Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللبنانيون يهجرون اللحوم والأطباق الدسمة

"ليست السلع هي التي ارتفعت أسعارها إنما أصبح المواطن فقيراً في ظل الانهيار المالي"

صدمة كبيرة يعيشها اللبناني عند التدقيق في أسعار السلع (أ ف ب)

أرخت الأزمة الاقتصادية ظلالها على مائدة اللبنانيين، إذ تغيب اللحوم والأجبان عن المطابخ، وأصبحت "زينة للمناسبات". فيما عاد أرباب الأسر إلى تراث الضيعة اللبنانية، بحثاً عن أطباق تقليدية مغذية ومنخفضة الكلفة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عادت الحياة إلى البساتين التي هب إليها الناس لقطاف "السليقة"، وكذلك أكياس القماش لإعداد اللبنة، وتحضير مونة الأسرة من الكشك البلدي.

تثير هذه العادات الحنين لدى كثير من اللبنانيين في بلاد الاغتراب. فهي جزء من الذاكرة الجماعية لأبناء الريف، إلا أنها في الحقيقة، تشكل بالنسبة إلى المقيمين أسلوباً من أساليب البقاء على قيد الحياة، وبالحد الأدنى من التكاليف المادية. ويعيش اللبناني ضائقة غير مسبوقة. فالدولار يسجل ارتفاعات قياسية، إذ تجاوز 28500 ليرة لبنانية، الثلاثاء 14 ديسمبر (كانون الأول) 2021. فيما ارتفعت مستويات البطالة. وبحسب "الدولية للمعلومات"، فإن 50 ألف لبناني تركوا عملهم، ونحو 500 ألف عاطل من العمل. وفي ظل حد أدنى رسمي للأجور 675 ألف ليرة لبنانية (نحو 25 دولاراً)، فإن وجبة "المجدرة" الشعبية تصبح ترفاً بالنسبة إلى الفقراء، لأن كلفتها الشهرية للأسرة تبلغ 1.6 مليون ليرة لبنانية (نحو 60 دولاراً).

الأسعار في ازدياد

يتوقع هاني بحصلي، نقيب مستوردي المواد الغذائية، ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية على الصعيد العالمي في عام 2022. وهذا سينعكس واقعياً على لبنان. فمن ناحية تتأثر المواد المستوردة من الخارج بسعر صرف الدولار في السوق الحرة، ومن ناحية أخرى نشهد ارتفاعاً كبيراً في كلفة الشحن عالمياً التي ازدادت 10 أضعاف، إضافة إلى توقعات بحدوث مرحلة من الكساد العالمي.

يتحدث بحصلي عن صعوبة في تصنيف المواد الغذائية إلى أساسية أو كمالية، لكونها تدخل في صلب العادات الغذائية للأسر والأطفال. ويوضح أن استهلاك الزيوت تراجع بنسبة 50 في المئة.

أما بالنسبة إلى أسعار الحبوب، فهي حافظت على استقرارها بالدولار، ولكن العبء أصبح أكبر بسبب سعر صرف الدولار الذي تجاوز مستوى 28 ألف ليرة لبنانية، فثمن كيلو الفاصوليا ما زال دولارين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العدس والحمص وغيرهما من الحبوب المستوردة من الخارج، مختصراً المشهد الحالي بقوله "ليست السلع هي التي ارتفعت أسعارها، إنما أصبح اللبناني فقيراً، ولم يعد دخله كافياً لتأمين الأساسيات في ظل الانهيار المالي".   

وفي وقت يلفت نقيب المستوردين إلى عدم تأثر السلع الفاخرة، يقول إن هناك "نمطاً حياتياً تغير بالكامل". ولا يقتصر الأمر على نوعية الطعام، فقد تراجعت القدرة على الإدخار أو السفر للاستجمام. ووجه اللبناني مصاريفه نحو "الحفاظ على بقائه" من خلال تأمين الغذاء والتدفئة والنقل والطبابة والتعليم، بعد رفع الدعم عن الأدوية والمحروقات والمواد الغذائية.

العودة إلى الأساليب التقليدية

صدمة كبيرة يعيشها اللبناني عند التدقيق في أسعار السلع على أرفف المتاجر. وتتحول الأسواق إلى باحة للسجالات بين التجار والمستهلكين. فالتاجر يتمسك بحجة ارتفاع الدولار، فيما تصعق الأسعار أرباب الأسر من محدودي الدخل. ويؤكد وليد رب أسرة ثلاثيني وأب لولدين أن "الأسرة استبعدت اللحمة والأجبان من قائمة الطعام لديها، فمن جهة أصبح سعر كيلو اللحم 280 ألف ليرة أي نحو نصف الحد الأدنى للأجور، والفروج المشوي 180 ألفاً، وكيلو الجبن لا يقل عن 110 آلاف ليرة". لذلك، يكتفي بصنع اللبنة لأطفاله منزلياً من خلال وضع اللبن في أكياس قماش، وتركها لساعات عدة حتى تجف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما السيدة باسلة، فتتحدث عن تحول عميق في علاقتها مع المطبخ. فهي بدأت تعلم الطبخات التقليدية التي تعتمد على الحبوب والبقوليات. وتضيف، "تعلمت الرشتا، وهي أكلة لبنانية قديمة من العدس والعجين، إلى جانب الشوربات المتعددة، وكبة البطاطا التي تستغني فيها عن اللحم".

وتشير السيدة، وهي أم لخمسة أولاد، إلى أنها تطبخ أطباقاً تقليدية وتبتكر مما هو متوافر لديها من مواد غذائية تأتيها على شكل إعانات. وتتحدث عن تغيير جذري في مكانة اللحوم، "في السابق كانت السيدة اللبنانية تضع نصف كيلو من اللحم في الطبخة أو في أي نوع من الحشوات، أما الآن فتقسم أوقية اللحمة لتستعملها في طبختين منفصلتين". كذلك الأمر بالنسبة إلى الأطفال الذين باتوا ملزمين بتناول سندويتش الزعتر".

وفي الانتقال نحو المناطق الريفية، عادت ثقافة "الصاج" إلى المنازل. فما كان حتى الأمس القريب "اجتهاداً" من بعض السيدات، بات سائداً في بعض القرى. وتبدأ السيدات باكراً في إعداد العجين، لتنتقل بعدها إلى الإعداد والخبز. ويتفنن في حشي أقراص العجائن بخلطات "السليق" و"الأريشة" و"الحر"... والسكر أحياناً.

العادات الغذائية تغيرت

تأثرت العادات الغذائية للمواطن اللبناني إلى حد كبير، ويؤكد الشيف أنطوان الحاج (مقدم برنامج طبخ شهير) أن "المأكولات الدسمة والحلويات أصبحت بعيدة عن متناول اللبناني، حتى الأغنياء بسبب عدم توافر السلع التي تدخل في تكوينها". لذلك، فإننا أمام محطة انتقالية، ففي السابق "كانت الطبقات الوسطى والفقيرة تعيش الرفاهية، أما الآن فلم يعد المدير الذي يتقاضى 3 ملايين ليرة (نحو 110 دولارات)، لم يعد بإمكانه أكل اللحوم، ويدفع أجر المولد". هذا الواقع المستجد، نقل اللبناني من مرحلة الرفاهية إلى التقشف. ويستشهد بتجربته الخاصة إذ يعد أطباقاً مكونة بالكامل من الحبوب والحشوات التي تعتمد بصورة ثانوية على اللحوم والدجاج.

ويعدد الشيف أنطوان قائمة الأطعمة التي شطبها اللبناني من عاداته الغذائية، فهو استغنى عن الأجبان الفاخرة والبزورات والمكسرات والفاكهة الزيتية. ويعطي مثالاً إعداد أحد الأطباق الفاخرة مثل ديك الحبش الذي تبلغ كلفته 100 دولار، ذلك أن ثمن كيلو الكستناء 150 ألف ليرة (نحو 6 دولارات)، والقلوبات 250 ألف ليرة لبنانية (نحو 9 دولارات)، والحبشة النيئة مليون و200 ألف ليرة (نحو 40 دولاراً). من هنا، لم يعد على الأسرة وضع الحبش على طاولة العيد الذي تجاوز كلفته المعاش التقاعدي للموظف، واستبداله بأطباق بسيطة، ناهيك عن استبعاد الحلويات الفاخزة التي يتم حشوها بالفستق واللوز والصنوبر.

ينطلق الشيف أنطوان من خبرته، لتكييف بعض الأطباق مع الواقع الجديد، والاعتماد على الحبوب والبقول والخضروات اللذيذة والمغذية، والاستغناء عن أساليب الزخرفة.

ويلفت إلى أنه على الرغم من مساوئ الأزمة وتراجع مستوى الرفاهية، فإن تراجع استهلاك الزبدة واللحوم والحلويات، سيؤدي إلى انخفاض الوفيات بأمراض القلب والجلطات.

في مقابل غلاء اللحوم على اختلاف أنواعها، ازدهرت المحال التي تحضر أطباق الفول والحمص. لاحظ أحمد الحجار (صاحب محل للفول والحمص، تأسس في طرابلس منذ 60 عاماً) إقبالاً متزايداً على الأطباق الشعبية لأنها حافظت على جودتها وطعمها، وما زالت في متناول الناس. فسعر علبة الحمص أو الفول 25 ألف ليرة لبنانية، وتكفي لإطعام أسرة مؤلفة من 5 أشخاص، فيما تبلغ كلفة اللحم 10 أضعاف. ويمكن صنعها بطعمات مختلفة. ويشير إلى أنه في المرحلة الماضية، تراجع الإقبال على هذه السلع، لمصلحة الوجبات السريعة التي انتشرت محالها في كل زاوية وحي. ويلفت إلى أن هناك صعوبة كبيرة في الحفاظ على الأسعار في ظل ارتفاع أسعار المواد الأولية، إلا أنه يجزم بنية الاستمرار في تقديم طبق لذيذ ومنخفض الكلفة.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي