لعل القمة الدوليّةٌ التي التأمت قبل أسبوع وجمعت على شاشة التواصل البُعديّ 110 دول تعتمد الدِّيمقراطية الغربيّة نظاماً سياسيّاً، وتدبيراً اجتماعيّاً، ونهجاً إداريّاً، والتي بادر إليها رئيسُ الولايات المتّحدة جو بايدن كانت غايتها البحث في وضعيّة الدِّيمقراطية العالميّة، ومآلات تطوّرها الذاتيّ، والتحدّيات التي تواجهها. ومن اهداف هذا المؤتمر، استطلاع آراء الأنظمة السياسيّة الدِّيمقراطيّة التي تعاني أشدّ الأزمات إرباكاً في قرائن التحدّيات الطبيعيّة، وتبعات جائحة الفيروس الكورونيّ، واختلال التوازن البيئيّ، واضطراب المسار الاقتصاديّ، واستفحال القوميّات المتصارعة، وتفاقم الأخطار الجيوسياسيّة من كلّ حدب وصوب. أمام الحدث السياسيّ العالميّ هذا، لا بدّ للفلسفة من أن تُسهم إسهامَ التنوير والإرشاد حتّى يدرك زعماءُ العالم الأسباب الثقافيّة العميقة التي ما فتئت تولّد الأزمات الحادّة التي تتكبّدها المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة. ذلك أنّ التفكير الفلسفيّ الهادي يستطيع وحده أن يساعد المسؤول السياسيّ في استجلاء سبُل المعالجة التي تتجاوز مجرّد التدبير السياسيّ التقنيّ وتغوص على معاني القيَم الأساسيّة التي تنهض عليها الأنظومة الثقافيّة الدِّيمقراطيّة. وما من إسهامٍ فلسفيٍّ أشدّ تأثيراً في وعي الإنسان المعاصر من الخلاصات النقديّة والبنائيّة التي أفضت إليها تأمّلاتُ الفيلسوف الألمانيّة-الأميِركيّة هانّا أرِندت.
مسيرة النضال في مقاومة التوتاليتاريا
وُلدت أرِندت في مدينة هانوڤِر الألمانيّة في أسرة يهوديّة عامَ 1906، ودرست الفلسفة في جامعات ماربورغ وفرايبورغ وهايدِلبِرغ، مُستمعةً إلى محاضرات هايدغر (1889-1976) وياسبِرس (1883-1969) الذي نشر لها أطروحة الدكتوراه التي أعدّتها في موضع الحبّ عند القدّيس أوغُسطينُس (354-430). كانت تعشق الحبَّ موضوعاً وخياراً وجوديّاً. طردها النازيّون، فارتحلت إلى فرنسا في عام 1933. وما لبث أن غادرت إلى الولايات المتّحدة الأمِيركيّة عامَ 1941. تأثّرت بموت أبيها المباغت، ولكنّ صديقاتها وأصدقائها كانوا ينعتونها بالعنيدة المقاومة القادرة على مقارعة نوائب الدهر. كانوا أيضاً يمدحون جمالها الأخّاذ، وصوتها العميق، وموهبتها الساحرة التي تخدّر السامع في شبهِ تنويم مغناطيسيّ شفائيّ. تزوّجت واستقرّت في باريس مع زوجها الأوّل غُنتِر شتِرن، وما لبثت أن هاجرت إلى الولايات المتّحدة الأميِركيّة من بعد استفحلت معاداة الساميّة في أُروبّا. تطلّقت منه في عام 1937، واقترنت بعد ثلاث سنوات بهاينريش بلُشِر. حصلت على الجنسيّة الأمِيركيّة في عام 1951، ونشرت في الوقت عينه كتابها الشهير "أصول التوتاليتاريا".
عادت إلى ألمانيا في عام 1949 توثّق نكبة اليهود في أروبّا. بعد وفاة زوجها الثاني عامَ 1970، أحسّت أنّ العالم فرغ من مضمونه وسقط في الخواء المعنويّ. ظلّت تتردّد على هايدغر، حبيبها الأوّل، في فرايبورغ، ولكنّها شعرت بالإنهاك والشيخوخة المبكِّرة. على الرغم من سوداويّة السنوات الأخيرة، عقدت العزم على إنشاء كتابٍ جديدٍ عنونته "حياة الروح"، ما استطاعت أن تنهي إلّا الفصلَين الأوَّلَين منه، إذ وافتها المنيّة في سنّ التاسعة والستّين. نذرت نفسَها لمؤازرة الحرّيّة الإنسانيّة والتعدّديّة الحضاريّة، والتزمت صونَ ذاكرة الشعب اليهوديّ في الوقائع والوثائق التاريخيّة الأساسيّة. أثناء مسيرتها الأكادِيميّة، علّمت في جامعات بِركلي وبرنستون وشيكاغو وفي معهد الأبحاث الجديد بنيويورك.
تسفيه الشرّ وابتذاله واقعاً تافهاً
في الستّينيّات من القرن المنصرم، احتدم النقاش في قضيّة محاكمة أدولف أيشمان (Adolf Eichmann) في إسرائيل، من بعد أن عثرت عليه الاستخباراتُ الإسرائيليّة في الأرجنتين وهرّبته إلى إسرائيل لتنفّذ فيه حكم الإعدام بالشنق العلنيّ. فنهضت تتحرّى عن الحدث، وتنشر المقالة النقديّة تلو الأخرى في جريدة النيويورك التي شرّعت لها سبيل المواكبة الصحافيّة. ولكنّها عادت فجمعت مقالاتها في كتابٍ أصدرته في عام 1963 عنوانه "تقريرٌ في تفاهة الشرّ". أثار الكتابُ ضجّةً عارمةً في الأوساط الفكريّة، فنعتها المتعصّبون اليهود بمعاداة الساميّة وهدّدوها بالقتل.
أمّا اعتقادها الأرسخ، فكان يُملي عليها أنّ أيشمان، الجلّاد النازيّ الذي تجنّب محاكمات نُرِنبِرغ وفرَّ إلى الأرجنتين باسم مستعار (ريكاردو كلِمِنت)، كائنٌ فقيرُ الوجدان تافهُ القوام، يبرهن وجودُه العاديُّ على أنّ الشرّ يمكن أن يتحوّل إلى واقع عاديّ طبيعيّ مألوف تافه مبتذل لا يكترث به الناس. لذلك كانت أرِندت تنظر إلى جريمة أيشمان في سياق أرحب، فتضع الحدثَ في إطار المؤسّسة التي فيها نشأ ومنها تعلَّم كيف يمتهن فعلَ الخضوع لإرادة الرؤساء. وعليه، فإنّ أيشمان لم يكن، في رأيها، مجرماً طوعيّاً، أو مريضاً نفسيّاً، أو معادياً الساميّة. جلُّ الأمر أنّه كان ضحيّة الأنظومة الإيديولوجيّة السائدة التي تستنبت أفظعَ نماذج الإجرام اللاطوعيّ. دليلُها على ذلك أنّه في أثناء المحاكمات الإسرائيليّة لم يشعر بالذنب أو بالتوبة أو بالحقد أو بالغضب، بل اكتفى بإظهار اقتناعه الإداريّ البحت الذي كان يملي عليه أثناء خدمته النازيّة أن يخضع لأوامر رؤسائه في نقل الضحايا اليهود إلى معسكرات الموت. فإذا بالشرّ المستفظع يضحي واقعةً تاريخيّةً تافهةً!
السياسة نشاطُ الحفاظ على التعدّديّة الإنسانيّة
يعتقد العارفون أنّ أجمل إرثٍ فكريّ خلّفته أرِندت للأجيال الجديدة وصيّتُها في أخلاقيّات التفكير السليم البنّاء. من غرائب شخصيّتها أنّها تريد الفلسفة شأناً شعبيّاً منغرساً في اختبار الناس اليوميّ، شرطَ أن ينشط التفكيرُ على هامش المألوف والمعتمد والمقبول والمتداول والمتوارد. من هذه الغرائب أيضاً أنّ وجدانها الأنثويّ عشق طرفَي الصراع الأيديولوجيّ آنذاك، عنيتُ بهما الفيلسوف النازيّ الهوى هايدغر، والأستاذ الشيوعيّ المناضل هاينريش بلُوشِر الذي اقترنت به في زواجها الثاني. معنى ذلك أنّها كانت امرأةً شديدةَ الحرص على أنوثتها، قبل أن تعلن مفكِّرةً مثقّفةً تحيا في برج العزلة التأمّليّة. ومن ثمّ، استثارت أنوثتها وجرأتها وطباعها الثوريّة اهتمامَ الناس المعنيّين بمناهضة أنظومات الاستبداد الأيديولوجيّ. جالت وصالت في مواضيع حسّاسة شتّى، أبرزها دحض التوتاليتاريا، وافتضاح الشرّ، ومؤازرة الثورة التغييريّة، والتنديد بالمكر السياسيّ، ومناصرة حقوق المظلومين واللاجئين، وترسيخ العمل السياسيّ الدِّيموقراطيّ التضامنيّ الجماعيّ، وتأييد حقوق المرأة.
كانت تتعامل مع النصوص الفلسفيّة تعاملَها مع كائنات حيّة تحتاج إلى استنشاق هواء الحرّيّة التأويليّة، وتترقّب القارئ الفطن الذي يخرجها من سلاسل التجمّد التفسيريّ. فإذا بها تحيي النصوص من غير أن تخضع لمحنة التضلّع العلميّ الجامد الصارم. من خصائص فكرها أنّها تؤمن بالحرّيّة أفقاً وحيداً للإنسانيّة الراغبة في الفهم السليم والفعل التغييريّ. لذلك تتناول السياسة شأناً فرديّاً يعني كلَّ إنسان، ويستنهض كلَّ فردٍ من أفراد المجتمع. أمّا غاية النشاط السياسيّ، فالاعتناء المشترك بمصير الأرض والعالم والناس: "التعدّديّة ناموسُ الأرض" (هانّا أرِندت، حياة الروح). في جميع كتاباتها، تصّر على الجرأة الفكريّة التي ينبغي أن يتحلّى بها كلُّ إنسان حرّ يروم التفكير المنعتق من العوائق، القادر على الاستنفار والاستفزاز والإرباك. لا يستقيم الفكر ويثُمر إلّا على قدر ما يعارض ويخالف وينتهك ويهدم ويعيد البناء. وهذه كلّها من خصائص الثقافة الدِّيمقراطيّة الأثينيّة المولد، المناصرة حقوق الفرد الحرّ القادر على مناقشة جميع قضايا المعيّة الإنسانيّة في محضرٍ علنيٍّ مباشر.
لا ريب في أنّ فكر أرِندت السياسيّ يتجلّى في أبهى صوَره في المؤلّفات الأربع الأساسيّة التي أنشأتها: "أصول التوتاليتاريا"، "الوضع البشريّ"، "في الثورة"، "حياة الروح". كانت غاية هذه الأبحاث تأهيل الإنسان لمواجهة ضروب الاستبداد التي تخنق التاريخ الإنسانيّ، لا سيّما النازيّة والشيوعيّة الستالينيّة. يصعب على المرء أن يصنّف فكرها السياسيّ، إذ لا ينتمي إلى التيّار المحافظ أو الليبراليّ أو الاشتراكيّ، ولا ينخرط في سياق فكر المتّحدات الجماعيّة الذي نادى به فلاسفة الجماعة من أمثال ألاسداير ماكِنتاير (1929-....)، وتشارلز تايلور (1931-....)، ومايكِل وُلزِر (1935-....)، ومايكِل ساندِل (1953-....). ثمّة مواقف تجعلها تعارض التقليد السياسيّ الليبراليّ، ومنها انتقادُها دِيموقراطية التمثيل الشعبيّ الأكثريّ، وتأييدُها الالتزامَ المدنيَّ المباشر والشورى السياسيّة المفتوحة، وإصرارُها على فصل الأخلاقيّات عن السياسة، ومناصرتها الإرادة الثوريّة.
غير أنّ المواقف كلّها هذه لا تسوّغ لنا أن نضعها في موضع معاداة النظام الليبراليّ، إذ إنّها كانت من أشدّ المدافعين عن شرعة حقوق الإنسان، وحكم القانون الحقّ، وبنية النظام الدستوريّ، وكانت تُصرّ على استدخال حقوق أساسيّة أخرى في الشرعة الكونيّة، ومنها على وجه الخصوص الحقّ في إبداء الرأي الحرّ، والحقّ في الفعل السياسيّ المباشر. فضلاً عن ذلك، كانت تنتقد انتقاداً حادّاً كلَّ أصناف الاجتماع الإنسانيّ المبنيّ على روابط التقليد والأعراف والدِّين والعرق والأرض. لذلك تنتسب في فكرها السياسيّ إلى المذهب الجمهوريّ المدنيّ الذي نادى به أرسطو، واستلهمه الدِّبلوماسيّ والمؤرّخ والمفكّر السياسيّ الإيطاليّ ماكياڤِلّي (1469-1527)، والقاضي والمؤرّخ والفيسلوف السياسيّ الفرنسيّ مونتِسكيو (1689-1755)، ورجل الدولة والقانونيّ والمفكّر السياسيّ الأمِيركيّ توماس جِفرسون (1743-1826)، والمفكّر السياسيّ والمؤرّخ الفرنسيّ ألِكسيس دُتوكڤيل (1805-1859).
الحرّيّة المتجسّدة في عمق الفعل الإنسانيّ
تعتقد أرِندت أنّ الحداثة الغربيّة أفقدت الإنسانَ معنى العالم المحيط أو المكتنِف أو الحاضن. فزال المجالُ العموميُّ الذي كان يتيح لنا أن نتخاطب ونتشاور ونتآزر في تدبير شؤون المدينة الإنسانيّة، وحلَّ محلَّ ذلك كلّه نظامُ العالم الذاتيّ الفرديّ الخصوصيّ التقوقعيّ المبنيّ على المعاينات الوجدانيّة الانغلاقيّة، والمصالح المنفعيّة الاقتصاديّة الشخصيّة. لذلك أتت الحداثة تعلن ولادة زمن الجموع المتراصّة المتراصفة التي لا هويّة لها (mass society) والتي أخرجت الاجتماعيّات من حقل التمييز الشرعيّ الفطن بين الدائرة العامّة والدائرة الخاصّة. وعلاوةً على ذلك، ظهر الإنسان في هذه الحداثة حيواناً كادحاً (animal laborans)، وجُرِّد من مقامه الأصليّ الذي كان يستند إلى مفهوم الكائن الحيّ السياسيّ (zoon politikon) والإنسان الصانع (homo faber). ومن ثمّ، أفضت الحداثة إلى تضخّم البنى الإداريّة البُروقراطيّة، وهيمنة العمل الإنتاجيّ الآليّ المغفّل، وسيادة النخبة الأوليغارشيّة الحاكمة، وتفاقم عمليّات التلاعب الخفيّ بالرأي العامّ. لا عجب، والحال هذه، من أن تنبثق الأنظمة التوتاليتاريّة، كالنازيّة والستالينيّة، من الإسراف في مأسَسة العنف والرعب. فتحوَّل التاريخ الإنسانيّ إلى مسار طبيعيّ خاضع لأحكام المجانسة القهريّة والمطابقة الخانقة التي تزجّ بالإنسان في ظلمات التوحّد والانعزال، عوضاً عن الاعتصام بالتاريخ مصنعاً للأفعال الخلّاقة والأحداث التطوّريّة التي تعزّز قيَم الحرّيّة والتعدّديّة، وترسّخ مثُل التضامن في ابتكار أصنافٍ جديدة من المعايشة المبدعة.
في هذا السياق، تستصفي أرندت ثلاثة مفاهيم في الحياة الإنسانيّة الفاعلة: الكدح (labor)، والعمل (work)، والنشاط (action). فالكدح هو الفعل الذي يربط الإنسان بوضع الحياة البشريّ، والعمل الفعلُ الذي يربطه بوضع العالم الذي يكتنفه، والنشاط الفعلُ الذي يربطه بوضع المعيّة الإنسانيّة التعدّديّة. لذلك آثرت النشاط "الذي يجري مباشرةً بين الناس من غير وساطة الأشياء أو المادّة، ويناسب وضع التعدّديّة البشريّ [...] التي هي، على وجهٍ خاصّ، شرطُ كلِّ حياة سياسيّة" (أرِندت، "الوضع البشريّ"). لكلّ فعلٍ مقامُه المستقلّ ومعاييرُه الخاصّة. فالكدح يستقيم على مقياس أهليّته لصون الحياة الإنسانيّة وتلبية حاجاتنا البيولوجيّة في الغذاء والتناسل. والعمل يستقيم على مقياس أهليّته لبناء عالم إنسانيّ يليق بنا، في حين أنّ النشاط يستقيم على مقياس أهليّته للإفصاح عن هويّة الإنسان الفاعل، والكشف عن حقيقة العالم الذي نستوطنه، وتجديد استعدادنا لممارسة الحرّيّة فينا وبيننا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمّا الحرّيّة، فترفض أرِندت أن تتصوّرها وفاقاً للتقليد الليبراليّ الذي يحصرها في الاختيار بين إمكانات شتّى، أو وفاقاً للتقليد المسيحيّ الذي يعاين فيها حرّيّة التمييز في الحكم على الأشياء (liberum arbitrium). ومن ثمّ، تفضّل أن تتصوّر الحرّيّة قدرةً فطريّةً على الابتداء الفذّ والاستهلال المبدع، وطاقةً متدفّقةً من التجديد الابتكاريّ الذي يأتينا بالمستغرَب المحيي المنعش المفرح. ذلك كلّه إنّما نحمله فينا لدى الولادة التي تجسّد أفضل ضروب الابتكار الخلّاق، إذ إنّ النشاط الإبداعيّ يجسّد الحرّيّة أفضل تجسيد، جاعلاً في كلّ ولادة بدايةً جديدة وانبثاقاً فذّاً يُغني العالم بفتوحاته الفريدة.
غير أنّ الحرّيّة تخنفها أنظمة التعسّف الأيديولوجيّة على تراخي العصور. تناولت أرِندت في أبحاثها ظهورَ نظامٍ تعسّفيٍّ جديد لم تألفه العصورة الغابرة من استبدادٍ وطغيانٍ وديكتاتوريا. سمّته الغالبة التوتاليتاريا، أي النظام الشموليّ الذي يجنّد كلَّ طاقات المجتمع في سبيل نشر أيديولوجيا التطرّف القوميّ واستئصال كلّ المعارضات الممكنة. من آفات النظام التوتاليتاريّ هذا أنّه يحوّل المجتمع إلى كتلة متجانسة متراصّة تعزل الأفراد بعضهم عن بعض، وتجرّدهم من كلّ قدرة على النهوض والمقاومة. في أصل التوتاليتاريا خلطٌ خطيرٌ بين المجال العموميّ والمجال الخاصّ، إذ تُفرَض على الإنسان مجموعةٌ من المكابدات الإنتاجيّة تجعله أشبهَ بآلة صناعيّة، وتحرمه من قدرته على الإتيان بأفعال ذاتيّة منبثقة من الحرّيّة الفرديّة. كذلك تتحرّى أرِندت عن أصل التوتاليتاريا في ظاهرة فقدان الروح الأصليّ. ذلك بأنّ الإنسان الإنتاجيّ فقدَ مُستندَ القيَم التقليديّة التي يزخر بها الوعيُ الإنسانيّ والتي تجسّد صورة السلطة المرجعيّة الحقّ في مقابل السلطان السياسيّ المستبدّ المتعجرف الظالم.
لا بدّ، والحال هذه، من إعادة النظر في مآلات الدِّيمقراطية الحديثة التي تقهقرت وانحدرت إلى مستوى التصارع الحزبيّ على السلطة. ومن ثمّ، ينبغي مراجعة مفهوم الدِّموقراطية في سياق أعمال المؤتمر العالميّ هذا، وإعادة بنائه على أصلَين اثنَين: الحرّيّة المبادِرة الفاعلة، والفعل الإنسانيّ الملتزم. ليست الحرّيّة استعداداً داخليّاً انطوائيّاً فرديّاً، بل قدرةٌ على ابتكار المسار التضامنيّ بين مواطني المدينة الإنسانيّة الواحدة، المتساوين في كرامتهم، الحاملين قيَمَ الكرامة الإنسانيّة الأصيلة. أمّا الفعل الملتزم، فيستند إلى تعدّديّة الوقائع التاريخيّة وتعدّديّة الإسهامات الشخصيّة في تجسيد قيَم الإنسان الكونيّة.