قد لا يفوت متفرجي الأفلام الأميركية التي تحقق بجودة تقل أو تزيد خلال العقود الأخيرة من السنين أن يلاحظوا في آخر الصور التي تقدم عناوين الفيلم سطراً يفيد بأن "جورجيا تحب السينما". ولئن كان معظم قارئي هذا السطر يدركون أن جورجيا المعنية هنا هي ولاية جورجيا الأميركية، فإن قلة منهم تعرف أن جورجيا تحب السينما، لأن جيمي كارتر، أحد الرؤساء الأكثر ديمقراطية في التاريخ الأميركي الحديث هو الذي جعل تلك الولاية حين كان حاكمها، تبدي ذلك الحب المعلن للسينما. وأقل منهم أولئك الذين يتذكرون أن الفضل في ذلك كان لفيلم محدد صُوّر في مناطق ضارية وبرية من الولاية وحقق نجاحاً كبيراً.
إنجليزي في أميركا
والمعني هنا هو فيلم "خلاص" الذي حققه المخرج الإنجليزي جون بورمان ليعتبر، كما سوف نرى بعد قليل، واحداً من أفضل الأفلام البيئوية في تاريخ السينما، بل حتى الفيلم الذي سار على خطى فيلم "الطيور" لألفريد هتشكوك في تصويره انتقام الطبيعة من البشر الذين ما انفكوا يعتدون عليها ويدمرونها منذ فجر التاريخ. والحقيقة أننا لئن كنا نشير هنا إلى جيمي كارتر وتحفيزه لولاية جورجيا على الانغماس أكثر وأكثر في الإنتاج السينمائي وتشجيعه، علينا ألا نرى في ذلك اهتماماً من مسؤول أميركي كبير بقضايا البيئة. فهذا الأمر سيكون عليه أن ينتظر ظهور آل غور وخوضه معركة البيئة بقوة وبراعة بعد "خلاص" بأكثر من ثلث قرن، في الحياة العامة كما في السينما. أما في زمن "خلاص" فالمسألة كانت بالنسبة إلى حاكم الولاية مسألة نجاح صناعي وتجاري حققه الفيلم لا أكثر ولا أقل. وكان نجاحاً كبيراً كما نعلم.
من الاحتجاج إلى التجذر الغاضب
وكانت سنوات السبعين وحتى قبل الثورة التي طاولت أخلاقيات السينما الأميركية محدثة تبديلاً أساسياً في هوليوود نفسها، سنوات مباركة على صعيد العلاقة بين السينما والنضال في سبيل القضايا الكبرى، علماً أن السينما التي نعنيها كانت هنا سينما شعبية متقنة الصنع بديعة التصوير، يساهم فيها أميركيون وغير أميركيين حيث شيء من الكوزموبوليتية كان قد بدأ يتغلغل في هوليوود ربما جاعلاً من أميركا ومجتمعها مكسر عصى، وربما مبجلاً الحرية التي تتيحها، وفي كلا الأحوال ينتج إبداعات بقيت خالدة وأحدثت من العدوى ما جذر، وغالباً بأشكال سينمائية مميزة ومفهومة لا يمسها ذلك الملل الذي يحصر جمهورها جاعلاً إياها نوعاً من التبشير بين مؤمنين. وفي هذ السياق يمكن أن نعطي فيلم "خلاص" كنموذج لتلك الجهود الإبداعية التي ستليها بعد سنوات لاحقة سينما أميركية أخرى أكثر تسيساً وجذرية سيحققها من سيُسمون "أصحاب اللحى" حاملين إلى جانب لحاهم أسماء ستشع بشكل مدهش، من كوبولا إلى سكورسيزي ومن سبيلبرغ إلى لوكاس ودي بالما مروراً بميليوس، غير أن هذه السينما الأخيرة ليست موضوعنا هنا.
البيئة أم البشر؟
موضوعنا هو بالتحديد ما قاله وقدم نموذجاً عنه فيلم "خلاص" الذي لا بد من الإشارة من أن بورمان حققه أميركياً خالصاً بقصته وموضوعه وممثليه. بكل ما فيه وصولاً إلى تلك الغابات ومساقط المياه وجنون النهر إلى آخر ما هنالك من عناصر تجعله أقرب ما يكون إلى أفلام رعاة البقر إضافة إلى طابعه المرعب. ومن هنا على رغم أن "خلاص" (1972)، يستبق أو يرهص بسينما الغضب الأميركي فإن الوقت كان أبكر من أن يتسم بذلك التسيّس المطلق الذي سيطبع سينما الغضب تحت تأثير حرب فيتنام وفضائحها كما تحت تأثير فضيحة ووترغيت التي هزت من جذورها تلك الصورة الأخلاقية التي كانت الأيديولوجيا الأميركية قد ابتكرتها لنفسها وعاشت على وهمها مئات السنين. باختصار ينتمي "خلاص" إذاً إلى سينما أميركية جعلت همها إدانة نمط معين من القيم الأميركية نازعة عنها قناعها الوهمي إسوة بأفلام متزامنة له مثل "الفزاعة" و"ماكيب ومسز ميلر" و"جيريميا جونسون" وغيرها.
الأميركي يرفه عن نفسه
يتحدث الفيلم عن رحلة في قاربين نهريين يقوم بها أربعة رجال متنزهين ينتمون إلى الطبقة الوسطى الأميركية المرفهة، على شكل جولة وداع لنهر صاخب يعيش آخر أيامه قبل تغيرات ستقلص من حجم وجوده في ولاية جورجيا. وتبدأ الرحلة بشكل اعتيادي حتى اللحظة التي يكتشف فيها المتنزهون أن ثمة من حولهم أموراً غير عادية يتفاقم حدوثها. أمور يجمع بينها توجهها نحو كل واحد منهم لتدمير شخصيته وتبديل نمط علاقاته مع رفاقه بل حتى مع الطبيعة من حولهم ثم بالتدريج مع القيم التي نشأ عليها. غير أن هذا كله لا يبدو واضحاً أول الأمر حتى يبدأ شيء من الشك يطاول حس المرح والتفاؤل الذي واكب انطلاقة الرحلة... حين يتحول اللقاء مع الطبيعة في حالها الأكثر بدائية إلى نوع من اللقاء مع الشر، ممثلة أولاً في قسوة الطبيعة ولكن بعد ذلك في عدد من لقاءات لم تكن في الحسبان.
كارثتان وكوابيس عدة
هكذا يتحول المسار إلى محطات غريبة وإلى تلك اللقاءات التي غالباً ما تكون غامضة، والتي يتحول كل لقاء منها إلى مسار يقود كل واحد من الرفاق الأربعة إلى جحيمه الخاص. ويصل الأمر إلى ذروته حين تحدث ذات لحظة جريمة واختفاء لواحد من الرفاق سيبقى حتى النهاية ضائعاً بين الموت صدفة والانتحار. هذا من دون أن ننسى لحظة يُغتصب فيها واحد من الرفاق من قبل "وحوش بشرية" يصادفونها في الطريق وذلك في مشهد مرعب سيجمع النقاد لاحقاً على أنه نقطة ضعف في الفيلم لم يكن من لزوم لها فأتت من خارج السياق لتنسف الدلالة العادية للرعب التي ستمثلها الكوابيس التي سيعيشها المتنزهون ولا سيما منهم إد الراوي الذي سيرافقنا حتى إلى ما بعد الأحداث وقد هيمنت عليه "كارثتان" كانتا المصدر الأساس للرعب: اختفاء رفيقه درو الذي يصور لنا بوصفه الأكثر نعومة ورهافة بين المتنزهين الأربعة. وجريمة قتل رجل الغابة بسهم يرميه به رفيق آخر من المتنزهين هو لويس، ولويس يرتكب تلك الجريمة اعتقاداً منه ومن رفاقه أن القتيل الذي يسمونه رجل الغابة كان هو المعتدي عليهم منذ البداية. ولقد ارتكبت جريمة القتل على رغم أن ثمة شكوكاً تحيط بالأمر كله. فهل كان رجل الغابة هو المعتدي الذي يستحق القتل بالفعل أم أن الرجل صياد عادي وجد هناك بالصدفة. والحقيقة أن المسار الأخلاقي الذي يتسبب به هذا السؤال يزداد حدة لدى إد ومن تبقى من رفاقه حين تنتهي رحلتهم ويعودون إلى بلدتهم ليجدوا أن واحداً من أبنائها قد فقد وأن الشرطة تحقق لمعرفة مصيره. وللمتفرج أن يتخيل أمام هذه النهاية المفتوحة حجم الكابوس الجديد الذي سيكون على المتنزهين التعايش معه من الآن وصاعداً وبعدما اعتقدوا أن الكابوس السابق قد انتهى بخسارة درو وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الكابوس إلى الازدهار السياحي
ويتفاقم هذا الكابوس الجديد والذي سيكون دائماً على الأرجح، في اللقطة الأخيرة التي ينتهي إليها الفيلم: ففيما يكون إد، الراوي، مستلقياً ليلاً في سريره بين الحالم واليقظ وهو يحاول أن يستريح أخيراً من عناء ما مر به ورفاقه، يلمح صفحة ماء راكد. هو بالأحرى نهر جمد في مجراه، لتخرج منه يد تنطلق منه في تشكيل مرعب... ما يفتح الفيلم على آفاق جديدة من الواضح أنها لن تكون مسرة لا لإد ولا لأي من رفاقه، ولا للجمهور. كانت مسرة فقط للحاكم جيمي كارتر الذي تمكن من أن يحول الفيلم كله، بالصور الرائعة التي ضمها وبالمغامرات التي راح يعد بها، إلى أقوى دعاية سياحية حيث ما إن عرض الفيلم وحقق نجاحاته الكبرى، حتى تدفق السياح بعشرات الألوف على تلك المنطقة من الولاية فازدهرت الفنادق والمطاعم وكل وسائل الترفيه في منطقة من أميركا كانت تعيش على تاريخها الذي كان على أية حال تاريخاً غير مجيد تغمره الممارسات العنصرية ضد السود، فإذا به يتحول بقدرة ذلك الفيلم إلى حاضر تعلن فيه الولاية أنها "تحب السينما" وتصبح خامس مكان يفضله صناع الأفلام ليحققوا أفلامهم فيه كما ستفيد الإحصاءات الرسمية!