في واحد من أطرف المشاهد بفيلم "هتشكوك" الروائي الذي يدور عن السنوات التي حقق فيها ألفريد هتشكوك فيلمه الأشهر "بسايكو" وأدى دوره أنطوني بيركنز، إذ نرى الأول قلقاً عند مدخل الصالة التي تقدم العرض الأول للفيلم. فهو لا يعرف بعد كيف ستكون ردة فعل الجمهور؟، علماً بأن قلقه هذه المرة مزدوج؛ من ناحية انطلاقاً من تساؤله عما إذا كان النقد سيحطم الفيلم أم يرتفع به إلى الأعالي. ومن ناحية ثانية انطلاقاً من تساؤله عما إذا كان الجمهور سيحب الفيلم، وبالتالي سيتدافع آخرون لمشاهدته، فهذه المرة أنتج فيلمه بنفسه ووضع فيه جنى العمر ورهن من أجله منزله.
وسط ذلك القلق تحل داخل الصالة تلك اللحظة المفصلية حين يدخل القاتل إلى الحمام ليقتل البطلة في ذلك المشهد، الذي لن ينساه أحد بعد ذلك أبداً، ضربات سكين قاتلة تتوزع على أكثر من مئتي لقطة قصيرة كان هتشكوك وضع فيها كل مخيّلته ومهارته السينمائيتين. ظل هتشكوك في الخارج لا يجرؤ على الدخول. وكان الصمت المنبعث من داخل الصالة مرعباً ومدهشاً. مرت الثواني ثقيلة متعبة ومُخرِجنا قلق مرتعب. فجأة، انتقل صوت الرعب من داخل الصالة إلى حيث يقف هتشكوك. وراح صراخ الجمهور يفسر ما الذي يراه على الشاشة بتقطع ولهاث. فَهِم هتشكوك أن رسالة فيلمه وصلت. وأدرك أن لعبته انطلت على الجمهور. ومن فوره راح يتقافز حيث هو واقف، مشيراً بيديه إشارات قائد أوركسترا لا تتبع صيحات المتفرجين بل تستبقها. راح هتشكوك يحدد بأجزاء من الثانية وبتموجات يديه ردود الفعل المرتعبة لدى مئات الجالسين في الداخل. وأدرك أن فيلمه قد نجح. وفي اعتقادنا أن تلك اللحظة بالذات كانت هي التي شهدت نظرية هتشكوك القائلة؛ "أنا أدير الجمهور بأكثر مما أدير الممثلين".
استثارة ذهن المتفرج
بعد سنوات من تلك اللحظة سيشرح هتشكوك تلك النظرية، "إنها إدارة التشويق والتحكم بتلقي الجمهور له. إدارة تعتمد تقنية هدفها استثارة ذهن المتفرج. فلدى المتفرج وضعية خاصة في العادة تحتم قيادته ذهنياً، لكي يتعلم كيف ينزلق بنفسه في مناخ الرعب الذي أرسمه له. التشويق ليس تمريناً ذهنياً بل عملية حسية. هناك كثرٌ في مهنتنا يكتفون بتصوير شخصيات تتحدث ولا شيء غير هذا. أما الصيغ التي أطرحها أنا، فمختلفة؛ عندي هناك مثلا شخصية تحمل لفافة داخلها متفجر. هو يجهل هذا، لكن الجمهور يعرف ذلك. من جهة ثانية يجب أن يكون المخرج الشخص الوحيد الذي يعرف متى ستنفجر القنبلة؟. ثم حين أحدد أنا أنها سوف تنفجر خلال الدقائق الخمس التالية يجب أن يتوقع الجميع انفجارها في تلك اللحظة بالذات. ولكني في الهنيهات الأخيرة أفككها فلا تنفجر وآنئذ يكون وقع المفاجأة الجديدة على الجمهور أكبر".
الحقيقة أن هذا "المبدأ" الإخراجي الذي فسّره هتشكوك بهذه البساطة في مرحلة متأخرة من حياته، كان جمهوره يكتفي بأن يعيشه. أما هو فكان أشد ما يطربه التلاعب بحياة الخوف التي يخلقها لدى الجمهور في نحو خمسين فيلماً حققها بين حقبته الإنجليزية وتلك الأميركية طوال ما يزيد على نصف قرن من الزمن، كان فيها سيداً كبيراً من سادة الفن السينمائي، حتى وإن لم ينل أي واحد من أفلامه جائزة الأوسكار التي سينالها هو على أي حال عن "مجمل حضوره السينمائي وإبداعه" في عام 1978 قبل عامين من رحيله في مثل هذه الأيام من عام 1980.
حين رحل عن عالمنا كان هتشكوك في الثمانين من عمره. وكان قد ولد في بداية القرن العشرين الذي سيعتبر واحداً من كبار مبدعيه، وتقريباً بالتزامن مع ولادة فن السينما الذي سيكون ميدان تحركه وإبداعه.
لكن هتشكوك لم يولد في هوليوود ولا حتى في أميركا رغم ارتباطه بسينماها، بل في لندن لأب كان يبيع الطيور، ولن يكون صدفة أن نجده يحقق بعد عقود فيلماً عن الطيور يبدأ بمحل لبيعها، حتى وإن يكن الفيلم مقتبساً من رواية لدافني دي مورييه. كانت دراسة ألفريد الأولى في كلية الآباء اليسوعيين "سانت – اغناطيوس"، لكنه حين تقدم في دراسته اختار الهندسة التي سنجد ملامحها ماثلة في أفلام عديدة له، ثم التحق بعمل في ترجمة حوارات الأفلام في استديوهات ايسلنغتون، حيث كان لقاء له مع المنتج البريطاني مايكل بالكون بداية ولعه الحقيقي بالسينما. وكنا لا نزال آنذاك أيام السينما الصامتة، وهو ما سينعكس على ولع هتشكوك لاحقاً بالمشاهد الخالية من الحوارات.
المهم، في عام 1923 كان ألفريد لا يزال بالنصف الأول من عشرينياته، مكّنه "بالكون" من تحقيق فيلمه الأول "الرقم 13"، يصوّر فيه بسطاء لندن في وقت عمل مساعداً للمخرج غراهام كاتس، الذي أتاح له أن يمارس مهناً عديدة في الفيلم ما جعله أشبه بمعهد سينمائي حقيقي بالنسبة إليه، حيث أبدى براعة في تنفيذ كل ما كان يعهد به كاتس إليه.
وحين توجه الأخير إلى ألمانيا ليحقق فيلماً جديداً له لحساب استديوهات "أوفا" اصطحبه معه مساعداً ثم مكنه من تحقيق فيلمين بنفسه. غير أن هذا كله لم يكن سوى تمارين بالنسبة إلى السينمائي العصامي الشاب، إذ إنه هو نفسه سوف يعتبر لاحقاً أن فيلمه الحقيقي الأول لم يكن سوى "ابتزاز" الناطق الذي حققه عام 1929 وكرّسه على الفور واحداً من كبار مخرجي سينما التشويق على الطريقة الإنجليزية، وهي الصفة التي سترافقه حتى أيامه الأخيرة بعد نصف قرن وخمسين فيلماً وأكثر من ذلك.
اللمسة الهتشكوكية
هكذا وُلدت، إذاً، "اللمسة الهتشكوكية" على الشاشة الكبيرة، تلك التي سيحدد الفنان نفسه فلسفتها بقوله، "منذ وُجد الإنسان لم يتبدّل الخوف وجوهره. حتى وإن ظهر دائماً بأشكال مختلفة، لكنها أشكال تمتلك في ما بينها العديد من القواسم المشتركة. صحيح أن ليس لديّ في هذا السياق خطة مفهومية اتبعها بحذافيرها، لكنني أنطلق من مبدأ مفاده أن الحياة لا تكون حياة إن لم تكن مليئة بالأخطار. من هذا المبدأ أنطلق في معظم أفلامي التي تسمى أفلاماً هتشكوكية وتصنف في خانة واحدة. ولكن اسمحوا لي هنا، فالواقع أنها تتوزع إلى أنماط عديدة وصيغ مختلفة، فهناك أفلام الرعب الخالص، وأفلام الرعب الرومانسية التي أرى أن فيلم (شكوك) نموذج عليها، وهناك فيلم الرعب الهزلي، ومن علاماته (السيدة تختفي) وفيلم الرعب المخيف كـ(بسايكو)، وأفلام الرعب التي تتمحور من حول بطولة أفراد، مثل (خلف النافذة) و(ظلال الشك)، وكذلك هناك الرعب السيكولوجي مثل (فرتيغو) والأفلام السيكولوجية الخالصة مثل (مارني)".
يضيف هتشكوك هنا أن واحدة من وسائله الخارجة عن التقنية السينمائية المباشرة؛ كالتقطيع واللقطات المكبرة، التي تشتغل معه على "إدارة الجمهور" هي الموسيقى التي غالبا ما يستعملها كمعينة له في الضغط على أعصاب الجمهور في لحظات معينة من الفيلم.
تأثيرات تعبيرية مستوردة من برلين
من البديهي القول إن هتشكوك حمّل العدد الأكبر من تلك المفاهيم والقواعد لسينماه كلها منذ ذلك الفيلم المؤسس الأول "ابتزاز"، الذي ظل حتى النهاية يعتبره القاعدة التي تأسست عليها تلك السينما. بيد أنه لم يتوقف عنده بالطبع. فهو منذ عودته من ألمانيا حرص على أن يستخدم التقنيّات التي اكتسبها خلال عمله هناك ومع مايكل بالكون، خصوصاً من خلال احتكاكه بتلك التعبيرية الألمانية، التي يرى كثير من النقاد أن أفلامه الأولى قد تأثرت بها كثيراً من خلال مشاهدته في برلين أفلامها، لا سيما رصده للعبة الضوء والظل فيها، حتى وإن كان من الصعب القول إنه تمكن عند ذلك من مضاهاتها فكرياً أو حتى جمالياً. لكن ما لا بد من ملاحظته هو أن الفيلمين الأولين اللذين حققهما خلال تلك المرحلة "اللندنية" ("الدرجات الـ39" في طبعته الأولى ثم السيدة تختفي") بين 1035 و1938 راقا للجمهور الذي رأى فيهما قدراً كبيراً من التشويق والمرح. ومن هنا بات هتشكوك يعتبر من أنجح سينمائيي تلك المرحلة.
وهنا كما يحدث عادة في مثل هذه الأوضاع، سمع به المنتج سلزنيك في هوليوود، ودعاه إلى عاصمة السينما العالمية كي يجرب حظه هناك بعد النجاح الكبير الذي حققته تجربته الإنجليزية التي شهدت في ظل "الدرجات الـ39"، و"السيدة تختفي" نحو عشرة أفلام متفاوتة الجودة، متعاظمة النجاح. وهكذا لبى هتشكوك دعوة سلزنيك الذي كان قد بلغ القمة مع النجاح الأسطوري الذي حققه فيلمه "ذهب مع الريح". ولسوف تكون تجربة هتشكوك الأولى مع سلزنيك فيلم "ريبيكا" عن رواية معروفة لدافني دي مورييه.
اقتراب من الأدب الروائي
ومنذ ذلك الحين سيزداد اهتمام هتشكوك وهو يتحول بالتدريج إلى سينمائي هوليوودي، باقتباس أفلامه عن كتّاب روائيين معروفين. وعلى هذا النحو نراه يحقق في 1941 "شكوك" عن قصة لفرانسيس آيلز، وفي 1944 فيلم "قارب النجاة" عن قصة لجون شتاينبك، وفي 1947 "قضية باراداين" عن رواية روبرت هيتشنز، قبل وصوله في 1951 إلى باتريشيا هايسميث في فيلم "غريبان في قطار"، وإلى دايفيد لودج في "إمساك حرامي" عام 1955، وتشارلز بينيت في "الرجل الذي كان يعرف أكثر مما يجب" في عام 1956، ثم ماكسويل أندرسون في "الرجل الخطأ" والفرنسيين بوالو – نارسيجاك في تحفتهما "فرتيغو" عام 1958، مع عودة لاحقة إلى دافني دي مورييه في "الطيور" عام 1963 تالية لتحفة "بسايكو" عن رواية روبرت بلوك.
ويمكن للائحة أن تطول حتى ولو لم نضم إليها تلك الأفلام المأخوذة عن مسرحيات؛ "الحبل" مثالاً. غير أن ما يجدر بنا ملاحظته هنا هو أن هتشكوك، وعلى عكس ما كان لنا أن نتوقع، كان نادراً ما يقتبس أفلامه من كتّاب روايات بوليسية معروفين في هذا السياق. كان يفضل الكتاب الراسخين الذين كان العمل البوليسي عابراً في مسارهم المهني، وهو أمر حار النقاد دائماً في تفسيره.
الشقراوات على الطريقة الهتشكوكية
لكن حيرتهم كانت أقل بالنسبة إلى إصراره على الاستعانة دائماً، أو غالباً على أي حال بنساء شقراوات في أفلامه. بل يمكن القول بنجمات تكاد كل منهن تكون نسخة من الأخرى. وحسبنا أن نذكر هنا غريس كيلي وكيم نوفاك، التي تظهر بشخصيتين في "فرتيغو" إحداهما رومانسية طيبة بشعر أشقر، والأخرى شريرة بشعر أسود، وجانيت لي وحتى دوريس داي، ثم إنغريد برغمان ثم تيبي هدرن التي اكتشفها واستعان بها كبديلة عن غريس كيلي، التي كان أعد من أجلها فيلم "مارني"، لكنها رفضت التمثيل فيه إذ كانت قد صارت أميرة لموناكو. وهنا أيضاً يمكن للائحة أن تطول.
ولكن يبقى المهم بعد ذلك هو الأفلام نفسها، تلك التي حققها في أميركا، وقد صار منذ بداية سنوات الأربعين واحداً من كبار مبدعيها، ولكن ليس في السينما فقط، بل لاحقاً على شاشة التلفزة. فلئن كان الهواة يعرفون سينما هتشكوك، على الأقل من خلال تلك الدزينات الثلاث من الأفلام التي صارت ذات شعبية هائلة بالتدريج، فإن الجمهور الأميركي، وغير الأميركي العريض، عرف هتشكوك أيضاً من خلال برامج وحلقات تلفزيونية، أشهرها بالتأكيد "ألفريد هتشكوك يقدم"، عرفت كيف تزرع الرعب حتى داخل البيوت، ويمكن أن نقول اليوم إن معظمها كان الرحم الذي ولدت منه كل السينما والتلفزة التشويقيتين في سينمات العالم كله، خلال الستينيات والسبعينيات. ومع هذا لم يكن هتشكوك ليتردد في القول، إن التلفزة لا تشغل في همّه وحياته سوى مكانة ثانوية "فالكوابح الاقتصادية التي تشتغل فيها تبعاً لها، لا تتيح لك أبداً أن تكون سينمائياً بما فيه الكفاية. صحيح أنني اعتدت أن أحقق أفلامي للشاشة الكبيرة بسرعة، ولكن دائماً ما يحدث للتلفزيون أن يطلب منك أن تعمل بمزيد ومزيد من السرعة. وهكذا تحسّ أحياناً أن عليك أن تنجز حلقة كاملة في يومين. ثم هناك مسألة اختيار الموضوعات. أبداً لم يتح لي التلفزيون أن أختار موضوعاتي بنفسي مع العلم أن هذا الاختيار هو الذي يمكنني في السينما أن أضع تلك اللمسة الهتشكوكية في أي عمل أقوم به".
فن القرن العشرين الوحيد
يعتبر ألفريد هتشكوك، "السينما فناً كاملاً متكاملاً. إنها فن لا مراء في ذلك. بل هي الفن الوحيد الذي ولد في القرن العشرين. والمؤسف أن الأشخاص الذين يعون هذه الحقيقة قليلون جداً. فكثير من الناس يتحدثون عن السينما دون أن يعرفوا ما السينما. أما أنا فأرى السينما في المقام الأول فن التوليف. الفن الذي يقوم عبر عملية التوليف بتحويل ركام متشعب من الصور والأصوات إلى فيلم يخاطب العينين والأذنين، ومن خلالهما بقية الحواس معا".
ولئن كان هتشكوك يتغاضى هنا عن ذكر حسّ المرح الذي نجده لديه مبثوثاً حتى في أكثر لحظات سينماه إثارة للرعب، فلأنه يعتبر هذا من قبيل تحصيل الحاصل. فهو، ومنذ أول أفلامه الأميركية لم يتخل عن ذلك الحس، الذي من المؤكد أنه جاء به معه من عالمه اللندني الذي لم يبارح خيالاته أبداً.
بيد أن اللمسة الهتشكوكية التي تلوح دائماً في لحظات المرح، لا تقتصر على تلك اللحظات. بل تطاول كل شيء في مسيرة الفيلم حين تفرض نفسها، وحتى وإن تقبلها الجمهور بوصفها علامة أساسية في السينما الهتشكوكية أسوة بتلك اللقطات العابرة، التي تمر على الشاشة ولو لثوانٍ قليلة ويظهر فيها هتشكوك نفسه بلحمه وشحمه، أو حتى أسوة بذلك "اللغز" المسمى غافين، الذي حار النقاد في أمره حتى ولو شرحه هتشكوك مرات ومرات بصدد حضوره المبهم في الأفلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقيناً أن من مثل هذه الأشياء "اللمسات" الصغيرة عرف هتشكوك كيف يصنع سينماه، التي عرف النقاد والباحثون كيف يتبعون الجمهور العادي في طريقة تلقيها إلى درجة أن في إمكاننا اليوم أن نضع قائمة بعدد كبير من السينمائيين والنقاد إلى جانب قوائم ليس فقط بأفلام هتشكوك، التي يفضلها كل واحد منهم، بل حتى ببعض التفاصيل المشتركة التي يراها كل واحد في مجموعة معينة من أفلام المعلم الكبير. ومع هذا كله نعيد ونكرر هنا أن ألفريد هتشكوك لم ينل أي أوسكار على أي من أفلامه طوال خمسين سنة من "الخدمة" الهوليوودية!
الرسائل تُرسل بالبريد
والحال أن ما علينا لإدراك فداحة هذا الظلم إلا أن نستعرض في ذهننا تحفاً فنية هتشكوكية استفادت من تقنيات السينما، وعالجت أساليب بالغة التوجّه الفني، دون أن نتوقف هنا عند "المضامين" و"المحتويات" و"الرسائل" الشهيرة التي يطالب بها كثر من النقاد والمؤرخين الفنانين، لكن هتشكوك أعلن دائماً ألا رسائل لديه يبعث بها عبر أفلامه، "فالرسائل تُرسل في البريد" على هذا النحو كان يجيب مبتسماً. ومع هذا أحب هتشكوك وأحب سينماه كثير من الذين اعتادوا أن يطلبوا الرسائل. لم يتغيروا لكنهم أعفوا هذا المبدع مما لا يحبّ أن يفعله. ومع هذا، إذا كان الكاتب السوفياتي زينوفييف قد أعلن مرة عن أنه رغم عدم ندمه على تأخره في مشاهدة أفلام هتشكوك لأنه حتى حين رآها متأخرة لم "يقتنع" بها، فإنه سيظل يحفظ له تعاونه ذات مرة مع "ثورنتون وايلدر، أعظم الكتاب التقدميين في أميركا" في تحويل نص "ظلال الشك" إلى فيلم سينمائيّ، "ذلك الفيلم الذي أتى عبارة عن صورة لمدينة كاليفورنية صغيرة يزعزع سلامها المطمئن مجيء العم تشارلي القاتل الهارب الذي أتاها سعياً وراء لجوء مؤقت عند أقاربه. في هذا الفيلم ولمدة ساعة ونصف الساعة نشاهد هتشكوك آخر، أكثر جدية ولؤماً من المعتاد، فناناً قادراً على التعامل مع النص والأفكار، لا مع التقنية وحسب".
أما المخرج الهندي ساتياجيت راي، الذي لم يكن يخفي أبداً إعجابه الكبير بأفلام من نوع "النافذة الخلفية"، فيقول بصدد هذا المعلم، "غالباً ما تمتلئ أفلام هتشكوك بشخصيات يفترض صاحبها أنها موجودة على أرض الواقع اليومي، لكنها غير موجودة في الحقيقة إلا على مستوى الحاجات التي تفرضها حبكة ميلودرامية همّها الوحيد إيصال التشويق إلى حدوده القصوى".
فهل علينا أن نفترض أن آراء مثل هذه كانت هي ما أخّر وصول هتشكوك وسينماه إلى المراتب العليا في تراتبية سينمائيي القرن العشرين؟ ممكن، ولكن علينا أن نلاحظ هنا مع ذلك أن ما من واحد من الكبار الذين تحدثوا عن هتشكوك وليس فقط بعد رحيله، جعل كلامه حكماً مبرماً، إلا إذا كان كلاماً إيجابياً وذلك على شاكلة المخرج والناقد الفرنسي الطليعي روجيه لينهاردت الذي كان يقول، "إن أفلاما كثيرة من هيتشكوك قد كفت عن إثارة اهتمامنا زمناً طويلاً بعد عروضها الأولى، ومع ذلك ها نحن نهرع لمشاهدة أيّ فيلم قديم له يعرض من جديد لمناسبة أو لغير مناسبة".
ولعل الوقت حان هنا لنذكر أن الفرنسيين خصوصاً والأوروبيين عموماً كانوا دائماً أكثر اهتماماً بهتشكوك وسينماه من غيرهم. ولنتذكر أن أفضل كتابين صدرا عن هتشكوك بين مئات كتب صدرت عنه بلغات عديدة هما فرنسيان، أولهما حوارات باتت تاريخية الآن. جرت بينه وبين فرانسوا تروفو. والثاني كتاب وضعه كلود شابرول شراكة مع إريك رومر. وكان ذلك في ذروة المرحلة التي وُلدت فيها الموجة الجديدة الفرنسية شديدة التطلب، حيث كان غودار نفسه يكتب أعجب مقال نقدي عن فيلم "الرجل الخطأ"، ويشغف علماء السيميولوجيا (كريستيان ميتز والآخرون) بفيلم "شمل بشمال غرب" ليقفوا على تحليله لقطة لقطة، ويدرس عشرات علماء النفس تفاصيل فيلم "بسايكو" و"مارني".
وأين هتشكوك الآن؟
وماذا الآن؟ أين هتشكوك وقد مضى أربعون عاماً على رحيله؟ ماذا عنه بعدما أعادت إليه هوليوود اعتباره في أوسكار شامل عام 1978، بعدما منحته الجنسية عام 1955، وأعادت إليه ملكة المملكة المتحدة البريطانية "إنجليزيته"، لتمنحه لقب سير في الأول من يناير (كانون الثاني) 1980؟
سيكون الجواب هنا عملياً كما أحب ألفريد دائماً للأمور أن تكون؛ في عام 1958، وكان هتشكوك لا يزال في ذروة عطائه الفني ونشاطه الإبداعي المهني، جرى خلال معرض بروكسل نوع من استفتاء شارك فيه عدد كبير من أبرز نقاد السينما ومؤرخوها في العالم محوره سؤالان: من هم أفضل عشرين مخرجاً في تاريخ السينما العالمية؟ وما هي أفضل عشرين فيلماً في ذلك التاريخ؟
يومها نُشرت نتائج ذلك الاستفتاء العالمي الفريد من نوعه، ولم يكن اسم ألفريد هتشكوك بين الأسماء، كما لم يكن أي فيلم له بين الأفلام العشرين الأولى. ربما كان شيء من ذلك موجوداً في بقية اللوائح، لكن الاهتمام كان مركزاً على العشرين الأول في كل من القائمتين.
لاحقاً ومرة كل بضعة سنين تكرر إجراء ذلك النوع من الاستفتاءات، ولكن دائماً لم يكن ثمة وجود لهتشكوك في المقدمة ولا أي حضور لأي فيلم له في لوائح الأفلام. ولكن في عام 2000 وبعد عشرين سنة على رحيل المعلم، جاء استفتاء أجراه دليل "تايم آوت" الإنجليزي الذي يحظى بشعبية واحترام كبيرين كما بقدر كبير من التجديد (جعل "العراب" لفرانسيس فورد كوبولا يحظى بالمكانة الأولى بالنسبة إلى القراء والمتفرجين، قبل "كازابلانكا"، والمكانة الثانية بالنسبة إلى النقاد بعد "المواطن كين")، جاء ليرفع "فرتيغو" هتشكوك من مكانة متأخرة بين العشرين الأفضل في استفتاءات سابقة متنوعة، إلى المكانة الرابعة بالنسبة إلى النقاد والخامسة بالنسبة إلى القراء والمتفرجين.
ومنذ ذلك الحين لن يتوقف هتشكوك عن متابعة خطه الصاعد ليصل بعد سنوات إلى المركز الأول بفيلم "فرتيغو" نفسه في استفتاء مشابه أجرته مجلة "سايت إند صاوند" البريطانية شديدة الصرامة والجدية، ولم تبتعد نتائجه الأخرى كثيراً عن نتائج استفتاء "تايم آوت" آنف الذكر. والحال أن مسيرة ألفريد هتشكوك الصاعدة لن تتوقف منذ ذلك الحين، لا سيما في أوروبا، حيث تطالعنا مجلة "بوزيتيف" السينمائية الشهرية التي تعتبر في فرنسا المنافسة الرئيسة لـ"دفاتر السينما" واعتادت بدورها أن تكون مرجعاً أساساً، في عدد لها صدر قبل شهور قليلة من الآن ويعتبر الأحدث بين هذا النوع من الاستفتاءات، باستفتاء جديد أجرته بمناسبة صدور عددها الحامل الرقم 700، مفاده أن "فرتيغو" لا يزال يشغل المركز الأول بين أفضل الأفلام في تاريخ السينما. بل إن هتشكوك نفسه يشغل المركز نفسه بوصفه أعظم المخرجين قاطبة في تاريخ هذا الفن. ولقد جاءت نتائج "بوزيتيف" على الشكل التالي؛ "فرتيغو" كما قلنا في المركز الأول، يليه "الباحثون" لجون فورد في المركز الثاني، ثم على التوالي، "الفجر" لمورناو، و"باري ليندون" لستانلي كوبريك، و"ليلة الصياد" لتشارلز لوتون، و"قاعدة اللعبة" لجان رينوار، و"الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس" لجون فورد، و"ثمانية ونصف" لفدريكو فلليني، و"النائب سانشو" للياباني كنجي ميزوغوشي، و"الخط الأحمر الرفيع" لتيرينس مالك، و"أضواء المدينة" لشابلن، و"موريال أو زمن العودة" لآلان رينيه، و"برسونا" للسويدي إنغمار برغمان.
أما من ناحية ترتيب المخرجين الأفضل فقد جاء في "بوزيتيف" على الشكل التالي؛ بعد هتشكوك الذي حل في المركز الأول يأتي ستانلي كوبريك في المركز الثاني ثم جون فورد ففلليني فرينوار، ثم تباعاً برغمان وآلان رينيه وأورسون ويلز يتبعهم ماكس أوفولس، وإرنست لوبيتش، ومورناو ثم لوي بونويل وشابلن وتيرنس مالك.
وفي يقيننا أن هذه اللائحة الحديثة تعد الأكثر جدّية حتى اليوم، بالنظر إلى أن الذين بعثوا بإجاباتهم هم عشرات من أبرز النقاد وأساتذة الجامعات والمؤرخين والباحثين في شتى أنحاء العالم، ما يجعل هذا الاختيار يأتي في سياق ذلك الأوسكار المتأخر وإلى جانب لقب "سير"، الذي أسبغته الملكة البريطانية على ابن البلاد الذي نشر الرعب والمرح والفن الإنجليزي في العالم قاطبة، يأتي ليقول لنا إنه حتى لو مات ألفريد هتشكوك حقاً قبل أربعين عاماً من الآن، فإن سينماه لم تمت، بل تكتسب يوماً بعد يوم حياة جديدة.