". وأضاف كرامنيك "أن هذا مهم أيضاً بالنسبة لروسيا، التي لا تملك الأموال الكافية للحفاظ على كوكبة مدارية ذات أبعاد أميركية". وخلص الباحث الروسي إلى القول إن المعاهدة كانت بشكل عام أداة عملية للتحكم التشغيلي، وإن إنهاءها، على الرغم من أنه لن يسبب ضرراً مباشراً، سيكون له "تأثير سام طويل الأجل". 

مفيدة للجانبين

وأضاف، "أن تدابير بناء الثقة الجديدة غائبة من حيث المبدأ، وسيتطلب الأمر وقتاً طويلاً للعمل عليها". وفي هذا الصدد أيضاً نقلت صحيفة "كوميرسانت" عن ألكسندر جريف، الباحث في معهد دراسة السلام والأمن بجامعة هامبورغ (IFSH)، ما قاله حول إن المعاهدة كانت مفيدة جداً لكل من روسيا والولايات المتحدة. وأعاد جريف إلى الأذهان ما يجرى على صعيد الأزمة الأوكرانية، ومنها ما يتعلق باتهامات الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو لروسيا بتكثيف نشاطها وحشد قواتها العسكرية على الحدود الأوكرانية. وقال إن السلطات الروسية لا تخفي حقيقة تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، لكنها تتهم الغرب بالمبالغة عمداً في تقدير حشود القوات المسلحة الروسية والمعدات بالقرب من الحدود مع أوكرانيا. وأشار أيضاً إلى أنه "وبمساعدة رحلات المراقبة في إطار عمل المعاهدة، يمكن توضيح هذه المسألة. لقد تم ذلك بالفعل في الماضي. من مارس إلى مايو 2014". 

وأضاف أن "الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قامت بعدة رحلات جوية فوق روسيا لمراقبة المنطقة الحدودية. وكان على روسيا الموافقة على هذه الرحلات بموجب التزامها بهذه المعاهدة. وكان من الممكن في مثل هذه الحالات، توفير أكبر قدر من التعاون والمعلومات بما يمكن معه الحد من التوتر وتوضيح الموقف". 

وأعرب المتخصص الألماني عن أمله في "أن تواصل بقية البلدان الأعضاء في المعاهدة الالتزام بالمعاهدة وتحديثها (من خلال إدخال الكاميرات الرقمية وأنواع جديدة من أجهزة الاستشعار) ومناقشة أشكال إضافية لاستخدام هذه الأداة، على سبيل المثال، لتقديم المساعدة عبر الحدود في حالة الكوارث الطبيعية والرصد البيئي". وقال إنه "يمكن للدول أيضاً استكشاف إمكانية توسيع النظام ليشمل مناطق أخرى، مثل القطب الشمالي. وعندما يحدث هذا، قد تكون روسيا والولايات المتحدة مهتمة مرة أخرى بالمشاركة في المراقبة الجوية المشتركة"، على حد اعتقاده.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير