كشفت المصادر الروسية الرسمية عن قرار موسكو حول بدء رحلة الخروج من معاهدة "السماوات المفتوحة"، رداً على قرار مماثل سبق واتخذته الولايات المتحدة. وكانت روسيا وأميركا قد وقّعتا في 1992 هذه المعاهدة، التي دخلت حيز التنفيذ اعتباراً من عام 2002، لتنظيم عملية الرقابة وجمع المعلومات، لتعزيز الثقة والشفافية العسكرية من خلال حركة الطيران غير الحربي، وتحليق طائرات الاستطلاع غير المسلحة في أجواء عشرات الدول الأعضاء.
وكان مجلس الدوما سبق وأعلن احتمالات خروج روسيا من هذه المعاهدة، حسبما نقلت وكالة "إنترفاكس" الروسية عن ألكسي تشيبا، نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالمجلس. وكان تشيبا قد كشف عن أن الأوضاع بشأن معاهدة السماوات المفتوحة تشير إلى انحياز بلاده إلى قرار الخروج لأسباب عزاها إلى أن أوروبا لا تستجيب لما تطرحه موسكو من مطالب، في وقت تتراجع فيه الآمال بشأن عودة الولايات المتحدة إلى المعاهدة التي خرجت منها في مايو (أيار) من العام الماضي.
هل تعود الولايات المتحدة؟
أما عن هذه المطالب فتقول مصادر مجلس الدوما، إنها تتلخص في ضرورة عودة الولايات المتحدة عن قرار الانسحاب، وتنظيم الحوار مع البلدان الأوروبية حول تبادل المعلومات. وتستند المصادر الروسية في إجماعها حول المطلب الأخير في عدم جواز البقاء في إطار المعاهدة، مع بلدان تعلم موسكو مدى توطد علاقاتها والتزاماتها مع الولايات المتحدة، ما يعني إمكانية تبادل المعلومات في ما بينها، ومنها ما يمكن أن يتعلق بأمن روسيا. وذلك ما كشف عنه صراحة السناتور فلاديمير جباروف، نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد الذي قال، "إن أميركا تستطيع بعد خروجها من المعاهدة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تسلم المعلومات حول القوات المسلحة الروسية، وما يتعلق بأمن موسكو من شركائها في أوروبا، في الوقت الذي لا تستطيع فيه روسيا ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة".
ومن جانبها أعلنت وزارة الخارجية الروسية، أن خروج الولايات المتحدة من المعاهدة "استناداً إلى أسباب مختلقة"، ينتهك التوازن بين مصالح البلدان الأعضاء بها. وأضافت وزارة الخارجية الروسية في بيانها الصادر بهذا الشأن، أن موسكو طرحت بعد خروج الولايات المتحدة من المعاهدة عدداً من المقترحات الخاصة بالأحكام الرئيسة لها، من أجل "تعزيز قدراتها وبقائها قابلة للحياة"، لكنها لم تلق تأييداً من جانب حلفاء الولايات المتحدة. وأشارت الخارجية الروسية إلى أن واشنطن ظلت على مدى سنوات طوال توجه اتهاماتها إلى موسكو بأنها تمارس "الانتقائية"، في تنفيذها للمعاهدة، وأنها انتهكت بعض أحكامها المتعددة المضامين.
وذلك ما دعا موسكو إلى توجيه ملاحظاتها إلى الولايات المتحدة. وكانت واشنطن قد أقرت في عام 2017 بعض القيود على نشاط رحلات الرقابة، التي تقوم بها الطائرات الروسية فوق أراضي الولايات المتحدة بموجب أحكام معاهدة "السماوات المفتوحة"، وهو ما ردت عليه روسيا بالمثل. وقالت الخارجية الروسية، إن موسكو بدأت إجراءاتها العملية لتنفيذ قرار الخروج.
وتقول المصادر الروسية، إن هذه المعاهدة هي الثالثة لضبط التسلح التي أعلن البيت الأبيض الخروج منها، منذ تولي دونالد ترمب مقاليد منصبه، قبل أن يعود الرئيس المنتخب جو بايدن، ويعلن احتمالات العودة إلى مناقشة ما سبق وأعلنه ترمب حول انسحاب واشنطن من معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى الموقعة بين البلدين في أبريل (نيسان) 2010.
وكان شركاء الولايات المتحدة في الناتو قد أعربوا عن قلقهم تجاه ما أعلنته روسيا، حول بدء إجراءات خروجها من المعاهدة رداً على خروج الولايات المتحدة في نوفمبر الماضي. وكشف بيرس كازاليت، نائب المتحدث الرسمي لحلف الناتو في تصريحات أدلى بها إلى وكالة "ريا نوفوستي" عن أن الحلفاء في الناتو يظلون متمسكين بالحوار مع روسيا حول قضايا الرقابة على التسلح.
وأشار إلى ما أصاب توازن المصالح من جراء خروج الولايات المتحدة من المعاهدة من أضرار، وهو ما ردت عليه الخارجية الروسية بقولها إن شركاء موسكو لم يستجيبوا لما طرحته من اقتراحات تتعلق بالإبقاء على حيوية المعاهدة في ظل الظروف الجديدة. وذلك ما رد عليه كازاليت بقوله إن "كل الحلفاء في الناتو يظلون متمسكين بالرقابة الفعالة على التسلح ونزع السلاح وعدم الانتشار"، وهو ما يعد ضرورياً للحفاظ على أمنهم. وأعرب عن استعداد أعضاء الحلف للحوار مع روسيا في إطار مجلس "روسيا - الناتو" حول "قضايا الشفافية وخفض الأخطار".
أحكام المعاهدة
أما عن أبعاد ومضامين وأحكام هذه المعاهدة، فتقول المصادر الرسمية الروسية إنه جرى توقيعها في هلسنكي عام 1992، وبدأ تنفيذها اعتباراً من عام 2002. ويبلغ عدد أعضائها بعد خروج الولايات المتحدة 34 دولة. وتكفل المعاهدة للبلدان الأعضاء القيام برحلات جوية في سماوات بعضهم، لجمع المعلومات حول القوات المسلحة في هذه البلدان، والتحقق من كل ما يثير القلق في ما تتخذه من إجراءات.
وتُحدد عدد الرحلات التي يمكن القيام بها في أجواء البلدان الأخرى، وحقوقها في مشاطرة الجانب الضيف في ما يمكن أن يحصل عليه من معلومات. وتشترط أحكام المعاهدة عدم وجود أية أسلحة على متن طائرات الرقابة الوافدة، فيما تحدد نوعية وكمية المعدات بموجب ما تنص عليه، ومنها أجهزة التصوير وقدراتها ومدى إمكانية الحصول على مثلها، بما يعني الحيلولة دون انفراد دولة بامتيازات تكون محظورة أو غير ممكنة للتداول من جانب الأعضاء الآخرين، فضلاً عن النص على حق الدولة المضيفة في مراجعة كل هذه المعدات، وحظر ما تراه غير مناسب لهذه المهمة.
كما تنص المعاهدة على حق الدولة المضيفة في مناقشة المسارات المقترحة للرحلات الجوية الوافدة في المواعيد المتفق حولها، إلى جانب وجود ممثليها على متن طائرات الرقابة الأجنبية. وكانت تركيا على سبيل المثال قد رفضت في 2016 السماح لطائرات الرقابة الروسية بالتحليق في أجوائها، نظراً إلى عدم الاتفاق المسبق حول مسار هذه الرحلات الجوية لهذه الطائرات، في نفس الوقت الذي سمحت فيه سلطات الولايات المتحدة بتحليق طائرات الرقابة الروسية فوق البيت الأبيض والمنتجع الرئاسي في كامب ديفيد ونادي الجولف الخاص بالرئيس دونالد ترمب.
"السماوات المفتوحة" بين موسكو وواشنطن
وكان الجانب الروسي قد سارع وأعلن شكاواه و"ادعاءاته" تجاه الجانب الأميركي في نفس يوم خروج الولايات المتحدة، ومنها أن أميركا لم تسمح بهبوط طائرات "آن – 30 ب" الروسية إلا في عدد محدود من المطارات الأميركية، كما فرضت حظراً على توقف الرحلات الجوية ليلاً لحصول أطقم هذه الطائرات على قسط من الراحة وللتزود بالوقود.
كما فرضت السلطات الأميركية حظراً على تحليق الطائرات الروسية فوق أراضي ألاسكا، حيث القاعدة الجوية للمنظومات المضادة للصواريخ، والطيران على مسافات قريبة منخفضة فوق جزر هاواي القاعدة الرئيسة للأسطول البحري الأميركي في المحيط الهادي، إلى جانب ما فرضته من قيود أخرى على مدى علو طائرات الرقابة، التي لم تنص عليها معاهدة "السماوات المفتوحة"، وتتناقض مع توصيات منظمة الطيران المدني الدولي "إيكاو"، فضلاً عن حظر استخدام الطائرات القديمة أو غير الجاهزة تقنياً لتنفيذ مهام الرقابة.
وكانت الرحلات الأميركية والروسية قد شهدت عدداً من الحوادث، منها اشتعال النيران في إحدى طائرات أنطونوف الروسية لدى هبوطها في أحد مطارات تشيكيا في عام 2012، بينما كشفت المصادر عن استخدام الولايات المتحدة طائرات "Stratolifter" التي يعود تاريخ إنتاجها إلى عام 1960.
وكانت "روسيسكايا جازيتا" (الصحيفة الروسية) الحكومية قد نشرت تحقيقاً صحافياً اعترفت فيه باستخدام روسيا للطائرات القديمة في تنفيذ رحلات الرقابة في أجواء البلدان الأوروبية، بينما كانت موسكو أعدت طائرتين حديثتين زودتهما بأحدث معدات الرقابة، لاستخدامهما في أجواء الولايات المتحدة في عام 2019.
أما عن شكاوى وادعاءات الجانب الأميركي، فقد أوجزتها الخارجية الأميركية على موقعها الإلكتروني، وقالت فيها إن سلطات الولايات المتحدة أقدمت من جانبها على حظر رحلاتها للرقابة الجوية في سماء ألاسكا وجزر هاواي، رداً على منع الطيران الأميركي في أجواء المنطقة الحدودية لابخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين أعلنتا عن انفصالهما عن جورجيا من جانب واحد، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعزا مارك بومبيو وزير الخارجية الأميركية هذا الموقف من جانب روسيا إلى رغبتها في تأكيد أن هاتين الجمهوريتين اللتين تحتلهما روسيا "دولتان مستقلتان". كما رفضت موسكو حسب تأكيدات واشنطن توفير مطارات لهبوط طائراتها للتزود بالوقود في شبه جزيرة القرم، التي لا تعترف الولايات المتحدة والغالبية الساحقة من كل بلدان العالم بتبعيتها لروسيا. وقالت الخارجية الأميركية، إن ذلك لم يكن سوى محاولة لتأكيد تبعية القرم لروسيا، "وهو ما لا تعترف به أميركا ولن تعترف أبداً"، حسب البيان الصادر بهذا الشأن.
وعلى الرغم من كل ذلك، تقول المصادر الروسية بوجود من يقف مؤيداً لعودة الولايات المتحدة إلى المعاهدة، ومنهم السناتور الديمقراطي بوب مينينديز، الذي قال إن روسيا هي الأكثر استفادة من خروج الولايات المتحدة. وقال إنها تظل تملك فرصة الرقابة على المنشآت الأميركية في أوروبا في حال بقائها، بينما سوف تفقد الولايات المتحدة فرصة الرقابة على المنشآت الروسية، وهو ما كانت موسكو فندته وردت عليه، كما أشرنا عاليه في هذا التقرير.
مع ذلك فإن الولايات المتحدة كانت الأكثر استفادة، حيث إن الأرقام تقول إنها أجرت خلال الفترة من 2002 وحتى 2016 عدداً من رحلات الرقابة بلغ 196 رحلة رقابية في الأجواء الروسية، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف مثيلاتها الروسية، إلى جانب ما يمكن أن تطلبه من نتائج رحلات رقابية أخرى بلغ عددها ما يزيد على 500 رحلة، موجودة في حوزة شركائها في الناتو، مقابل 71 رحلة رقابية روسية في سماء الولايات المتحدة.
أهمية المعاهدة
ونأتي لسؤال محور ما يحتدم من جدل بين ممثلي الأوساط السياسية والعسكرية، المحلية والعالمية. ماذا بعد؟! تقول المصادر الروسية إن أهمية المعاهدة على الرغم مما حققته من نتائج إيجابية على صعيد الحد والرقابة على التسلح، تراجعت على ضوء ما بلغته الأقمار الصناعية من تقدم تكنولوجي.
لكن هناك من يقول أيضاً، إن الأقمار الصناعية لا تستطيع تعويض أفضلية الرقابة الجوية، بما تملكه طائراتها من إمكانات لتعديل مساراتها وارتفاعات تحليقها صعوداً وهبوطاً، بما يتجاوز العقبات المناخية وتراكمات السحب، التي تعيق تحقيق نتائج أفضل للتصوير الفضائي.
وعلى الرغم من أن موسكو بقرارها حول بدء الخروج من "السماوات المفتوحة"، حسمت الجدل حول احتمالات تسليم شركائها في المعاهدة من أعضاء حلف الناتو، نتائج رحلاتهم الرقابية إلى الولايات المتحدة، فإن هناك في روسيا من كان ولا يزال يعتبر المعاهدة ذات أهمية خاصة، ليس فقط لتحقيق مبادئ الشفافية والرقابة على التسلح، بل وأيضاً من منطلق كونها أداة مهمة لتأكيد مناخ الثقة بين البلدان أعضاء المعاهدة.
لكن، ذلك كان وحتى الأمس القريب حلقة من حلقات منظومة كاملة من معاهدات الحد من التسلح حققت كثيراً على صعيد دعم الاستقرار والأمن العالميين، ومنها معاهدة ستارت الجديدة التي وقعها الرئيسان السابقان الأميركي باراك أوباما والروسي دميتري ميدفيديف عام 2010، وعاد الرئيس المنتهية ولايته، ليعلن رفضه لمد فترة صلاحيتها التي تنتهي في فبراير (شباط) من هذا العام. هذا إلى جانب معاهدة الحد من الأنظمة الصاروخية التي سبق وأعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن الخروج منها عام 2002.
وفي المقابل أعلنت روسيا عام 2015 خروجها من معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في وسط أوروبا، ما يعنى تصفية ما كان يعترضها من عقبات تحول دون نشر أسلحتها على مقربة مباشرة من حدود الناتو في بلدان وسط وشرق أوروبا.
ومن هذا كله يخلص المراقبون إلى أن معاهدة "السماوات المفتوحة" تظل ركناً أساساً من أركان توفير مناخ الثقة بين الأطراف المعنية، الأمر الذي يظل رهن إرادة وقرار الإدارة الأميركية الجديدة المدعوة إلى النظر في الأمرين معاً: العودة سوية مع روسيا إلى هذه المعاهدة، والتفكير في إعادة النظر في قرار مد فترة معاهدة "ستارت الجديدة" لفترة أخرى، وهو ما كان الرئيس جو بايدن وعد بالتفكير فيه، وما قال الرئيس فلاديمير بوتين إنه يبقى على الأمل في أجواء أفضل للعلاقات الروسية الأميركية.